رحيل جان شمعون: سينما الذاكرة والحكايات الفردية

نديم جرجوره 11 أغسطس 2017
سينما
جان شمعون ومي المصري

 

يصعب اختزال سيرة المخرج اللبناني جان شمعون (1944 ـ 2017) بحالة أو انفعال أو موقف، وإنْ تُظلِّل هذا كلّه قدرته الثقافية والفنية على جعل الكاميرا الوثائقية عنواناً للعيش في هذه البقاع العربية، وأداة لمقاومة تحدّياتها الجمّة، المنبثقة من مسألتين، تُشكّلان الهمّ الثقافي الإنساني الأساسيّ له: الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (وتداعياته ونتائجه وآثاره في لبنان وعليه)، والغليان الاجتماعي ـ الحياتي داخل لبنان.

وإذْ ترتبط المسألة الثانية بتلك الأولى، لشدّة التداخل المتنوّع بين السؤال الفلسطيني والاجتماع اللبناني؛ إلاّ أن كاميرا جان شمعون، قبل تعاونه الوثيق مع الفلسطينية مي المصري (شريكته في الحياة والسينما) وأثنائه، تتمكّن، مراراً، من تفكيك بعض معالم الخراب والوهن والعفن في البيئة اللبنانية، كحيّز مكانيّ وإنسانيّ، أو كامتدادٍ للعلاقة الملتبسة لهذه البيئة بالحضور الفلسطيني فيها. فانشغال جان شمعون بأحوال بيروت ومحيطها، يتكامل وانشغاله بأحوال فلسطين، المتمثِّل بمقاربة مخيّمات الفلسطينيين في لبنان، أو بالذهاب ـ عبر مي المصري ـ إلى فلسطين نفسها، كي يؤرّخا معاً الألم والأمل الفلسطينيين، وكي يُعانِد في مقارعته ـ الثقافية والفنية والجمالية والإنسانية ـ التخبّط اللبناني (العربيّ) في كيفية التعامل مع الفلسطينيين، وأحوال اللبنانيين، في وقتٍ واحد.

 

ملامح وسمات

أما صعوبة اختزال سيرة جان شمعون ـ غداة رحيله في 9 أغسطس/ آب 2017، بعد أعوامٍ من إصابته بمرض "ألزهايمر" ـ فمتأتية من تعدّد السمات التي يتمتّع بها الرجل والمخرج والإنسان، مع أن الصعوبة، هنا، تحضر في التفرقة بين هذه الثلاثية في شخصه وشخصيته وسلوكه ووعيه وكيفية تواصله مع الآخرين. البساطة والطيبة والضحكة والابتسامات الكثيرة وشبه الدائمة، لن تكون مجرّد تفاصيل هامشية، بقدر ما تُشارك، فعلياً، في صُنع شخصيته المحبَّبة. وهي شخصية ستبقى مُحبَّبة، حتّى عندما يستبدّ به غضبٌ من تعليق نقدي غير متوافق ورغباته أو هواجسه، إذْ ينتبه المغضوبُ عليه، سريعاً، أن غضبَ جان شمعون أطيب من أن يؤدّي إلى خلافٍ أو انفصال، وأن انفعاله السلبيّ أخفّ من أن يدوم، فلا يتحوّل إلى حاجزٍ، لن يتردّد جان شمعون نفسه في إزالته، عندما يشعر بحضوره في أي علاقة تربطه بمن يعتبره قريباً منه. والقريبون منه كثيرون، إذْ لن يكون سهلاً لقاء من يُكِنّ عداءً له، أو بمن يبتعد جان شمعون عنه كثيراً، فيُخرجه من حياته كلّياً.

سيُقال إنَّ الكلام مُبالَغٌ به، إذْ يستحيل على المرء أن يكون شفّافاً إلى درجة مُذهلة كهذه. جان شمعون غير مختلف عن كثيرين. فالرجل، كما السينمائيّ، مليء بمشاعر وانفعالات، وهذه تؤرجح صاحبها بين الإيجابي والسلبيّ، مع أن تجربة العلاقة به تؤكّد طغيان الإيجابي على السلبيّ، مراراً.

