}

دانيال داي ـ لويس:أهو اعتزال أخير، أم استراحة مؤقّتة؟

نديم جرجوره نديم جرجوره 13 مارس 2018
سينما دانيال داي ـ لويس:أهو اعتزال أخير، أم استراحة مؤقّتة؟
دانيال دي لويس في فيلم "سيكون هناك دم"
صخب "أوسكار" منتهٍ. الحفلة الـ90 (4 مارس/ آذار 2018) تبقى لحظة محفوظة في التاريخ السينمائيّ الأميركي والدولي. الفائزون فرحون، والخاسرون ـ وهم الأكثرية ـ يتابعون، كالفائزين، مساراتهم المهنية والحياتية، بانتظار حفلة جديدة مقبلة، تأتي بعد وقتٍ من اشتغالٍ في مشروع أو أكثر. الاستعراض والأضواء والأزياء والمجوهرات والإعلام المرئيّ، أمورٌ عابرة. السينما أبقى وأعمق وأهمّ.

التوقّعات، هي أيضًا، حاضرةٌ، تحديدًا منذ الإعلان عن الترشيحات الرسمية (23 يناير/ كانون الثاني 2018). أبرزها متعلّق بالممثل البريطاني ـ والمواطن الإيرلندي منذ عام 1993 ـ دانيال داي ـ لويس (لندن، 29 إبريل/ نيسان 1957). ترشيحٌ إضافي له في فئة أفضل ممثل، عن دوره في "الخيوط الوهمية" (2017)، للأميركي بول توماس أندرسن (1970)، دافعٌ إلى تمنٍّ بالفوز. تمنٍّ مبنيّ على أمرين اثنين: دوره هذا سيكون "الأخير" له في صناعة السينما، لاتّخاذه قرارًا بالاعتزال (بناءً على أقوالٍ له، وتأكيداتِ مقرّبين إليه)؛ وأداؤه الساحر في أحد أجمل أدواره السينمائية، وهو الثاني له مع أندرسن (له اشتغالات مسرحية متفرّقة، في أوقاتٍ ماضية).

 

انسحاب

لا فوز له. لكن، أيضًا، لا عودة عن قرار الاعتزال، أقلّه لغاية الآن. الرغبة في الانصراف الكلّي إلى حياة خاصّة به وبعائلته، أقوى من أي وقتٍ ماضٍ. له، مع قرار الاعتزال، سابقة تعود إلى نهاية تسعينيات القرن الـ20. بعد انتهائه من التصوير "العاصف" لـ"الملاكم" (1997) لجيم شيريدان (1949) ـ ولهما معًا "قدمي اليُسرى" (1989) و"باسم الأب" (1993) ـ يُقرِّر الممثل الانسحاب من المشهد السينمائي، والتوجّه إلى إيطاليا، للعمل في صناعة الأحذية.

ثقل الأدوار دافعٌ إلى استراحةٍ، يريدها طويلة. الاستراحة الأولى "مؤقّتة"، بدليل عودته إلى التمثيل. الاستراحة الثانية تبدو أطول، بدليل التزامه إياها بشدّة. شغفه العميق بالتمثيل سببٌ لإرهاقٍ جسدي ونفسي ومعنوي، فهل يكون دافعًا لعودة أخرى؟ أسلوبه ـ المنبثق من تقنيات "أكتورز استديو"، مع إضافات مسرحية ـ يجعله مندغمًا ـ إلى أبعد الحدود ـ مع الأدوار التي يُوافِق على تأديتها. اختياره نمطًا أدائيًا، مبنيًا على الانصهار في الشخصية خلال فترة التصوير كلّها، تمرينٌ على ابتكار الأجمل، وفي الوقت نفسه قسوة على جسدٍ وروح. هيامه بلعبة الأداء تحريضٌ له على إسرافٍ في الاستعانة بانفعالاتٍ، تذهب به من "الأكثر إفراطًا" إلى "الأكثر دفئًا"، وكلّ حالة محتاجة إلى تورّط مطلق في المهنة. أي إلى توظيف العقل والجسد والروح والحساسية كلّها في خدمة الدور/ الشخصية.

