كأنه كان يدرك داخليًا أن هذا هو عامه الأخير، فيقرّر نشر أكبر عدد من كتبه ومؤلفاته في النقد والإبداع خلال عام واحد فقط، مُنصتًا إلى صوت داخلي ربما همس له بأن الكاتب لا يموت كلما زادت إسهاماته، وأن عليه أن يُخرج هذه الكتابات إلى النور كي يعيش حياة أطول بعد الرحيل، لينجح في استكمال مشروعه الفكري والإبداعي الذي بدأه منذ عام 1982.
برحيل الشاعر والناقد الأدبي، الدكتور محمد السيد إسماعيل، ينتهي مشوار غزير على مستوى قصيدة النثر المصرية، وأيضًا على مستوى نقد الشعر والرواية، حيث تميز مشروعه بتنوّع لافت بين النقد الأدبي والإبداع الشعري والمسرحي، فضلًا عن اهتمامه بالقضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة. وعلى مدار نحو ثلاثين كتابًا منشورًا، انشغل إسماعيل بتحليل وتفكيك بُنى السرد الروائي والقصصي، إلى جانب اهتمامه بنقد الشعر واتجاهاته.
الرواية والسلطة
كانت كتابات محمد السيد إسماعيل المتخصصة في نقد الرواية لافتة على مستويين: الأول هو انغماسه فيها لا كناقد فقط، بل كواحد من الجمهور، والثاني انشغال هذه الكتابات النقدية بعلاقة المثقف بالسلطة وتناول موضوعات روائية ذات أبعاد سياسية. نجد هذا واضحًا مثلًا في كتابه "الرواية والسلطة"، متناولًا العلاقة الجدلية بين الرواية والسلطة السياسية، ومركزًا على القمع وتزييف الوعي وازدواجية السلطة عبر تحليل مجموعة من القضايا، مثل القضية الفلسطينية في روايتي "أحمد وداود" لفتحي غانم، و"شرق النخيل" لبهاء طاهر، وقضية الفتنة الطائفية والحروب الأهلية كما ظهرت في "بيروت بيروت" لصنع الله إبراهيم، و"رائحة اللحظات" لبهيجة حسين. وكذلك ناقش حضور اتفاق كامب ديفيد في "وجع البعاد" ليوسف القعيد، و"ليلى والمجهول" لإقبال بركة.
كتابة الشعر ونقده
في الشعر مدرستان: الأولى تنحاز إلى أن الشاعر لا يجب أن يشتغل بالنقد، خصوصًا نقد الشعر، كونه - الشاعر- منخرطًا في العملية الإبداعية ذاتيًا، وبالتالي لن يكون قادرًا، معنويًا على الأقل، على تقديم منتوج نقدي حقيقي إلى حد بعيد. في حين تذهب المدرسة الثانية إلى أن الشاعر حين ينقد الشعر يكون جامعًا بين الإبداع والنقد، فيستطيع - بعكس غيره- أن يقدم كتابة نقدية تراعي في مضمونها طبيعة الشاعر وتكوينه الفكري والإبداعي على نحو لا يتوفر لمن لم يُمارس كتابة الشعر. ومحمد السيد إسماعيل كان من روّاد المدرسة الثانية.
تميزت التجربة النقدية لإسماعيل بتحليل السياسي وعلاقته بالمجتمعي في قصيدة النثر، ورصد التحولات التي شهدها الشعر المصري، منطلقًا من فهم الحداثة بوصفها موقفًا جماليًا ومعرفيًا مرتبطًا بتحولات الواقع الاجتماعي والسياسي. وفي كتاب بعنوان "انفتاح النص الشعري: الواقع، الأيديولوجيا، النص"، خصّص جزءًا منه لدراسة تجربة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، إذ حلّل فيه ملامح التمرد والمقاومة، كاشفًا عن تداخل الشعري بالسياسي، والذاتي بالجمعي، في قصائد الشاعر التي حملت طابعًا نضاليًا وإنسانيًا.
المسرح السياسي
الانشغال بدمج السياسي بالإبداعي وتأثير كلٍّ منهما على الآخر، كأنّهما مترادفان لمعنى واحد، لم يتوقف عند كتابة الشعر أو نقد الرواية فقط، بل تجلّى بوضوح في التأثّر بمسرح صلاح عبد الصبور، حيث كان هو المنطلق عندما وجد إسماعيل نفسه متجهًا صوب استكمال مشروعه الإبداعي بالكتابة للمسرح. قدّم إسماعيل للمكتبة المسرحية العربية أربعة نصوص، هي: "السفينة"، و"رقصة الحياة"، و"زيارة ابن حزم الأخيرة"، و"وجوه التوحيدي". وتُظهر هذه الأعمال تأثره الواضح بمسرح صلاح عبد الصبور في البناء الرمزي والقضايا التي تناولها، وفي مقدّمتها العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة. فهل على المثقف أن يكون دائمًا في موقع المعارضة؟ أم يمكنه الاقتراب من السلطة من أجل تمرير مشروعه الإصلاحي؟ هذا السؤال شكّل محورًا دراميًا رئيسًا في ثلاثة أعمال مسرحية لإسماعيل، فيما كان العبث حاضرًا في مسرحيته "رقصة الحياة".
هذه التجربة، التي اكتسبت ثراءها من كتابة الشعر ونقده، فضلًا عن كتابة المسرح أيضًا، ونقد الرواية والقصة، وصلت إلى مرحلة متقدمة من الإبداع بسبب انغماس صاحبها في كل ما هو سياسي، وانعكاسه على المبدع وما يكتب. كما أن الهمّ السياسي لم يغب عن أيّ من كتاباته، سواء في النقد أو في الإبداع، بل شكّل خلفية فكرية حاضرة في معظم أعماله، بما يؤكد وعيه العميق بدور الإبداع في مساءلة الواقع ومقاومة القهر والاستلاب.