اكتشف سيغف منذ فترة غير بعيدة، وقد بلغ الثمانين من العمر اليوم، أنه نشأ منذ طفولته على كذبة تسبّب بها قومه من الصهاينة (الكذب عقيدتهم وديدنهم) حينما أُخبر طفلًا أن والده قُتل خلال "حرب الاستقلال" في التسمية الإسرائيلية، والمقصود بالطبع حرب احتلال فلسطين، وأن الجندي هاينز شفيرين، أي والد توم "أُصيب برصاصة قاتلة خلال أدائه مهمة حراسة" في حي أرنونا في القدس، بحسب النصّ الموجود حتى اليوم في موقع إحياء ذكرى "يزكور" التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية. كان سيغف في الثالثة من عمره آنذاك ولا يتذكر شيئًا بالطبع، حتى أبلغته والدته، ريكاردا، في "سنّ كافية ليفهم" بحسب تعبيره، أن والده أصيب برصاص "قناص عربي"، وأنّها تلقت كزوجة وسام حرب الاستقلال تكريمًا عن والده. كان قادرًا على القول: "لقد قُتل أبي خلال حرب الاستقلال وأنا يتيم من ضحايا الحرب". لكن الحقيقة كان يعرفها شخص واحد، خلال تلك السنين، وكتمها عنه. هذا الشخص هو أخته الكبرى، جوتا، التي غادرت "إسرائيل" عام 1960 إلى ألمانيا، البلد الذي فرّ منه والداها الشيوعيان من النازيين عام 1935، وقد أصبحت جوتا في ما بعد عضوًا في البرلمان الألماني عن حزب الخضر. كانت جوتا تعرف الحقيقة عن والدها ومفادها أنه كان في الثامنة والثلاثين من عمره حين قرّر تسلّق أنبوب التصريف في مبنى سكنهم، وعندما كاد يصل إلى الطابق الثالث فقد السيطرة وسقط ميتًا، ودفن في مقابر جبل الزيتون، ليُنقش اسمه على النصب التذكاريّ الذي يخلّد شهداء الحي اليهودي في البلدة القديمة والمقاتلين الذين سقطوا في معركة القدس!
إذًا، أدرك توم سيغف أن قصة مقتل والده في الحرب مجرّد كذبة. يقول سيغف في الحوار مع "هآرتس" الذي أجري في منزله في القدس المحتلة: "الحياة قصة. سلسلة لا تنتهي من القصص. إنها لأمر مدهش". وفيما كان يروي المزيد من التفاصيل حول ملابسات موت والده، انطلقت صفارة إنذار تحذيرية من صاروخ قادم من اليمن فأضاف ممازحًا: "لا يمكن تمثيل هذه المقابلة بجنون أكثر من هذا"، ويضيف: "لقد تعاملت مع نفسي كقصة (...) عرفتُ منذ البداية أن بعض القصص التي رويت لي لم تكن صحيحة". روى قصة حياته الاستثنائية هذه في مذكرات نشرت حصريًا في ألمانيا بعنوان "زاوية القدس – برلين: ذكريات". ثمة دلالة رمزية في قرار سيغف نشرها بلغته الأم، لكن بما أنه يكتب بالعبرية فقط، ترجمت المذكرات منها إلى الألمانية. وتثير قصة والده أسئلة كثيرة. مثلًا: لماذا كذبت عليه والدته؟ ولماذا انتظرت أخته حتى ما قبل سنوات قليلة من الآن لتخبره الحقيقة؟ والسؤال الأصعب في نظر سيغف: كيف أعيش بعد الآن مع هذه القصة وماذا أفعل بها؟ وأين تضعني قصة كهذه مقارنةً بأيتام الحرب الحقيقيين وأراملها وآبائها المفجوعين؟ قادته رحلته المتأخرة في البحث عن الحقيقة إلى أحد معارفه من العائلة، الذي ادعى أن والده لم يأتِ في الواقع إلى مناوبة حراسة بل لإحضار القهوة للناس على السطح: "صعد إلى ارتفاع نحو عشرة أمتار ثم سقط. هذا هو الواقع الفعليّ". تواصل سيغف بعد ذلك مع وحدة وزارة الدفاع المعنية بضحايا الحرب للحصول على مزيد من المعلومات. كانت وزارة الدفاع تعدّ كتاب "يزكور" (ذكرى) وجمعت بيانات عن نحو ستة آلاف من قتلى ما يُسمّى "حرب الاستقلال"، ولم تتضمن تلك البيانات أي تفاصيل عن والده، بل تشير وثيقةٌ إلى أن المسؤولين راسلوا والدته لطلب المزيد من المعلومات، لكنهم لم يتلقوا أي ردّ. لا توجد صورة لوالده على الموقع الإلكتروني للنصب التذكاري. يقول سيغف: "لم أزر قبره على جبل الزيتون قط، إني أراه من نافذة شقتي، وحتى اليوم لم أتمكن من تفسير عدم الزيارة".