الأميركي مايكل مان (1943) ـ المتعاون معه في "آخر الموهيكان"(1992) ـ يقول إن أفضل ما يُمكن الحصول عليه، بالنسبة إلى مخرجٍ، يكمن في أسلوبٍ يعتمده داي لويس: "مقتنعٌ أنا ـ بشكلٍ عميق ـ بأنه إذا تمكّن ممثلٌ من فعل الأشياء التي تفعلها الشخصية (التي يؤدّيها)، فإنه يُصبح ـ حينها ـ الشخصية". وهو ـ بحسب جيم شيريدان ـ "متمكّن من التحوّل، لكن ليس بمعنى الشكل الخارجي، أي الانتقال إلى شخصية أخرى. فالتحوّل الذي يعيشه داي ـ لويس يأخذه إلى اعماق الذات". (أهي "ذات" الممثل بتأديته الشخصية، أم أنها "ذات" الشخصية نفسها؟).

هذا منبثقٌ من اعتبارٍ لديه، يُفيد بضرورة منح الشخصية حاجاتها كلّها، وبأولوية تمكين الدور من بلوغ "الأقصى"، أو أبعد بقليل منه: "لا أسأله عن أسلوبه في العمل، ولا يسألني عن أسلوبي في العمل. هذا فنٌّ، لا علم"ـ يقول ستيفن سبيلبيرغ (1946) عنه.

للناقد الفرنسي صامويل بلومنفيلد (1963) قولٌ صائبٌ: "إنه الممثل المتقدِّم بصفته سيّد اللغة وحقيقة الجسد، على حساب الفصاحة" (ادّعاء لفظيّ أو كلاميّ!). فهو، بالنسبة إلى الناقد نفسه، "من سلالة أولئك الممثلين، المقتربين من حدّ فقدان القدرة على الكلام، الذين يُمتَصّ تمرُّدُهم الصامت بمسام الجسد كلّه" (الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، 9 فبراير/ شباط 2008). بينما تكتب الأميركية ريبيكا فلينت ماركس عنه، قائلةً إن "كثافة حضوره الطاغي خارج الشاشة هي المنافِس الوحيد لكثافة حضوره عليها". تُضيف: "هو الأكثر شهرةً والأقل تقديرًا وتفهّمًا (من قِبل الآخرين) في جيله". أما القصص المروية عن احتجابه المطلق في أدواره، فـ" أسطورية" ("نيويورك تايمز"، 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011).


دانيال دي لويس وبول توماس أندرسون (فيسبوك)

المؤكّد، في هذا كلّه، أن دانيال داي ـ لويس أحد كبار الممثلين الأنغلوفونيين، تمامًا كالأميركيَّين جين هاكمان (1930) وكلينت إيستوود (1930). فهو "الحِرفي المتمكّن من صُنعته، والجدير بالثقة، الذي لا يُخطئ هدفه، والذي يفي ـ دائمًا ـ بوعوده". هو أحد الممثلين ـ قليلي العدد للغاية ـ الذين يتعمَّقون كثيرًا  في روح الشخصية التي يؤدّونها، وفي أعماق ذاتها أيضًا، إلى درجة تجعل العيش معهم، من قِبَل محيطهم، صعبًا جدًا.

ألا يُذكّر هذا بمارلون براندو (1924 ـ 2004) وشون بن (1960)؟ ألا يؤكّد هذا، مثلاً، على أن داي ـ لويس "الأكثر تطرّفًا في مهنته"، و"الأفضل بين الجميع"، كما يقول كثيرون؟

 

