محارق الكتب.. صراع العقل مع الاستبداد

دعد ديب 29 أبريل 2021
استعادات
حرق الكتب بأمر من الملك هنري الثامن/ إسبانيا، 1530/Getty
أخبار محارق الكتب والمكتبات التي امتدّت عبر التاريخ في موجات متتابعة خلال زمن عبر ومضى تقودنا للتساؤل والبحث والتقصّي في أبعاد ذلك الخوف والرعب الذي يجتاح الغزاة والمستبدّين من علوم المعرفة التي تبثها مكتبات ومؤلفات لا تحمل سيفا ولا مدفعا، وتلك الكراهية المدجّجة بالبارود والنار التي تشن على خزائن النور والتنوير؛ إذ تزامنت عمليات إعدام الكتب وتدمير مراكز وجودها مع سقوط المدن والممالك، أي في أشد حالات ضعفها وانهيارها وكأنها توقيع انتصار الحارق بالنار بعد أن ثبّته بالدم. يشير ذلك إلى أن العلاقة بين الفئات الجديدة المهيمنة، غازية أو مستبدّة، ومسألة إحراق الكتب تهدف لتأسيس منظومة للقيم متناسبة مع ما يثبت السيطرة والسلطة والتفرد بالحكم لتلك الفئات، والخوف من العقل والتفكير كان الهاجس الذي يؤرق السلطات دائمًا وأبدًا في كل زمان ومكان، ولا سيّما في زمن المتغيرات والتحولات الفكرية والأيديولوجية، إذ يتم حذف واستبعاد وتغييب إرث ثقافي شامل متضمن لهوية الأمة وذاكرتها لمن تمّ التغلب عليهم، وإقصاؤهم عن المجال المعرفي العام وتطويع الذاكرة البشرية لما يتناسب مع مصالح وأهداف السادة الجدد.

قد يكون كل ما وصلنا إليه هو ما سمح به المنتصر على المهزوم، إلا ما تم اختزانه في ذاكرة الحافظة الإنسانية التي تنتقل شفاهًا عبر حكايا وأغان وأساطير قد تكون الاستمرارية الوحيدة الباقية، فالعقلية المتطرّفة التي يحملها طغاة وجهلة وإرهابيون تصرّ على إلغاء كل ما يخالفها في الفكر والعقيدة، لجهل منها وعجز عن مقارعة الفكر بالفكر من جهة، واحتكار أسلوب فهمها وتعميمه على الفئات التابعة لها. لذا لا غرابة في أن كل جماعة تسيطر وتتملّك تسعى لإبادة وتغييب ميراث من سبقها. وحيث تسود العقليات اليقينية المقولبة والجامدة تنتشر الإبادة والإقصاء للكتب والبشر والحجر، إذ أن حرمان الأجيال المتلاحقة من ملايين الكتب الفكرية ربما يُعتبر من الأسباب في تراجع الثقافة العربية وسيطرة الجهل والتخلّف على نواحي الحياة فيها؛ الأمر الذي جعلها تتوقف عن إنتاج العلم والمعرفة التي ازدهرت في زمن مضى، لما فيها من إبادة للذاكرة الجمعية التي تؤسّس لما بعدها، مما يحدث قطعا معرفيا بين الماضي والحاضر ويحتاج عهودًا طويلة لإعادة بنائه وترميمه. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الحرق دائمًا؟ لماذا حرق الكتب؟ هو الحرق، لأن النار لا تبقي ولا تذر ولا تترك سوى الرماد، الذي يعني مواتا لا قيام من بعده، وحرق الأمل باستعادتها يومًا.