التقى والدا سيغف في مدرسة باوهاوس الألمانية المشهورة للتصميم والهندسة المعمارية في ديساو. كانت والدته، ريكاردا، تدرس التصوير الفوتوغرافي، بينما كان والده، هاينز، طالبًا في الهندسة المعمارية. ومع وصول النازيين إلى السلطة وجد الوالدان ملاذًا في فلسطين الانتدابية، رغم أنهما لم يكونا صهيونيين. استقرا في القدس حيث ولد توم وشقيقته جوتا. كان والداه يكسبان رزق العائلة من ورشة ألعاب أقاماها، ولا يزال سيغف يحتفظ ببعض الألعاب منها. ويكشف أن والديه لم يكونا قط صهيونيين، وشرعا يخططان للعودة إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن والده مات بعد شهر واحد من القرار. ويتذكر سيغف أن والدته كانت تصف له "تل أبيب" بأنها "كومة رمل كبيرة... كانت الحرارة لا تطاق وكذلك الحشرات". وعلى مرّ السنين اكتشف ثغرات أخرى في القصص التي نشأ عليها. روت له والدته أنّ والده هرب من معسكر اعتقال ساكسنهاوزن في ألمانيا قبل مغادرتهم إلى فلسطين، ويضيف: "تعاملت مع قصة أبي كبطل حقيقي. لقد ملأني ذلك فخرًا". وعلم لاحقًا أن الحقيقة مختلفة: لم يكن ممكنًا أن يكون والده مسجونًا في ساكسنهاوزن، فالمعسكر الذي يقع خارج برلين لم يٌنشأ إلّا عام 1936 عندما كان والده قد غادر البلاد بالفعل وبصحة جيدة.
حول المرحلة الراهنة المتعلقة بغزة، وجوابًا عن ملاحظة من محاوره عن قيام العديد من القادة الإسرائيليين والجمهور بمقارنة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بالهولوكوست، وتشبيه حماس بالنازيين، يقول توم سيغف: "إن توصيف نتنياهو لحماس بأنهم نازيون وإعلانه أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر هو أسوأ ما حدث للشعب اليهودي منذ المحرقة، أمران إشكاليان جدًا.
خلال {حرب الاستقلال} قتل ستة آلاف إسرائيلي، ولم يُقتل أي عدد مماثل في الحرب الحالية. ولعل المحرقة، باعتبارها عنصرًا محوريًا في الهوية الإسرائيلية أصبحت الآن موضع تنافس. ومن المحتمل أن الحرب في قطاع غزة تطغى على ذكر المحرقة (...) لقد تبنى نتنياهو تصوّرًا خاطئًا عن حماس (...) إني مثل الجميع، أشعر بالصدمة من حوادث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ومن مسألة الرهائن. لكن منذ بداية الحرب، أشعر بذنب مزعج جدًا لا أدري كيف أتعامل معه. إنه ذَنْبٌ مرتبط بعشرات الآلاف الذين قتلوا ونصفهم من المدنيين، ومن بينهم عشرة آلاف طفل (حتى تاريخ المقابلة مع سيغف). إن المجزرة التي ارتكبتها حماس ضدّنا لا تبرّر موجةً من الانتقام كهذه، وليس لدينا أدنى فكرة عن مصيرها (...) استخدمتُ بعد اندلاع الحرب مباشرةً مصطلح {النكبة الثانية}. لعلّ نتنياهو يرى فرصة للتحريض على طردٍ واسعٍ للعرب من غزة، ليظهر من ثمّ أمام الكاميرات ويقول: {منذ عهد بن غوريون، لم يقدّم أحدٌ للصهيونية أكثر مما قدمتُ}. لقد دُهشتُ لرؤية مدى الفرح الذي استقبلتْ به إسرائيل فكرة ترامب (تحويل غزة إلى ريفييرا على المتوسط) إلى درجة أنّه أصبح من المقبول اليوم القول بوجوب طرد العرب (...) أنا قلق جدًا على أحفادي. لا أعلم أين سيجدون سعادتهم في العالم".