قسوة العودة.. وهدوؤها

التجربة الأولى للاعتزال يُعطِّلها مارتن سكورسيزي (1942). بعد وقتٍ على "العزلة الإيطالية"، يتمكّن المخرج النيويوركي من إقناع الممثل البريطاني بالعودة إلى البلاتوهات. المشروع مثير للحماسة: "عصابات نيويورك" (2002). التجربة قابلة لنقاشٍ دائم حول فعل الأداء، وحيويته ونبضه. الغليان والسلطة ووحشية الأنانية المطلقة، والانتشاء بتشييد مدينة، وسطوة الإجرام، ومصادرة قوّة الحياة والموت، وهذه كلّها مجموعة في شخصية واحدة، ويليام "بِلْ الجزّار" كاتّينغ، أمورٌ تدفع إلى سحر الصورة، وجمالية العنف، وبراعة اللغة المتنوّعة الأشكال، التي يعتمدها الممثل والشخصية معًا (حركة جسد، وانفعال روح، ونظرة عين زجاجية، وأسلوب كلام ونطق، ومنطق قول وفعل، وحساسية فرد، إلخ): "بتأديته شخصية جزّار دموي، يُقدِّم دانيال داي ـ لويس أحد عروضه الأكثر هذيانية" (فردريك فوبير، المجلة السينمائية الشهرية الفرنسية "بروميير"، فبراير/ شباط 2018).

رغم وحشية الدور وقسوة الشخصية، في "عصابات نيويورك"، ستكون عودة دانيال داي ـ لويس إلى التمثيل هادئة. لن يُمثِّل كثيرًا. يتأنّى في اختيار الأدوار. يجعل خياراته نموذجية، فتُصبح الأدوار تلك فصولاً من درسٍ عمليّ لفعل الأداء. اشتغاله مرتكزٌ على توظيفٍ كامل لكلّ ما يملكه من وعي وروحٍ وجسد وتفكير والتزام، في الدور/ الشخصية. "تورّطه" في أيّ دورٍ يختاره لن يرحمه. غوصه في تفاصيل الشخصية وعوالمها المختلفة، يتطلّب وقتًا طويلاً ومريرًا للخروج منها. ربما، لهذا كلّه، يُشارك في 5 أفلام فقط، خلال 15 عامًا، أي بين "عصابات نيويورك" و"الخيوط الوهمية"؛ بينما روبرت دي نيرو (1943) ـ أكثر الممثلين منافسةً له في لائحة "أهمّ ممثل أنجبته الأرض" ـ مُشاركٌ في 38 فيلمًا، في الفترة نفسها.

يتردّد دانيال داي ـ لويس عن التمثيل في "9" (2009) لروب مارشال (1960). الفيلم تحية للإيطالي فيديريكو فيلّيني (1920 ـ 1993)، خصوصًا في رائعته "تسعة ونصف" (1963). النمط مختلفٌ كلّيًا عن مساره السينمائي. الموسيقى والغناء والرقص، أمورٌ تبدو عصيّة عليه، رغم أنه يؤدّي دور مخرجٍ (50 عامًا)، يعاني أزمة ابتكار وعيشٍ. مع هذا، يُقدِّم داي ـ لويس دورًا متماسكًا، كأن الفيلم اختبارٌ، يصقل شيئًا من حساسيته ولغته وهاجسه التمثيلي. وفي "الخيوط الوهمية"، يرتدي زيّ مُصمِّم أزياء "لندنيّ"، في خمسينيات القرن الـ20، يواجه أصعب تحدّياتٍ ممكنة، في ابتكار المهنة، وفي إغواء الأنانية، وفي سحر الأقمشة وألوانها وملمسها؛ وأيضًا في معنى الحبّ والتضحية والارتباط والأهواء الذاتية البحتة.

 

"قبل تصوير "الخيوط الوهمية"، لم أكن أعرف أني سأتوقّف عن التمثيل. ضحكنا كثيرًا، بول (توماس أندرسن) وأنا، أثناء التحضيرات. ثم توقّفنا عن الضحك. غرقنا في شعورٍ كبيرٍ من الحزن. هذا حاصلٌ بشكل فجائي. لم نُدرك ما الذي أنجبناه. هذا يصعب العيش معه. هذا لا يزال، لغاية الآن، يصعب العيش معه"، يقول دانيال داي ـ لويس (المجلة الشهرية الأميركية W، المتخصّصة بالأزياء، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017). يُضيف: "هذه الرغبة في التوقّف منغرسةٌ فيّ. لم تتركني البتّة. لن أشاهد "الخيوط الوهمية". لم يُغادرني الحزن".