حرائق الإسكندرية

عُرفت مكتبة الإسكندرية كأعظم مكتبة في التاريخ أسسها بطليموس الأول منذ أكثر من ألف عام، وقد حوت أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو وأكثر من سبعمئة ألف كتاب.
نشب أول حريق فيها عام 48 ق.م إبان حرب الإسكندرية والتي تدخل فيها يوليوس قيصر لمساعدة كليوباترا ضد أخيها بطليموس الثالث عشر، إذ أمر بحرق 100 سفينة على شاطئ الإسكندرية بالقرب من المكتبة التي امتدت النيران إليها، ليتم تدميرها بالكامل وقد قيل حينها إنه احترق ما يقرب من 40 ألف كتاب، وتؤكد روايات أخرى أن عدد الكتب آنذاك كان 400 ألف كتاب، كما قيل إن حرقها كان مقصودًا، فالمعروف عن ورق البردي أنه سهل الاشتعال ويحترق عند درجة 451 فهرنهايت، مما يحيلنا إلى رواية فهرنهايت 451 بذات العنوان، حيث الأمور مقلوبة فتهمة الإرهاب تلصق بمن يقرأ ضمن تداعيات العداوة مع الكلمة المكتوبة.

وفي القرن الثالث الميلادي، تم تدمير الموسيون والحي الملكي إبان الاضطرابات والصراعات على السلطة والتي هزت أرجاء الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت، أما المكتبة الصغرى فقد ظلت تقوم بدورها حتى نهاية القرن الرابع. وحينما أعلنت المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس مرسومًا في عام 391 ميلادية يقضى بهدم كل المعابد الوثنية بالإسكندرية، حيث حوت المعابد من الكتب الشيء الكثير. 
أما مكتبة دار العلم فقد أنشأها الخليفة العزيز بالله الفاطمي في قصره بالقاهرة، إذ ابتنى لها ابنه الحاكم بأمر الله مبنى خاصا بجوار القصر؛ وتم تقسيم المكتبة للفقهاء ولقراء القرآن الكريم وللمنجمين وأصحاب النحو واللغة وقسم أخير للأطباء، وبلغ عدد القاعات المفتوحة لعامة الناس ثماني عشرة قاعة للاطلاع، واحتوت على ثلاثة ملايين ومئتي مجلد، وهو ما يعادل عشرين ضعفًا مما حوته مكتبة الإسكندرية القديمة. في عام 1068، شهدت مصر مجاعة كبيرة منعت الخليفة آنذاك من دفع رواتب الجنود الأتراك والسودانيين، مما دفعهم للهجوم على المكتبة، فنزعوا أوراقها واتّخذوا من جلودها أحذية، ليتم بعدها تدمير باقي المكتبة في عهد صلاح الدين الأيوبي؛ فتم توزيع الكتب على رجال الدولة، وتجار الكتب، وكهدايا للقضاة. وكان هناك يومان من كل أسبوع لبيع الكتب الذي استمر عشر سنوات ليقضي على خزائن ممتلكات الفاطميين، وقد تم إحراق نفائس الكتب الموجودة في مكتبات دار الحكمة ودار العلم، وتم إغلاق الأزهر الشريف. كما سرق الفرنسيون والأتراك الكثير من الكتب النادرة والنفيسة، وتشهد مكتباتهم على عائديتها ومصدرها ومضمونها.


حرائق بغداد
تعتبر مكتبة بيت الحكمة في بغداد عام 656هـ، من أكبر المكتبات في العالم، وقد وجد آنذاك 36 مكتبة في العاصمة العباسية في أواسط القرن الثالث عشر حوت ملايين الكتب في زمن ليس فيه طباعة. فقد هجمت عليها عصابات هولاكو واستباحتها عام 1256 م، وحرقت قوات المغول كل مكتبات بغداد، ورمت خلال أسبوع في نهر دجلة عددًا هائلًا من الكتب، لدرجة أنه قيل إن قوات المشاة من الجنود والفرسان اتخذتها جسرًا تمر عليه، وأصبحت مياه النهر سوداء قاتمة بسبب حبر الكتب والمخطوطات أو لعله ثوب الحداد لبسه النهر الشاهد والشهيد.
كما تم إحراق مكتبة عبد السلام الجبلي البغدادي الملقب بالركن، التي جمعت الكثير من كتب الفلسفة والعلوم المتنوعة، وهي المكتبة الثانية التي أحرقت بأمر حاكم عربي هو الخليفة العباسي الناصر لدين الله باعتبار أن كتب الفلسفة مفسدة للعقل ومنها كتب ابن الهيثم. كما أحرقت فيما بعد كتب المعتزلة والفلاسفة، إذ قام السلطان الغزنوي عند سيطرته على الريّ بقتل جماعات الباطنية، ونفي المعتزلة، وإحراق كتب علوم الأوائل وعلم الكلام من مكتبة الصاحب من عباد. في الزمن القريب تم تدمير المكتبة الوطنية العراقية التي تأسست عام 1961م في بغداد عام 2007م، وقد بقيت النيران مشتعلة في شارع المتنبي ببغداد 5 أيام، وقد أتت على آلاف الكتب التي تحويها المكتبات المتراصة على جانبي الشارع، وكانت تضم في الثمانينيات 417 ألف مجلد و2618 مجموعة من الصحف والدوريات و4412 كتابًا نادرًا، وقُدرت مقتنياتها عشية الغزو الأميركي بمليوني مطبوعة رقمية، من بينها أكبر مجموعة في العالم من الصحف العربية. بعد الغزو، لم يبقَ من المكتبة الوطنية العراقية سوى رماد الكتب. كما تعرّضت للنهب والحرق في الوقت نفسه مكتبة الأوقاف الواقعة على بُعد 500 متر من المكتبة الوطنية. وحديثًا في عام 2015 أحرق تنظيم داعش المكتبة المركزية بالموصل ومكتبة جامعة الموصل والمكتبة المركزية شمال شرقي بعقوبة، وقام داعش بجمع جميع الكتب الأدبية والعلمية والثقافية ووضعها في حاويات حديدية وحرقها أمام أعين الأهالي والعالم أجمع.

