}

آمال وآلام العبور إلى الضفة الأخرى

عبد الله كرمون 31 ديسمبر 2016

تعمدت أن أشاهد الفيلم الأخير للمخرج الإيطالي دجيانفرانكو روسِّي والذي يحمل عنوان "فوكوياماري"، في قاعة سينما على الضفة اليسرى لحوض لافيليت في الشرق الباريسي. للفيلم عنوان ثانوي هو "أبعد من لامبيدوزا"، فهو بذلك فيلم عن الهجرة والمهاجرين العابرين لضفاف المتوسط بغية اختراق أوروبا صعوداً وانطلاقاً من الجزيرة الإيطالية الجنوبية الصغيرة. هرباً من مخالب البؤس، وبحثاً عن أسباب سعادة محتملة في أصقاع الشمال.

فقبل الدخول إلى قاعة السينما، ومشاهدة الفيلم، ثم بعد مغادرتها عندما تُشعل الأضواء إيذاناً بنهاية العرض، فنحن نرى رأي العين، على مقربة من السينما، على ضفاف القناة، في الحواري، والساحات، والأحياء المتاخمة، عدداً هائلاً من المهاجرين، يغدون ويروحون، أو يفترشون الأرض، أو بالأحرى ما يلتقطونه هنا وهناك مما يرميه السكان من الأرائك العتيقة، ويلتحفون ما يجدونه من الأردية البالية. أو يحتسون الجعة في دعة على مرأى المياه الهادئة. وأغلبهم من السودانيين.

يختلط هنا على المشاهد أمر المهاجرين، الذين يراهم في صور الفيلم في عبورهم من لامبيدوزا، ثم يجدهم أحياء يرزقون في الحارات الباريسية الفقيرة. لكن الفيلم لا يناقش هذه المفارقة، وإنما هي سليلة الواقع الأوروبي الراهن.

يتأرجح الفيلم ما بين السينما التسجيلية والدراما، بل يتقاطع العالمان من خلاله في اطراد وتناوب، من بدايته حتى نهايته. يحكي قصة صموئيل، وهو طفل في الثانية عشرة من عمره يقطن في الجزيرة مع أسرته، التي تحترف الصيد البحري، مثلها مثل معظم العائلات المحلية، يقضي سحابة نهاره في الركض عبر البراري، وفي تسلق الأشجار واقتناص الطيور، بل مطاردتها بواسطة المقلاع الذي صنعه بنفسه، وهي اللقطة التي افتتح بها الفيلم، عندما تسلق تلك الشجرة واقتطع منها الخشبة ذات الزاوية المنفرجة والمناسبة لصنع آلته.

في حين يتعرض الفيلم، بشكل مواز، إلى توافد المهاجرين على الجزيرة، أحياء، مواصلين طريق هجرتهم إلى الشمال، إذا ما تمكنوا من ذلك، لأن أغلبهم يتم أيضاً تسجيلهم وضبط هوياتهم، ويتعرضون أحياناً للترحيل، فور وصولهم، أو للمراقبة في مراكز خاصة بذلك. أو جثثاً تتفتت في مياه البحر أو تدخل في دوامة الإجراءات الإدارية بشأنها.

نلحظ إذن منذ البداية بأن المخرج اختار أن يرصد مكاناً جغرافياً واحداً، وقد صار مهماً في السنوات الأخيرة بعد ما عرفه من صيت إعلامي، ومركز استراتيجي لعبور ضحايا الحروب والظلم في الجنوب إلى أوروبا، ثم قصتين متوازيتين. بل هما، في آخر المطاف، وجهان لعملة واحدة.

قد يتم اعتبار الفيلم فاشلاً، إذا لم نُخضعه، من هذا المنطلق، لتأويلات رمزية رصينة في آخر الأمر، بل ومفتقراً لشروط كثيرة، اللهم إلا إذا استثنينا أهمية ومركزية موضوعة الهجرة اليوم في الدوائر الجيوسياسية العالمية، والأوروبية بشكل خاص.

يريد المخرج أن يُثير الانتباه، ونواياه في ذلك حسنة، إلى مأساة الهجرة التي تشكل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية بؤرتها الأشد بؤساً، في لظى بحرها المشتعل ناراً.

فالذين لم يخيب الفيلم ظنهم، قد رأوا فيه طريقة جديدة، وغير مطروقة في إنجاز الأفلام التسجيلية؛ فطالما أُخذت الرداءة على أنها جِدة، كما أن الجدة، والتاريخ يعلمنا ذلك، كثيراً ما لم تُفهم، واعتبرت رداءة من لدن المتزمتين، الذين يمقتون الجديد، ولا ينفتحون له.

يحاول الفيلم إذن، بشكل رمزي، وهو يستدعي التفكير والتأويل، أن يوازي بين إظهار حياة بعض أهالي الجزيرة الذين يعيشون على البر، ويقتاتون من البحر، وحياة المهاجرين الذين يصلون إلى الجزيرة عبر طرق البحر وطرائق المهربين؛ وقد أراد المخرج أن يجعل هذين العالمين لا يلتقيان أبداً، سوى من خلال طبيب الإسعافات أو طاقم الإنقاذ، وذلك بشكل سريع وخافت.

تسعى رمزية الفيلم أن تمنح اسماً لهذا النوع من المقاربة، ألا وهو اللامبالاة: فعالم، أو الحياة اليومية للطفل ولأسرته الصغيرة بعيد كل البعد عما يجري في الجزيرة نفسها، إلا من خلال أصداء عبر المذياع سريعاً ما تُتَجاهل بنوع من الشفقة، التي لا تشي هي أيضاً، على ما يبدو، سوى بالتصنع التام.

