عن صورة المرأة الدمشقية

فيصل خرتش 9 يونيو 2021
اجتماع
أيمن الدقر
سنسعى في هذه الوقفة لأن نبيّن حقيقة المرأة الدمشقية في المنزل، وفي الشارع، وفي شتى أماكن تواجدها قبل أكثر من قرنين. فكيف كانت صورتها؟ وكيف كانوا يتعاملون معها؟

لاحظ الرحالة الغربيون الذين زاروا دمشق في القرن الثامن عشر أن الدمشقيين تحاشوا ذكر المرأة في مجالسهم، وحتى أمام أصدقائهم، لاعتقادهم بأن ذلك يمسّ شرفهم. وإذا ما صادف وجود امرأة ورجل في مجلس واحد، فنادرًا ما تشارك المرأة في الحديث، وإذا ما تكلم الرجل كان على المرأة أن تصمت احترامًا منها للرجل، وكان ذلك عامًا لدى كافة الطوائف، على حدّ سواء.

عاشت معظم النساء في غاية الاحتشام والهدوء، فكنّ غير متبرجات، وعلى وجوههن المناديل، جميلات الطلعة حسنات الهندام، ويتمتعن برقة اللهجة، وهن على العموم ربات بيوت، ومربيات أولاد، من الطراز الرفيع. وإذا ما اغتربت الدمشقية كوّنت لها جوًّا خاصًا من بنات بلدها، لتعطي البيت الذي تدخله طابعًا خاصًّا بها. واقتصرت حياة المرأة على الاجتماع مع النساء من أهلها وأقاربها، وكانت أجمل الاجتماعات هي التي تعقد في الحمامات، حيث اللهو والغناء وسماع الموسيقى، وفي ما عدا الزيارات والحمامات، لم يكن ثمة أماكن تذهب إليها النساء، فلا مسارح، ولا مقاه، لكن يمكن التنزه في البساتين المجاورة الخاصة بالمدينة. ولم يكن يحق لرجل أن يجالس امرأة إلا إذا كان قريبًا، أو من الذين يحرم عليها الزواج منه، أصلًا، أو رضاعًا، وكانت أعمال المنزل، وتزيين نفسها، والعناية بأولادها، ورياحينها، هي كل ما يهمها داخل جدران المنزل الدمشقي.

نذير نبعه


لجأت الأسر الغنية إلى احتقار مشاعر بناتها، فرفضت من تقدّم من الرجال لخطبة بناتها، مما أدى إلى تزايد عدد العانسات لديها، وكلّفن بتربية أخواتهن وإخوانهن الصغار، وكان الغرض من كل ذلك هو المحافظة على الإرث بيد الأخوة، وفي أحسن الحالات فرض عليهن زواج الأقارب لحفظ الثروة في الأسرة.
وزوّجت الفتيات في سن مبكرة دون البلوغ، ولم تقوَ على إبداء الرأي، مما تسبّب في تزايد حوادث الطلاق في مجتمع مدينة دمشق، أما في ما يتعلق بتعليمها، فكان نادرًا، وفي حدود ضيقة، ولهذا لم تبرز من نساء دمشق في مجال العلم أية امرأة.
كانت الأسرة تستقبل حمل الزوجة بفرح، وإذا لم تحمل بعد زواجها سعت والدتها، أو حماتها، من أجل تحقيق ذلك، فيذهبن إلى الدايات، ويستخدمن المجربات من الأدوية والعقاقير، وينذرن النذور للأولياء والصالحين، ويلجأن إلى المشعوذات والمشعوذين الذين يقومون بكتابة الرقى والتعاويذ والطلاسم والتمائم، ويصفون طريقة استعمالها، كأن تضعها فوق عتبة البيت، أو تذوبها في ماء وتشربها، وتضع الحجاب في عظم عنزة، أو في ضريح مهجور.

