}

محمد نور الدين أفاية.. السينما وتحرير الفكر

أشرف الحساني 1 أكتوبر 2019
سينما محمد نور الدين أفاية.. السينما وتحرير الفكر
أفاية: المشتغل بالسينما يشتغل داخل حقل كله ألغام

لعب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز دورا كبيرا في إرساء قواعد وأسس الفكر السينمائي داخل الفلسفة المعاصرة من خلال كتابه الطليعي، الذي صدر عبر جزأين، الأول "سينما: الصورة – الحركة" والثاني "سينما: الصورة – الزمن" وقام بترجمتهما جمال شحيد وصدرا عن مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2014. غير أن المفكرين العرب لم ينتظروا ترجمة الكتاب إلى العربية حتى يستطيعوا قراءته وكشف عوالمه الفكرية المذهلة، بل تلقفوه منذ صدور الجزء الأول منه عام 1983 خاصة داخل البلدان العربية ذات اللسان المزدوج الفرنكفوني، لكنهم لم يفطنوا إلى ما يمكن أن يستنبته هذا الفكر السينمائي داخل الفكر العربي المعاصر الغارق آنذاك في مفاهيم الهوية والأصالة والمعاصرة والقومية والماركسية وغيرها من المفاهيم والثنائيات، التي شغلت المفكرين العرب كعبد الله العروي والطيب تيزيني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وغيرهم. لذلك فإن وجود مفكر عربي اليوم قام بتأسيس واجتراح مشروعه الفكري انطلاقا من السينما هو أمر أقرب إلى الاستحالة منه إلى الممكن، أولا نظرا إلى الغموض الكبير، الذي ظل يكتنف هذا المبحث الشائك المتعدد المقاربات والمنطلقات الإبستمولوجية، ثم الصعوبة التي تختزنها الصورة السينمائية وقدرة مفكر ما على فك ميكانيزمات هذا النمط الصعب من الصورة، الذي يفرض على المرء معاينة دائمة للمنجز السينمائي العالمي وثقافة كبيرة في تاريخ الفكر الجمالي بغية سبر أغواره والتعامل معه تعاملا حذرا في مقاربته للمتن البصري، الذي يتوخى مشاهدته.
ومع ذلك ظل تلقي الكتاب داخل الثقافة العربية المعاصرة محصورا في القراءة فقط، دون الغوص في مساءلته وتفكيكه بغية استشعار الأهمية الكبرى، التي يفرضها دولوز على الفكر الفلسفي المعاصر والإبدال المفاهيمي والمنهجي المغاير، الذي يقترحه، بحيث أن الكتاب في نظري قد فتح قارة مجهولة ولامفكر فيها داخل الفكر المعاصر من خلال تتبعه الحصيف لتحليل علاقة السينما بالحركة وبالزمن، وهي المفاهيم نفسها، التي اشتغل عليها برغسون خاصة في كتابه، الذي صدر سنة 1896 موسوما بـ "Matière et mémoire" والتي جعلها دولوز مدخلا لمجمل تحليلاته حول الحركة والزمن داخل الصورة السينمائية، ومع ذلك ظل الكتاب غائبا داخل مدونة الفكر العربي إلى حدود اليوم، باستثناء بعض الدراسات، التي أنجزت حول الكتاب، لكنها لم تتجاوز غاية التعريف به إلى مرحلة أخرى، يتم فيها أخذ الكتاب ومفاهيمه مدخلا لصياغة مشروع فكري عربي ينطلق في أساسه من السينما.


الصورة والمعنى


اللقاء الثقافي الذي نظم يوم الجمعة 27 أيلول/سبتمبر 2019 من قبل الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب (جواسم) حول مناقشة وتوقيع الكتاب الأخير "الصورة والمعنى: السينما والتفكير بالفعل" (المركز الثقافي للكتاب، 406 صفحة) للمفكر المغربي محمد نورالدين أفاية، يطرح علينا سؤالا جديدا حول مصير السينما في ظل الطفرة التكنولوجية، التي اجتاحت الثقافة العربية المعاصرة، وخلخلت معها جملة من المفاهيم والقضايا، كانت بمثابة يقينيات مطلقة تحكم الثقافة، فجاء اللقاء احتفاء بالكتاب أولا، ثم يقوم بمساءلة جوهره، الذي هو السينما وعوالمها من خلال بعض الموضوعات، التي حاول من خلالها نور الدين أفاية إعادة النظر في يقينياتها وما يمكن أن تحمله من شوائب فكرية مثل: تجليات الجميل بين اندفاعات الذات وحضور الآخر، السينما وتعرجات الكتابة، السينما: النقد أو التفكير بالفعل، السينما والموت، الآخر في متخيل السينما، السينما والتاريخ، مسائل الهجرة والجسد مرورا بفلسطين في السينما وسيرورة الوعي المغاربي بالذات وغيرها من الموضوعات، التي شكلت أفقا جديدا للبحث والنقد السينمائي المغربي. لذلك فإن الكتاب يشكل في نظري منارة سباقة لإعطاء قيمة أكبر للتفكير في السينما.
يقول أفاية في مقدمة الكتاب بهذا الصدد "إن الموقف من السينما في الزمن المعاصر هو، في جوهره، موقف من أكثر أشكال التعبير الجمالية والفكرية حداثة. وهكذا نجد أنفسنا أمام قضية تتجاوز الاهتمام السينمائي لتتشابك مع أسئلة الهوية والفكر والتاريخ والأخلاق، ونمط العيش وأسلوب الإنتاج الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية والاختيارات السياسية والثقافية. فهي تكثف من هموم هذا المثقف في انفصال شبه تام عن هواجس وإنتاجات السينمائي، إلا فيما ندر".