 ففي صداقاته، يجعل العلاقة وطيدة ببساطته وطيبته اللتين تُلغيان كلّ حدود، واللتين لن تمنعا أحداً ـ في الوقت نفسه ـ من قولٍ، أو من تمسّك بقولٍ أو موقف يختلفان عن قوله وموقفه. وفي مهنته، يُزيد غضبُه، أحياناً، تماسكَ العلاقة، وبلورةَ أفقها، وتمكين حضورها بينه وبين المُخالِف له، شرط عدم تجاوز خطوطٍ يراها جان شمعون، وقريبون كثيرون منه، أنها جوهر الالتزام والعيش: الفرد في فلسطين ولبنان، وحقوقه المتنوّعة. وفي حسّه الإنسانيّ، سيُترجم التزامه فلسطين وقضيتها وناسها وحكاياتها (كما لبنان وناسه ومسائله) بتفعيل علاقة جميلة بينه وبين كلّ من يُطلّ أمام كاميراه، فما يُبنى من لقاءاتٍ أثناء التصوير يتحوّل إلى علاقاتٍ جديدة، ينسجها جان شمعون مع هؤلاء، ويستمرّ في تواصلٍ جميل معهم لاحقاً.

صور من أفلام مشتركة لجان شمعون ومي المصري


والسينما، التي يصنعها منفرداً أو رفقة مي المصري، جزءٌ أساسيّ من يومياته. فهو رافض الفصل بين همومه الثقافية والإنسانية والاجتماعية، ومشاغل سينماه المنبثقة، أصلاً، من همومه تلك. لكنه، في يومياته، يُتقن عيشاً يأخذه ومن معه إلى أجمل اللحظات الممكنة: لكنةٌ زحلاوية لن يتخلّى عنها أبداً، تزداد أناقةً بأسلوبه في استخدامها والنطق بها، وتخرج عن كلّ مألوف ومعتاد عندما تحضر نكتة، أو نميمة، أو تعليقات. وفي المقابل، فهو قاسٍ في دفاعه عن حقوق السينمائيين، مطالباً بأولوية تحصينهم في نقابة أو قوانين عصرية، وفي تأمين ميزانيات إنتاجية لهم، كي يتحرّروا من مفردات العمل الإنتاجيّ مع جهات غربية وعربية؛ لكنه يكتسب هدوءاً مطلقاً في لقاءاتٍ، مهنيّة وغير مهنيّة، تتحوّل إلى رحلةٍ في الذاكرة والراهن، وفي العمل والحياة، وفي القضايا والأفراد، وفي المشاعر والاشتغالات.

 

سينما الناس

دأبه في هذا كلّه أن يمتهن الصدق في علاقاته وانفعالاته وتوتراته وآرائه. يقول إن أكثر المتوجَّب عليه كامنٌ في "نقل آراء الناس الذين يتحمّلون، وحدهم، وزر المشاكل"، مؤكّداً ما يعتبره الأهمّ: "كلّما كنا صادقين في ذلك، كان في وسعنا نقل آراء الناس. فأنا لا أستطيع فبركة فيلمٍ ليس له علاقة بالآخرين". شريكته مي المصريّ تُكمِل موقفه/ موقفها، بقولها إن "الأهمّ دائماً أن نعيش الواقع، لا أن ننطلق من أفكار مسبقة"، مُعتبرةً أن "الواقع يفرض اللغة، ويُحدِّد مناخ الفيلم".

