}
عروض

"آخر صورة".. قصص استباحة وانتهاك أقدس القيم الإنسانية

ضاهر عيطة

30 مايو 2021


في معظم محاور مجموعته القصصية "آخر صورة"، يسعى الكاتب والإعلامي، حافظ قرقوط، إلى رسم شخصياته، وهي في أوج حساسيتها، ومراحل تفجعها، فوق أرض ترتج تحت أقدامها، وتحبس عنها الأنفاس، بعد أن أحالها النظام الأسدي وشبيحته إلى متاهات، يفقد معها الإنسان معنى كيانه الإنساني، ويستحيل إلى ريشة في مهب ريح، وكذا حال ذكريات الطفولة، وذكريات الأصدقاء والأحبة. فها هي حنين في قصة "حنين من جورة الشياح إلى الشياح"، تفر بطفلها إلى بيروت، عقب وفاة زوجها في مجزرة الساعة في حمص، قبل أربعة أعوام، وتحديدًا في اليوم الذي أنجبت فيه طفلهما. وفي بيروت، في حي "الشياح"، نراها تسير من دون بوصلة تهتدي إليها، فتبدو تائهة، معذبة، وملامح الرقة والعذوبة بادية على وجهها، حتى يخالها المرء، وكأن لم يسبق لها أن تزوجت، أو أنجبت، ففي وجهها تكمن ملامح طفولية صارخة، وربما هذا ما يدفع الراوي إلى محاورتها مباشرة، تاركًا لها مهمة الروي، مكتفيًا برصد انفعالاتها، وكيفية تعاملها مع طفلها الذي يلتهم السندويش. ومن خلال روي حنين نتعرف على تفاصيل نكاد نسمعها لأول مرة، حول مجزرة الساعة في حمص، ولا سيما تلك التحولات التي طرأت على من يفترض أنهم كانوا جيرانًا وأصدقاء لها ولزوجها، ليصيروا أعداء وقتلة، ضاربين بكل الذكريات المشتركة بينهم عرض الحائط، وهم الذين كانوا قد سموا ابنها "علي" لكثرة المودة التي كانت تربط في ما بينهم.



ولكن مع انطلاق الثورة السورية، غدا الطفل "علي" عدوًا لهم، تاركين إياه، محاصرًا مع والدته، من دون أن يفكروا بمنحه حتى قطعة من الخبز تسكت أنين جوعه. وكلما تذكرت الأم حنين ذلك الماضي، يتعاظم انهمار الدموع على وجنتيها، فيتنحى الراوي جانبًا، تاركًا إياها تخرج ما تراكم في أعماقها من مرارات وخيبات أمل، عسى أن تبرد الجمرات التي تحرق صدرها. وكلما تذكرت حنين كيف أحاطت الأحياء الجديدة بحيهم القديم، تختنق العبارات في حلقها، لتستدرك بعد مجزرة الساعة أن إقامة تلك الأحياء الجديدة، وتطويقها للأحياء القديمة، لم تكن إلا استراتيجية مدروسة، خطط لها النظام الأسدي منذ أمد بعيد، لتشكل مخالب تطبق بخناقها على الأحياء القديمة مستقبلًا، فمن تلك البيوت التي كانوا يزورون الأصدقاء فيها، ومن نوافذها التي كانوا يلوحون منها لبعضهم بعضًا، باتت تصلهم زخات الرصاص، وسكاكين الغدر والموت، وبدلًا من أن يرسلوا ما يطمئنهم على طفلها "علي"، وعليها، كانوا يرسلون زخات من الرصاص، محملة بكل مشاعر الثأر والحقد. حتى أنه، ونحن نستمع لسرد حنين، ينتابنا الخرس والذهول، من هول الصدمة، مشككين بكل معاني قيم الصداقة والجيران، ولم تكتفِ نوافذ وأسطح الجيران بأن ترسل رصاصات تخطف روح الزوج، بل كذلك أرسلت رصاصات خطفت من حنين روح شقيقها، وزوجته، ووالدها، وهكذا أحال ساكنو أحياء حمص الجديدة أحياء حمص القديمة إلى مقابر، دفنت فيها كل معاني وقيم الإنسانية والوطنية، ولم يكن هذا الحقد منصبًا على الإنسان وحده، بل كذلك تعداه إلى المكان، الذي سرعان ما أحالته الطائرات إلى خراب. وما يضاعف من مأساة حنين في بيروت، اكتشافها لخديعة الشعر، وزيف الأغاني التي سبق أن رددتها فيروز، وأن بيروت هذه باتت أضيق بكثير من تلك الأغاني، وقد تحولت، بدورها، إلى مقابر، أو إلى مرآة عاكسة لتاريخ أسود، مما جعل حنين، وهي في الأصل معلمة مدرسة، تشكك في أنها تصلح لمثل هذه المهنة، بعد أن فقدت إيمانها وثقتها بكل ما قرأت وحفظت عن تاريخها. وللمصادفة، وهي ابنة جورة الشياح في حمص، تستقر في حي الشياح في بيروت، ذلك الحي الذي شهد أهوال القتل والدمار بين أبناء البلد الواحد، وإن كان القتل قد توقف، فإن ملامح المكان تشي بنذير الأحقاد المذهبية، وبخراب قد يحل في أي لحظة. ورغم جهل حنين بتاريخ هذه الجغرافيا، تشعر بضيق رهيب في حي الشياح البيروتي، ما يؤجج توقها إلى العودة إلى حي الشياح في حمص، حتى لو داخل خيمة فوق دمار وخراب حيها.