ألونسو بورغيت ( 1486-1561)/ Getty


مكتبات قرطبة وإشبيلية

أحرقت مكتبة ابن حزم الأندلسي، وهو من أهم ممثلي الثقافة العربية في الأندلس، وكان شاعرًا ومحدثًا وخطيبًا مفوهًا، وكانت مكتبته من أضخم المكتبات وأغناها إذ اهتم بتأليف وجمع الكتب وقراءتها وفضلها على السياسة، وقد ورث حب العلم من أبيه الذي كان من أبرز علماء قرطبة، وقد أدى الجدل والحسد اللذين أثيرا حوله إلى قيام المعتمد بن عباد، صاحب اشبيلية، بإصدار أمر بحرق كتبه علنًا، وهي أول حالة حرق للكتب بأمر حاكم عربي، كما تم إحراق ومحاربة كتب الغزالي من قبل أمراء المرابطين في المغرب العربي واضطهاد المؤلفين ممن كتبوا في علوم المذاهب والفقه، وقد روي أنه بمدينة فاس كان يؤتى منها بأحمال الكتب فتوضع ويطلق فيها النار. وقد تعهد المنصور الموحدي (في القرن السادس الهجري) ألا يترك شيئًا من كتب المنطق والحكمة باقيًا في بلاده، إلا عددًا قليلًا منها في التاريخ الطبيعي. كما نستذكر أيضًا أنه في عام 1194 أصدر الأمير أبو يوسف يعقوب المنصور في إشبيلية أمرًا بإحراق جميع كتب ابن رشد وحرم على رعاياه دراسة الفلسفة، وحثهم على أن يلقوا في النار جميع كتبه أينما وجدت، وقد جسد هذا المخرج يوسف شاهين في فيلمه "المصير"، واستمرت المأساة بتدمير المكتبات الضخمة التي أسسها الخلفاء أنفسهم على غرار المكتبات العامة في وقتنا الحالي.

كتب أُحرقت بيد أصحابها
قام التوحيدي الذي ألّف "الإمتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"البصائر والذخائر" بإحراق كتبه في أواخر عمره ضنًّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته والفقر وقلة الرزق، وكتب لأحد أصدقائه يبيّن له أنه ليس أول من أحرق كتبه "فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم".
وذكر التوحيدي في رسالته أيضًا نماذج لمن سبقوه، أبرزهم سفيان الثوري الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح، وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باقي، وداوود الطائي الذي طرح كتبه في البحر وقال يناجيها "نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول"، وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وأحرقها بالنار ثم قال "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك".
وذكر جلال الدين السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة" أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لما انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه، فجمعها وأحرقها ولم ينجُ منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها. وروى التوحيدي كذلك عن شيخه أبو سعيد السيرافي سيد العلماء أنه قال لولده محمد "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار".
وهكذا تنوعت الأسباب التي دفعت علماء عصور التأليف العربي الذهبية للتخلص من كتبهم بأنفسهم سواء بالحرق أو الغسل أو الدفن أو التقطيع أو الإغراق أو غير ذلك. وتنوعت هذه الدوافع بين الخوف من إساءة توظيفها والفقر وقلة الانتفاع بها أو تقديرها أو نجاحها في القيام بدورها المؤقت أو حتى التنسك والرغبة في البقاء في الظل. ونذكر أيضًا أن فرانز كافكا أوصى صديقه ماكس برود بإحراق مخطوطات كتبه لكنه لم يكن أمينًا للوصية لحسن الحظ، وأضاف بذلك للمعرفة البشرية زادًا من نفائس الأدب الثمينة.




