}

التباس الأصول واختلاط البدايات: "فايزة أحمد" دمشقية لا صيداوية

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 12 أكتوبر 2018
موسيقى التباس الأصول واختلاط البدايات: "فايزة أحمد" دمشقية لا صيداوية
فايزة أحمد

يحلو لبعض الأصدقاء أن يرسلوا إليّ، بطريقة مكرورة ومقصودة، صورة لإخراج قيد لبناني للمطربة السورية الكبيرة فايزة أحمد يظهر فيه أنها مولودة في مدينة صيدا في سنة 1934، وأن اسمها هو فايزة أحمد الرواس. ولعل الدافع إلى تكرار توزيع صور عن إخراج القيد هذا (أي السجل المدني) هو أنني كتبت مقالات عدة هنا وهناك أشرتُ فيها إلى أن فايزة أحمد، خلافاً لإخراج القيد اللبناني المضروب هي مطربة سورية ومن العاصمة دمشق بالتحديد لا من مدينة صيدا، وأن اسمها الصحيح هو فايزة أحمد بيكو وليس فايزة أحمد الرواس كما يرد في إخراج قيدها اللبناني. وعلى هذا المنوال أشرت مراراً، وها أنا أعيد ذلك من باب تأكيد الحقائق والوقائع الصحيحة، إلى أن والد المطربة اللبنانية فيروز (وديع حداد) سوري مهاجر من مدينة ماردين السورية إلى لبنان. ولا ريب أن فيروز لبنانية الصفة لأنها وُلدت في لبنان لأم لبنانية ووالد سوري، ولأن تجربتها الفنية تكاملت في لبنان مع أن الذين دربوا فيروز على الغناء وأخرجوا مسرحياتها الغنائية هم، علاوة على الأخوين رحباني بالطبع، ثلاثة فلسطينيين: حليم الرومي ومحمد غازي وصبري الشريف. وكان الفضل الأساس في إطلاقها إلى عالم الشهرة في بداياتها الأولى لسوريين أمثال أحمد عسة مدير الإذاعة السورية في خمسينيات القرن المنصرم، والشاعرين نزار قباني وبدوي الجبل، والكاتب الصحافي السوري رفيق خوري (من بلدة مشتى الحلو قبل أن يهاجر إلى لبنان ويصبح واحداً من أشهر كُتّاب العمود الصحافي اليومي)، ونجاة قصاب حسن وصباح قباني. وعلى هذا الغرار أكرر أن المطربة ماري جبران ذات الصوت النادر الذي كاد أن يتفوق على صوت أم كلثوم في أغنية "أصل الغرام نظرة"، هي سورية (اسمها الأصلي ماري يوسف جبور)، وإن تكن مولودة في بيروت في سنة 1907 حين لم تكن دولة لبنان قد ظهرت بعدُ ببركات الجنرال غورو. وكان والدها يوسف جبور نزح (أو عاد) مع عائلته إلى دمشق هرباً من المجاعة التي ضربت جبل لبنان في الحرب العالمية الأولى. وفي سورية لمعت ماري جبران كالشهاب قبل أن يختطفها السرطان. وعلى هذا النحو، وبمعيار التجربة الفنية والبدايات، يمكن اعتبار الفنانة بديعة مصابني سورية لأنها وُلدت في دمشق لأم سورية ولأب لبناني مقيم في دمشق يعمل في أحد المصابن (مصانع الصابون)، ولم تعش في لبنان على الإطلاق في ما عدا زياراتها الفنية المتباعدة. وقد هبطت لبنان بعدما غادرت مصر هاربة من الإفلاس والضرائب، واعتزلت الفن، وحازت الجنسية اللبنانية في 29/9/1950 بمرسوم وقّعه الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح (راجع: مذكرات بديعة مصابني، إعداد نازك باسيلا، بيروت: دار مكتبة الحياة، د.ت.).

تذاكى أحد الصحافيين الفنيين مرة فجعل المطربة وداد تونسية لأن والدتها المطربة صالحة تونسية الجذور (ثمة رواية تقول إنها إسكندرانية). والحقيقة ان اسم وداد الأصلي هو بهية فرج العواد، ووالدها عازف العود فرج العواد من يهود حلب (على غرار الشقيقين نسيم مراد- مردخاي وزكي مراد والد المطربة ليلى مراد والموسيقار منير مراد). وكان فرج العواد غادر مدينة حلب إلى مصر، وهناك عمل مع منيرة المهدية وفي فرقة أم كلثوم، ثم حط رحاله في لبنان مع ابنتيه بهية (التي صارت وداد والتي تزوجت الموسيقار توفيق الباشا وولدت منه العازف عبد الرحمن الباشا)، وأمل التي اشتهرت في الإذاعة اللبنانية باسم نرجس شوقي بعد زواجها من الملحن اليهودي اللبناني سليم بصل (سليم شوقي). والاثنان (أمل وسليم) غادرا إلى إسرائيل في سبعينيات القرن العشرين بعدما حامت حولهما شكوك جديدة في شأن اتصالهما بالمخابرات الإسرائيلية.