ومع ذلك وجدت بعض النساء وقد خرجن للتعليم في الكتاب، من أجل تعليم الأولاد قراءة القرآن الكريم، كما عملت المرأة في دمشق أعمالًا مهمة، فقد عملت في الحمام (الأسطة ـ الغسالة ـ الماشطة ـ النقاشة)، وأيضًا باعت واشترت العقارات والمحال التجارية والمقاهي، ومارست الشراكة التجارية لتكثير أموالها، وعقدت الديون باسمها، فقد ادعى أحد المواطنين، وهو صائغ في الشام، على إحدى النساء، بأن له دينًا عليها مستحق الأداء، وهي ممتنعة عن الدفع، وموجود لها عند أحد الصياغ (جوز أقراط ألماس، وزنار فضة، وجوز سلاسل فضة، وخاتم ألماس)، وقد طالب بالحجز على المجوهرات السابقة، وأعطي القرار بالحجز.
وأسست نساء شركات مع الرجال بغية الربح، ووضعت إحداهن رصيدها في غرفة تجارة دمشق، ووجدنا زوجة أحد القناصل بالشام مارست الأعمال التجارية والصرافة، وذلك بعقد الديون بفوائد من أجل الحصول على الأرباح وتكثير أموالها الخاصة.
وعقدت بعضهن الديون، وحجزت على عقارات مقابل الدين عند عدم تسديد المدين دينه في الوقت المقرر (فقد اشترت إحدى النساء جميع الطاحونة الكائنة في صالحية الشام).
استأجرت إحدى النساء كثيرًا من الأراضي والعقارات في دمشق وريفها، وفي إحدى الوثائق أن امرأتين استأجرتا قهوة خاصة للاستفادة من أرباحها. ومن خلال دراسة الوثائق، نلاحظ أن أكثر النسوة اللاتي مارسن نشاطًا اقتصاديًا كن من بنات الأعيان، ومن معتبري مدينة دمشق. كذلك باعت المرأة، واشترت، من امرأة أخرى، ووقفت في المحكمة، وباشرت قضاياها الخاصة بنفسها.



انتشرت في تلك المرحلة عادة تعدّد الزوجات، وهذه العادة تؤثر على حياة المرأة، وتخلق مشكلات جمَة يصعب السيطرة عليها، إلا أن هناك بعض العائلات كانت تعيش من دون أي خلاف، حسب تصرفات الزوج وعدله بين الجميع. كذلك عرف ريف دمشق تعدّد الزوجات، خاصة لدى أصحاب الدخول المتوسطة، طلبًا لليد العاملة في الأرض، وللذود عن حياض الأسرة، وانصب الاهتمام على صغيرة السن، أو الولود، وخص الرجل كل زوجة بغرفة في بيته، وكانت (الضرات) يتخاطبن بكلمة (أختي)، إلا أن ذلك لم ينفِ نشوء المشادات بينهن، وكان التنافس بين نساء الأسرة أكثر مما لدى رجالها، وشمل ذلك كل النساء في الأسرة، وأجج الإنجاب والجمال وتفضيل الزوج لإحداهن نار الغيرة والتنافس بينهن، وإذا خبا أواره يظل نارًا تحت الرماد، لا يلبث أن يستعر، وتنتقل البغضاء إلى الأبناء، إلا أن سلطة الأب القوية كانت تكبت هذه المشاعر، وتمنعها من الظهور. وكانت العادة لدى الأسر الغنية في دمشق أن تبقي خلافاتها العائلية ضمن البيوت، وألا تتجاوز الحدود إلى الخارج، ومن جهة أخرى اهتم مجتمع دمشق بتخصيب المرأة وإنجابها للأولاد، فإذا ما كانت عاقرًا تهمل، وغالبًا ما تطلق، وخير دعاء للعازب أن يظفر بعروس صالحة، وللعازبة بزواج أخوتها.

تأثر طلاق المرأة الدمشقية بعوامل عدة، كان أبرزها: العامل المادي. فبالإضافة إلى العقم، وغياب الزوج في أماكن مجهولة لمدة طويلة، وغالبًا ما كانت تحصل بعض الحوادث المؤسفة، كأن يعود الزوج بعد غياب طويل، فيجد زوجته متزوجة بغيره.
استمر دور المرأة الدمشقية في العناية بـأسرتها والحفاظ على دورها الذي فطرت عليه، وقد شهدت تلك الفترة بداية ظهور أفكار تحرر المرأة التي كانت جزءًا من أفكار النهوض التحرري المجتمعي، وكانت تطرح بشكل جدّي بين المتنورين من المفكرين، أمثال فتح الله مراش، وحبيب حداد، وعبد الرحمن الكواكبي، وأحمد فارس الشدياق. كما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، الملامح الأولى لولادة الحركة النسائية، حيث أسست جوليا الحوراني أول جمعية نسائية. وهكذا رفعت هذه التحولات من مكانة المرأة التي كانت جزءًا من نهوض المجتمع الشامل.


مراجع:
ـ كاظم الداغستاني، حكاية البيت الشامي الكبير، دمشق 1972.
ـ البديري الحلاق، حوادث دمشق اليومية، وزارة الثقافة 2008.
ـ ماري سركو، دمشق فترة السلطان عبدالحميد، وزارة الثقافة 2008.
ـ د. يوسف نعيسة، مجتمع مدينة دمشق، دمشق 1986.