حرائق في العالم

وفي العالم لم تنجُ المكتبات من الإبادة النارية، وتم إحراق مكتبة الكونغرس على يد البريطانيين، وإحراق مكتبة البوسنة والهرسك على يد الصرب أثناء حصار سراييفو عام 1992، وهناك حرائق محاكم التفتيش في القرن الرابع عشر التي أحرقت جميع الكتب والمراجع المضادة للمسيحية حتى لا تؤثر على الشعب، كما قامت عام 1790 م بحرق كل أعمال المخترع البرتغالي جيسماو، الذي توصل لصناعة أول طائرة باعتبارها أعمال هرطقة ومسا بالعقيدة الدينية.

حرق الكتب هي شروخ غير قابلة للترميم فما يفقد صعب أن يستعاد، فالكتب هي الذاكرة الفكرية للمجتمعات. هي النسغ السري التي تنتقل به المعرفة – الحياة من جيل إلى جيل ومن حقبة زمنية إلى أخرى في خط الحياة الصاعد، وهي وثيقة وشهادة تاريخ على الحراك الفكري الذي ساد في زمن ما، وبما أن التاريخ يدوّنه المسيطر والغالب على الدوام بما يوافق ميوله ومصالحه، نلحظ كثرة المراجعات التي يتم فيها التنصل من ذلك الفعل، وحتى اليوم نشهد من يتنطع لتقديم صك براءة لهم بما يتناسب مع الميول الأيديولوجية والدينية وحتى المذهبية ضمن رؤية ضيقة وأحادية للفكر والتاريخ.


والسؤال كيف ننقذ الكتاب حامل نسغ المعرفة؟ هل يكون الحفظ الإلكتروني حلًا نهائيًا من الاندثار في العالم؟ وماذا في حال تمّ الانقضاض على الحوافظ الإلكترونية؟ ماذا عن آلاف الأنواع من الفيروسات الإلكترونية التي تجتاح عالم النت والإلكترونيات؟ فبنات عمها من الفيروسات المعدية فتكت بالبشر وليس آخرها الكورونا. لذا قد لا يكون مجديًا الركون إليها على المدى الطويل، ويبقى فعل القراءة والحفظ بالذاكرة البشرية التي تنقل المعلومة عبر الأجيال أسلوبًا لا نستطيع تجاهله، فالكتب وإن طالها الحرق والغرق، لها أجنحة تطير وترفرف عبر العصور.
ولعلنا نختم بما طرحته رواية "فهرنهايت" حتى تستمر سيالة الحياة بالامتداد، بأن يحتفظ كل مثقف بذاكرته بكتاب ما ويعاود كتابته ثانية للتأكيد على قوة الذاكرة البشرية بإعادة الروح إلى المخطوطات المهددة بالإبادة والأمل ببقاء شعلة المعرفة وهاجة من جديد.

مصادر:


- "مكتبة الاسكندرية القديمة"، هند السماديسي.
- "أضواء على مكتبة الإسكندرية من خلال إطلالة على العالم القديم"، د. عمر عباس العيدروس.
- "تراجم الحكماء"، جمال الدين أبو الحسن.
- "تاريخ التمدن الإسلامي"، جرجي زيدان.
- موقع "دراسات مصرية".
- "المغول وحرق مكتبة بغداد"، راغب السرجاني (مقال).
- "حرق الكتب.. تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات"، خالد السعيد.