القصة الحقيقية لفايزة أحمد

الاسم الكامل للمطربة فايزة أحمد هو فايزة أحمد بيكو. وقد ولدت في أحد الأحياء الشعبية في مدينة دمشق في سنة 1930 (في قيدها اللبناني أنها مولودة في سنة 1934). وكان والدها أحمد بيكو يمتلك مطعماً متواضعاً في الحي، ووالدتها من آل الرواس. وآل الرواس سوريون ولبنانيون معاً مثل معظم عائلات صيدا كالبابا والأرناؤوط والددا والخياط (ومنهم تحسين الخياط صاحب قناة NTV) والديماسي والبزري (منهم عفيف البزري رئيس أركان الجيش السوري ونزيه البزري النائب والوزير اللبناني، وكذلك ابنه عبد الرحمن البزري رئيس بلدية صيدا الأسبق). والمعروف أن والدَي فايزة أحمد بيكو انفصلا بالطلاق وهي في السادسة، فحملتها أمها معها إلى مدينة صيدا، وهناك عاشت طفولتها المبكرة، واستحصلت لها أمها على إخراج قيد لبناني، وقُيِّدت على اسم زوج امها الجديد أحمد الرواس، فصارت تدعى في هذا القيد فايزة أحمد الرواس، بينما هي في الحقيقة فايزة أحمد بيكو. ويؤكد هذه المعلومات القاطعة كل من المؤرخ والناقد والموسيقي المشهور صميم الشريف في كتابه "الموسيقا في سورية: أعلام وتاريخ" (دمشق: وزارة الثقافة، 1991، ص 178)، والمؤرخ الفني الفلسطيني روبير صفدي، والإذاعي المصري وجدي الحكيم (انظر: محمد منصور، مطربات بلاد الشام، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2017، ص 85). ولدى أحد الأصدقاء وثيقتان عن السجل المدني لفايزة أحمد، اسمها في الأولى، وهي الأصلية والصحيحة، فايزة أحمد بيكو، واسمها في الثانية، أي في إخراج القيد اللبناني الذي اعتوره التضليل بصورة سافرة،  فايزة أحمد الرواس.

كشف اللثام وإزالة الأوهام

المشهور الصحيح أن الذي اكتشف فايزة أحمد هو العازف السوري شفيق شبيب الذي أصبح مشرفاً على دائرة الموسيقى في الإذاعة السورية بعدما استعادها والدها من أمها وعاد بها إلى دمشق من صيدا. وفي دمشق عملت في الملاهي المتواضعة مثل "النصر" و"الكواكب" (راجع: أحمد الجندي، لهو الأيام، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1991). غير أن شفيق شبيب هجر العزف والمعازف والموسيقى في سنة 1954 بعد أن تحول إلى العقيدة الأحمدية، فتعهدها الثلاثي السوري رفيق شكري ومحمد محسن ونجيب السراج، وكان أول لحن غنته فايزة أحمد هو تانغو "يا جارتي ليلى" الذي وضعه عبقري البزق السوري محمد عبد الكريم، وكتب كلماته الشاعر السوري جلال زريق، وهو أحد أركان الثلاثي المشهور في فلسطين ابراهيم طوقان وعبد الكريم (أبو سلمى) وجلال زريق. أما الأغنية الثانية فكانت موشح "يا ربي صلِّ على النبي" لمحمد محسن صاحب "سيد الهوى قمري" لفيروز. والمعروف أن فايزة أحمد تزوجت أول مرة في سنة 1946 المطرب الحلبي عمر النعامي، ثم تزوجت الضابط السوري مختار العابد. والواضح أن سنة ميلادها، أي 1934 بجسب قيدها اللبناني، موضع ريبة كبيرة ويشير إلى تضليل مؤكد. فمن المحال أن تتزوج فتاة في سورية، حتى في تلك الأيام، وهي في الثانية عشرة. وسجلات زواجها من عمر النعامي ثم من مختار العابد تؤكد أن اسمها الأصلي فايزة أحمد بيكو، وأنها مولودة في دمشق في سنة 1930 لا في سنة 1934 كما جاء في سجلها اللبناني، ولا يوجد في صيدا كلها عائلة تحمل اسم بيكو على غرار العائلات الأخرى المنقسمة بين صيدا ودمشق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.