يعمل سيغف على مشروع بحثيّ جديد تحت عنوان "من شمشون إلى بيبي" (المقصود بالطبع "بيبي" نتنياهو)، فكتابة التاريخ بالنسبة إليه تستلزم التأكد من الحقائق "مهما كانت مؤلمة أو مخالفة للسرديات الشائعة"، ويرى أن "المشروع الصهيوني" الذي أقيم على فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين "قد فشل في تحقيق السلام أو الاستقرار"، مستشهدًا بما وصفه "الجرائم المرتكبة في غزة" وقائلًا "إن الصهيونية فشلت".
وهو يسلط الضوء في أحد أحدث كتبه "المليون السابع: الإسرائيليون والهولوكوست" على كيفية تشكّل الهوية الإسرائيلية من خلال علاقتها بالمحرقة، ويرى أن المحرقة استخدمت سياسيًا وأيديولوجيًا لتعزيز سردية قومية محصنة ضد النقد، بينما كان من الواجب – في رأيه – أن تفضي إلى ترسيخ الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية. ويصف "إسرائيل" في كتابه هذا بأنها "بلد معزول، مختلف في دينه وثقافته وقيمه، يعيش في ظل تهديد دائم، وفي حالة قلق مستمر، ويجد صعوبة في تأسيس وجود دائم ومستقر". ويؤكد على أنه لم يعد قادرًا على تبرير استمرار الكذب أو الخوف أو الأساطير القومية، قائلًا: "لعلّ الكتابة عن نفسي هي طريقتي في طرح الأسئلة المهمة: من نحن؟ ماذا فعلنا؟ ماذا سنفعل بأنفسنا؟".
يعدّ توم سيغف من "المؤرخين الجدد"، لكنّه يرفض هذا التصنيف قائلًا: "لم أكن أهدف إلى تدمير الأساطير، بل فتحت ببساطة الأرشيف في الثمانينيات وقلت: ليس هذا ما علمونا إياه في المدرسة. لم يكن هناك تاريخ حقيقي، فقط أساطير وتلقين (...) يتهمونني بأنني مناهض للصهيونية، لكنني لستُ أيديولوجيًا ولا فيلسوفًا. إني أقرأ الوثائق فحسب وأدوّن ما أراه (...) أراد الصهاينة دومًا إظهار مشروعهم أجمل مما هو عليه بالفعل (...) أبلغ اليوم الثمانين وبدأت في التفكير أن المشروع الصهيوني لم يكن ربما صائبًا منذ البداية. معظم الإسرائيليين لا يعيشون هنا لأنهم صهاينة، بل لأنهم لاجئون، في حين أن معظم الناجين من المحرقة لم يأتوا إلى إسرائيل، وكذلك الغالبية العظمى من اليهود في العالم. إذًا، هل الصهيونية هي قصة نجاح؟ لا أعتقد. بل إنها لم توفر حتى الأمان لليهود. العيش خارج إسرائيل أكثر أمانًا".
لكن هل من حل للصراع؟ يُسأل سيغف فيجيب: "توصلتُ تدريجيًا إلى اقتناع بأن هذا الصراع لا حلّ له، لأنه لا يتعلق بالمنطق، بل بالهويات. كل شعب يرى أن الأرض كلّها تخصّه، وكل تسوية تعني التنازل عن جزء من الهوية. لا أرى كيف يمكن حلّ هذا الصراع. نحتاج إلى حدث دراميّ ضخم يعيد تشكيل التفكير". فما نوع هذا "الحدث الدراميّ الضخم" الذي يتصوّره توم سيغف أو يفترضه؟ أعساه يكون حربًا كبيرة ومدمرة كتلك الواقعة اليوم بين إيران والكيان الصهيونيّ؟
* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.