الحيّز المكاني
يبدو جليًا اشتغال قرقوط على الحيز المكاني في مجموعة "آخر صورة"، إذ بدت فضاءات الأمكنة وكأنها ليست إلا قبورًا في دولة البعث الأسدية، وسكانها ليسوا إلا ضحايا يترقبون موتهم، ولكن قبل أن تطبق هذه المقابر عليهم. يحاول قرقوط أن يلتقط لهم الصور الأخيرة، صورًا تصدمنا إلى حد الذهول، كما الصدمة التي جاءت في قصة "إنها أمي يا أوغاد"، حيث الأم "سلمى" متعلقة أشد التعلق بابنها "أنور"، ومنه كانت تستمد فرحة عمرها، مترقبة يوم زفافه بشغف كبير، وكذلك نيله الشهادة الجامعية، وهي لا تكف عن تعليق صوره في أرجاء البيت، وفي كل مراحله العمرية، إلى حد أن صوره كانت قد احتلت جميع الجدران البيت، بديلًا عن صور الأب الذي توفي يوم كان "أنور" طفلًا صغيرًا، جراء سقوطه من مكان مرتفع، وهو يعمل في مشروع دمر.



وبينما تمضي الأم "سلمى" لإسعاف ابنة اختها من جروح أصابتها جراء القذيفة التي سقطت بالقرب من منزلهم، وأثناء عبورها للحارة الفاصلة بينها وبين بيت شقيقتها، يتم اعتقالها، بحجة أنها تحمل قطعًا من القطن والأدوية، لمداواة العصابات الإرهابية. وفي المعتقل، يتناوب الجلادون على اغتصابها، وأكثر ما أرهبها وأضنى فؤادها، لحظة أبصرت ابنها "أنور"، وقد انضم إلى مجموعة الجلادين، ليغتصب معهم هذه السيدة، التي سمع عن جمالها كثيرًا، وهكذا ما إن تتعرف عليه الأم، ومن هول الصدمة، والذهول، تفر منها روحها، وتفارق الحياة، في حين لم يكترث الابن "أنور" بما حل بها، فيدنو منها، راغبًا في اغتصابها، لكن سرعان ما يكتشف أن هذه السيدة الجميلة لم تكن إلا أمه. هي لعنة أوديب، لعنة الطاعون الذي خيم بظلاله على مدينة طيبة، وقد عادت لتخيم على جميع الأراضي السورية، لكن مبعثها هذه المرة، أنفاس الأسد السفاح.
على هذا النحو، يكاد الحضور الطاغي للأم، في مجموعة قرقوط القصصية، أن يدمي الروح، حين يصور لنا كيف تستباح وتنتهك أقدس القيم الإنسانية. ومن يطلع على هذه المجموعة، يتوهم، لوهلة، أنه يدرك ما حدث فعلًا على الأراضي السورية، بعيدًا عن مشاهد الخراب والدمار، التي طالت البنيان والعمران، فبعد هذا الخراب والدمار الذي ترك أثره في أعماق ووجدان الأم السورية، ماذا يبقى من سورية بعد أن تتم الإطاحة بالأمومة؟
هذا ما جرى، أيضًا، في قصة "الحبل السري وأمي". هنا، تروي الفتاة "شهد" عن أمها، وشقيقها "أيمن"، الذي ابتلعه نهر الفرات، في الوقت، الذي طالت فيه الصواريخ أمهما، وأحالتها إلى أشلاء، وكأن حبل السرة ما زال معلقًا بين الأم والابن، وكأنهما الجسر الذي سقط على نهر الفرات.
وفي قصة "راجعي أمن الدولة ابنة الأشهر الخمسة"، نصادف هذه الطفلة "يولا"، وهي مطلوبة لواحد من الأفرع الأمنية، فتضطر والدتها إلى الفرار بها إلى تركيا. وفي رحلتها، تمر على العديد من الأعلام والرايات التي تمزق سورية إلى أشلاء، وكأن أصحابها ما جاءوا إلا ليشنقوا مستقبلها، الذي يسعى إلى التحرر من سطوة الأسدية، ومن كل أوغاد الأرض.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.