لعل الفيلم يغالي في نظرته الواقعية، لكنها، في الغالب، رمزية، تستشرف رؤية خاصة لدراما الهجرة؛ لأن هذا الانفصال أو الافتراق التام بين عالمي أهالي الجزيرة وبين حياة المهاجرين الذين يصلون إلى مرفئها، ما هي إلا حث غير مباشر للتفكير في ما يحدث حولنا، والانخراط الملتزم في البحث عن الحلول اللازمة، إن لم أقل الناجعة، لمواجهة هذه التراجيدية الواضحة.

الهجرة وتعقيداتها

لم يفش المخرج شيئاً عن العلاقة بين الأهالي والمهاجرين الذين يصبحون بين عشية وضحاها بين طحالب مياه جزيرتهم، مرهقين، خائفين أو في أقصى تقدير، في نزعهم الأخير؛ وهي شيء حقيقي وواقعي، بل إن عمدة الجزيرة سيدة لها مواقف إيجابية والتزامات مهمة تجاه المهاجرين، لا ينكر أحد مشاغلها.

لكن الفيلم ربما يريد أن يستثير الرأي العام العالمي بالخصوص حول معضلة الهجرة، ثم حول الظروف الكارثية التي يمر بها المهاجرون في عبورهم عبر عباب البحر، ثم في قطعهم بعد ذلك أصقاع أوروبا في اتجاه الشمال الغربي لفرنسا في الغالب، رجاء الوصول إلى إنكلترا.

لهذا وظف المخرج شخصية الطفل صموئيل اللامبالي، والذي يعيش حياة هانئة، في حين تحدث المآسي على مقربة من دياره.

غير أن صموئيل يعاني من مرض يصيب العين هو الغبش، إذ لا يكاد يلمح شيئاً بإحدى عينيه، فيداويها لدى الطبيب نفسه، الذي يأخذ على عاتقه إسعاف المهاجرين.
قد تكون رمزية هذه العين التي لا تبصر جيداً، أو قد لا ترى شيئا هي حال أوروبا برمتها وليس فقط ساكنة جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
على العين أن تبصر إذن بشكل جيد، وأن تحيط بالمشهد وتنفتح البصيرة، أي الوعي التام بما يحدث، من أجل اتخاذ حل عملي شامل، قصد فك معضلة ما يقع في هذه الحدود البحرية التي اعتبرها الفيلم نارا على نار.

لكن ماذا على هذه العين التي أُريد لها أن تنفتح واسعة وتنظر إلى وضعية المهاجرين وهم يصلون أشلاء إلى ضفاف المتوسط الشمالي؟ ثم أن تعمد إلى مراقبة القوارب الخطرة التي لعبت أوروبا، في خلقها، بدولها جمعاء وأميركا دورا فظيعا؟

هذه العين، عين صموئيل، لن ترى شيئاً قبل أن يداويها الطبيب كلية، والحال أن مرضها لا دواء له حسب أقانيم الطب. ما يشي بالطابع المزمن للهجرة، وللاستحالة التامة في إيجاد حلولها.

إن الإقبال الذي عرفه فيلم "فوكوياماري"، والجوائز التي حاز عليها، جاءت في الغالب الأعم في الظرفية الخاصة التي يعرفها ملف الهجرة في أوروبا، إذا اعتبرنا سلباً، بأنها خارجة عن نطاق تقييم حقيقي للعمل الفني.

فحتى رئيس الحكومة الإيطالية اهتم بالفيلم. بينما تقدم البابا نفسه بطلب نسخة منه، بل استدعى المخرج للقائه. ما يدل دليلا قاطعا على هذا البعد الآخر لفيلم "فوكوياماري".

فالعنوان يستحضر أغنية تعود إلى أزمنة الحرب العالمية الثانية، حسب ما حكته لصموئيل جدتُه، لما تعرضت البواخر الإيطالية، في عرض البحر، للغارات البريطانية، فصارت مياه المتوسط قانية بلون الدم والنار. يعيد التاريخ نفسه إذن بشكل تراجيدي، حسب الفأل الماركسي المعروف: ينظر الغواصة إلى مياه البحر قبل أن يرتموا فيها، خشية اصطدامهم بالأجسام الطافية.

لا يحكي الفيلم في الواقع قصة، كما أنه لا يقوم على العناصر التي يفترضها الفيلم التسجيلي. ذلك أنه لا يعرض سوى لحظات متفرقة هنا وهناك لبعض ملامح التفاصيل اليومية لصموئيل، ثم لعائلته، كما أنه لا يستعمل أدوات الفيلم الوثائقي، من تحريات واستجوابات، واهتمام بالبعد العملي بخصوص الموضوعة المطروحة للبحث.

هي إذن طريقة جديدة في تناول ثيمة الهجرة، وما تثيره من أسئلة، وذلك في عالم اليوم، حيث اختلط الحابل بالنابل. فظلت الفوضى هي سيدة القول، حيث ضاعت الحدود ما بين الصيغ المختلفة لوجوه المهاجرين.

صارت أوروبا في الآونة الأخيرة عاجزة عن استيعاب الأسئلة الملحة التي تثيرها الهجرة، حتى أن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في حوار صحافي قد صدر أخيراً في كتاب، صرّح بأن المهاجرين كثر، وأن أعدادا منهم ما كان عليهم أن يتواجدوا بين ظهرانينا. ما يدل على البعد السجالي الهائل الذي يكتسيه موضوع الهجرة والمهاجرين، ما بين الأصوات الإنسانية الداعية إلى احتضان كل الهاربين من بلاد العوز والفقر، وبين الذين يخشون من حقيقة استقبال كل النازحين، ويطالبون بالتالي بجلائهم، رفضهم وإقصائهم.



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.