والصدق في سينماه حاضرٌ في عيشه، وهذه ميزة له أيضاً، تُضاف إلى التزامه إنسانية الأفراد، وإن تطغى إيديولوجيا النضال على أفلامه الوثائقية، ومواقفه المختلفة. فهذا نابعٌ من حراكٍ تعرفه بيروت في النصف الأول من سبعينيات القرن الـ 20، المتّسمة أيضاً بكونها المساحة الزمنية الوحيدة التي تشهد ولادة ما سيُعرف لاحقاً باسم "السينما البديلة" في لبنان، المتمرِّدة على أعوام الإنتاج المصري، والاستهلاك التجاريّ، والركاكة الفنية الغالبة في ستينيات القرن نفسه، ووفرة المال الفلسطيني، الذي ينتج أفلاماً وأشرطة معنية بالهمّ النضالي والكفاح المسلّح، أكثر من اهتمامها بالفرد الفلسطيني، وحاجاته وأسئلته ومشاغله. "سينما بديلة" يُراد لها الاقتراب، أكثر فأكثر، من هموم الأفراد، ومن اضطراب اللحظة، ومن تداخل القضايا بالعيش اليومي، ومن غليانٍ يزداد حدّة ـ في بيروت والجنوب اللبناني ـ منذ نكسة "حرب الأيام الستة" (5 ـ 10 يونيو/ حزيران 1967)، والتوقيع على "اتفاق القاهرة" (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969).

هذه السينما ستكون حيّزاً لجان شمعون ـ وسينمائيين لبنانيين عديدين ـ يُتيح للجميع فرصة الانخراط الثقافي ـ الفني العمليّ في مواجهة انفضاض السلطة اللبنانية عن واجباتها تجاه اللبنانيين والفلسطينيين، وفي كشف عفن وفساد وفوضى داخل آليات الحكم اللبناني في الموضوعين اللبناني والفلسطيني، وفي تعرية اجتماعٍ مُصابٍ بأعطاب السياسة والطائفية وازدياد تسلّطِ يمينٍ لبناني يريد هيمنة على مفاصل الحكم اللبنانيّ، ورأسمالية مفتوحة على مزيدٍ من العفن والفساد والفوضى، وليبرالية تتيح لفئات قليلة سطوةً أكبر وأقوى وأعمق وأخطر على الكيان ومصادر عيشه.

هذه محطّة أساسية في التكوّن الثقافي والفكري والإنسانيّ لجان شمعون، العائد من فرنسا إلى مدينة مضطربة وقلقة، حاملاً معه اختبارَ عيشِ بعض ثمار "ثورة الطلاب" في باريس (مايو/ أيار 1968)، ومستفيداً من دراسته الجامعية هناك، كي يُغذّي وعيه المعرفيّ بمزيدٍ من أدوات المواجهة والقول والمُشاكسة، وبحراك سينمائيّ فرنسيّ منبثق من تلك الحالة، سيُعرف باسم "الموجة الجديدة".

وإذْ تبدو أرضية "السينما البديلة" غنيّة بالمعطيات، التي ستجعلها مرايا حالة وحقبة وتبدّلات، فإن استكمال مشروعٍ كهذا، يجمع الثقافة والسياسة بالفكر والاجتماع والحياة اليومية، سيجد مساحات أخرى له، عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 أبريل/ نيسان 1975)، وفي بداياتها (هي المنتهية في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، التي ستُثبِّت يسارية جان شمعون وعلمانيته وحسّه النضالي، عبر اشتغالٍ له في التلفزيون اللبناني، أو بمشاركته زياد الرحباني في "بعدنا طيّبين قول الله" (عمل إذاعي). والتجربتان تغوصان في أحوال الناس ومشاكلهم اليومية في الزراعة والاقتصاد والأحوال الاجتماعية، كما في رغباتهم المعطّلة، وأحلامهم الموؤودة. وهذا سيُترجَم لاحقاً في أفلامه الوثائقية، المشغولة رفقة شريكته مي المصري.

 

همٌّ فردي وبوحٌ ذاتي

أفلامه الوثائقية تبدأ عام 1976، مع "تل الزعتر"، المعنيّ بمخيّم تل الزعتر الفلسطيني، والمتحوّل إلى إحدى المحطات الدموية في الحرب اللبنانية، بوجهها الفلسطيني. منذ تلك اللحظة، يؤكّد جان شمعون خطّه السينمائيّ: إظهار الفرد الفلسطيني في صورته الإنسانية المحضة، داخل مخيّمات تتحوّل إلى صورة مختزلة لبلدٍ مفقودٍ، وتُصبح يوميات العيش فيها مرايا تفضح واقعاً، وتقول شيئاً من بشاعة ما يجري. هذا سيؤدّي لاحقاً إلى أمرين: دفاعٌ عن الحقّ الإنسانيّ لأفراد وشعوبٍ؛ والعمل مع ميّ المصريّ في تحقيق أفلامٍ تستكمل مشروعه السينمائيّ والثقافيّ والفنيّ.