 

3 "أوسكارات" لأداءٍ ساحرٍ

يصعب اختزال السيرة المهنيّة لدانيال داي ـ لويس بتحليلٍ أو تعليقٍ أو قراءة واحدة. أداؤه منبثقٌ من تلك الحساسية المفرطة إزاء الدور/ الشخصية، وإزاء النصّ/ الفضاء الدرامي، وإزاء الاشتغال/ المعالجة والبناء الدراميين. يبقى في موقعه كممثل. أي أنه منصرفٌ إلى لغة الجسد والنبرة والحركة والحيوية والانفعال، انطلاقًا من نصّ وعلاقة ما مع المخرج، ومن تفاهم سابقٍ لبداية التصوير. يُريد للشخصية واقعية مطلقة، فينشغل بها كلّيًا. لكنه، أثناء ذلك، لن يتخلّى عن ذاته لحساب الدور/ الشخصية (رغم تورّطه المطلق فيهما)، بقدر ما يضع ذاته في خلفية الدور/ الشخصية، للإمساك باللعبة الأدائية، ومنعها من المبالغة. المسافة بين الممثل والشخصية ضرورة جمالية وثقافية وإنسانية ودرامية. مسافة تسمح للممثل بالتنبّه الدائم إلى كيفية اشتغاله في الشخصية، كي يُحصِّن الشخصية من التوهان أو الضياع. هذا كلّه حاضرٌ في اشتغاله، رغم انصرافه المطلق إلى الدور/ الشخصية.

الأمثلة عديدة. لكن الأدوار المانحة إياه 3 جوائز "أوسكار" في فئة أفضل ممثل، لن تكون كلّها متوافقة ومفردات اشتغاله. لعلّ أجملها على الإطلاق كامنٌ في شخصية دانيال بلانفيو، في "ستكون هناك دماء"، مكتشف النفط في منطقة قريبة من لوس أنجلوس، مطلع القرن الـ20. أو ربما في شخصية كريستي براون (1932 ـ 1981)، الشاعر والرسّام الإيرلندي، المُصاب بشلل "كامل"، باستثناء قدمه اليسرى، التي استعان بها للرسم والكتابة؛ في حين أن تأديته شخصية أبراهام لينكولن (1809 ـ 1865)، في الأشهر القليلة السابقة على اغتياله، أي اثناء خوضه معركة التعديل الـ13 للدستور الأميركي (إلغاء العبودية)، قبيل انتهاء الحرب الأهلية الأميركية (1861 ـ 1865)، في "لينكولن" (2012) لستيفن سبيلبيرغ (1946)، ثالث جوائزه تلك، فيبقى الأقلّ أهمية، رغم حِرفيته الواضحة.

لكن دانيال داي ـ لويس منخرطٌ، أيضًا، في الهمّ الإيرلندي. يخوض معركة حقٍّ ضد وحشية نظام بوليسي قامع، كي يروي فصولاً من التعسّف الحاقد، والهمجية الأمنية، في معقل "الديمقراطية المعطّلة"، في "باسم الأب"، أو "برهانُ البريء"، كما العنوان الإنكليزي لكتاب غيرّي كونلن (1954 ـ 2014)، المقتبس عنه؛ أو في "الملاكم"، الذي يُقدِّم صورة شبيهة بحكاية الافتراء الأمني الاستخباراتي الإنكليزي ضد إيرلنديين.

أيًا يكن، واللائحة غنيّة بعناوين مثيرة لمتعة المُشاهدة الدائمة وللذّة النقاش المتنوّع، فإنّ دانيال داي ـ لويس لن يُشاهد "الخيوط الوهمية"، كما يقول. لكن "الخيوط الوهمية" سيبقى "الفيلم ـ الشاهد على لحظةِ الترنّح، التي أصابت شُعلة التمثيل لديه، قبل أن تخمد".

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.