مع ميّ المصريّ، سيُنجز جان شمعون أفلاماً تُشكّل تكثيفاً بصرياً للاهتمامات الإنسانية التي يلتزمها الثنائي. تكثيف يقول شيئاً من همّ فرديّ مفتوح على الجماعة، ويبوح بانفعالٍ ذاتيٍّ معطوفٍ على قسوة الحياة ومرارة التشرّد والقلق والألم. فالوثائقيّ أساسيّ، بالنسبة إليهما، في مقاربة الحكايات، وتأريخها كحالةٍ آنية، أو كفعلٍ تاريخي له امتداداته المختلفة في الزمن (ماضياً وراهناً)، وله حيّزه الجغرافي (لبنان وفلسطين). أما الروائيّ، فلكلّ واحدٍ من الثنائيّ فيه تجربة واحدة: "طيف المدينة" (2000) لشمعون، و"3000 ليلة" (2015) للمصريّ. يقول شمعون عن الروائيّ الوحيد له "إنه العالم اللاواعي للذاكرة التي تمتلكنا. إنه ما يتبقّى في ذواتنا ممن نفتقدهم، فيستمرّ طيفهم جزءاً من كياننا. إنه قصّة السرّ الذي يعيش فينا، وفي الآخرين"؛ مُشيراً إلى أن "الطيف" هو "ظلال التهديد التي يفرضها مغتصبو المدينة، وكوابيس الحرب التي تحطّم أحلامنا المضيئة. فـ "طيف المدينة" يثير في مخيّلتنا صُوَر التدمير الذي ألحقته الحروب بالمدينة"، وهو الطيف نفسه الذي "يحفر في ذاكرة رامي (الشخصية الرئيسية) أحداثاً يعيشها في المدينة، فتعطيه القدرة على الاستمرار من أجل المساهمة في إعادة البناء بالأسلوب الذي يراه".

صور من أفلام مشتركة لجان شمعون ومي المصري


من بيروت وذاكرتها وأهوال حروبها وخرابها، إلى انقلابات الأقدار فيها والتحوّلات الأقسى التي تعيشها منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (14 فبراير/ شباط 2005)؛ ومن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني إلى ما بعد اندحاره عنه (25 مايو/ أيار 2000)؛ ومن لبنان إلى فلسطين المحتلّة، وهموم "الأحرار" كما في "أنشودتهم" ("أنشودة الأحرار" لشمعون، 1978)، ومواجع مقاتلين ومشاركين ومتورطين في حروب لبنان؛ عناوين أساسية تُشكِّل النواة الجوهرية لمسار طويل من الاشتغال، ولأفلامٍ عديدة تؤرِّخ اللحظة والذاكرة والحكايات، وتحمي هواجس الناس وأحلامهم (وإن تكن معطَّلة أو مبتورة) من تلف النسيان؛ عناوين يُمكن اختزالها بسماتٍ ستكون انعكاساً لاشتغالٍ بصريّ، كالذاكرة واللاواعي والمدينة، والحروب وكوابيسها، والمواجهات ونتائجها، وحكايات الأفراد وعوالمهم.

ألا يُمكن القول إن هذه كلّها (وغيرها أيضاً) "ركائز" العمارة السينمائية للثنائي جان شمعون ومي المصري؟ ألا يُمكن العثور عليها، أو على بعضها على الأقلّ، في أفلامٍ لهما تجتهد في الخروج من تقنية السرد الوثائقي التبسيطي، إلى ما هو أرقى، فنياً، من مجرّد التسجيل المباشر لواقع أو حالة أو حكاية أو انفعال أو شخص أو بيئة؟

هذه، باختصار، جوهر حكايتهما، وجوهر حكاية أفلامهما أيضاً.

 

(*) ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"