دور الأندية السينمائية
استهل أفاية حديثه بعد التقديم الممتع، الذي خصه به الناقد المغربي حسن نرايس عن مكانة الجامعة الوطنية للأندية السينمائية في حياته، قائلاً: "لو لم تكن الأندية السينمائية في حياتي لكنت قد اخترت مسارا آخر، فهي غيرت من رؤيتي ومن تربيتي ومن تكويني ومن مشاعري، بل ومن نظرتي إلى ذاتي. ومن القدرة الديناميكية الخاصة، التي كانت للأندية في السبعينيات، والكيمياء الخاصة، سواء الثقافية أو البشرية أو الفنية أو السياسية تغيرت بالضرورة وجهاتي. لذلك فأنا ممتن لهذه الأندية السينمائية، التي تعرضت في نظري لظلم تأريخي وثقافي من زاوية الاعتراف بما قدمته من خدمات لجيل كامل وللثقافة النقدية المغربية. بالرغم من أن هنالك جمعيات ثقافية كان يدور ويحوم حولها كثير من الضجيج ولكن إسهاماتها كانت جد متواضعة على مستوى الفاعلية الثقافية في النسيج الثقافي الوطني، في حين أن جامعة الأندية السينمائية في وقت من الأوقات تحتوي على ما لا يقل عن 56 نادياً وكل واحد من هذه النوادي ينظم نشاطا سينمائيا على الأقل في الأسبوع، وكانت تستقطب عشرات الآلاف من الشباب المنخرطين، ولهذا أتصور أن هذه التجربة الثقافية والجمعوية والإنسانية لم تحظ بالاهتمام التأريخي الضروري، لذلك أحببت أن يكون لقاء توقيع ومناقشة الكتاب الجديد في أحضان هذا النادي السينمائي".

يضيف أفاية عن قصة تأليف الكتاب ردا على سؤال نرايس: "هذا الكتاب كان من الممكن أن يكون أكثر من كتاب وله قصة. وفيه مقالات سبق لي أن نشرتها وحين قررت إعادة نشرها عدت إليها وأعدت تحريرها وتحيينها وتطعيمها بمراجع وقراءات جديدة. لكن هنالك نصوص جديدة. فالفصل الأول مثلا وضع للكتاب وفصول أخرى في الكتاب حاولت أن أضع لها هندسة تستجيب للإشكاليات المحددة للأقسام وللفصول المكونة للكتاب. وهنا أشير إلى الصعوبة، التي تعترض الباحث العازم على التنقيب في السينما ومكوناتها، فهو مطالب أن يقرأ الكتب النظرية، التي تسمح بأن يقترب من الأسئلة والقضايا الكبرى، التي تطرحها الأفلام، ثم ما يكتب عنها على المستوى الجهوي والمحلي والعربي وأيضا العالمي. ثم هنالك أمر آخر متمثل في الاحتكاك بالمجتمع وما يحصل داخله من مشاكل وفي البناء السيكولوجي الجماعي ومتخيله والأحداث السياسية وتأثيرها في ذلك، وبالتالي ففعل الكتابة قرار وجودي ليس سهلا، فنحن لا نكتب فقط لنعبر عن أفكار وآراء ومشاعر وإنما نكتب لنسجل لحظة لها امتداداتها ولقارئ مفترض لا يعرف صفته ولا حساسيته وطريقة تلقيه للنص، الذي يقرأه.. هكذا جاءت فكرة الكتاب، الذي تبدى لي في لحظة من اللحظات أنه يستحق أن ينشر، لكنه لا يدعي أي ادعاء، باستثناء أن يساهم في اقتراح بعض الأفكار والانفتاحات المتعلقة بالظاهرة السينمائية. ولا شك أن القارئ للكتاب من مقدمته إلى الفصل الأخير منه سيلمس المجهود الذي بذلته فيه من خلال طرح جملة من المحاور، سواء ما تعلق بتاريخ الجماليات أو بالصورة السينمائية والنقد وغيره من المحاور".
ويتابع حديثه عن العلاقة بين الفلسفة والسينما فيؤكد أن اهتمام الفلسفة بالسينما "لا يمكن أن نعتبره اهتماما استثنائيا يتميز بفصيلة خصوصية، إذ أن الظاهرة السينمائية اهتمت بها كل الحقول من تاريخ وسوسيولوجيا وعلم النفس، فالسينما لم تنتظر مثلا كتابات جيل دولوز وآلان باديو لكي يهتموا بها، إذ كانت هنالك مقدمات فلسفية أولى اشتغلت على الثقافة السينمائية. فدولوز في كتابه حول الصورة اعتبر أن التنظير في السينما يجب أن نعود فيه إلى برغسون، هذا الأخير لم يهتم بها بشكل مباشر، بل نجد أن تنظيره للحركة ولمفهوم الزمان والمكان والديمومة، هو الذي أدى بدولوز انطلاقا من الانفتاحات، التي اقترحها عليه أندري بازان وسيرج دالي في "دفاتر السينما". وبالتالي فإن الكثير من المهتمين بالفلسفة اشتغلوا على السينما لأنهم وجدوا فيها أفقا للنظر والتحليل، ولا يرتبط الأمر بالفلسفة فقط، بل بكل العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي يمكن أن تقارب موضوع الصورة السينمائية، وهذا ما حاولت تبيانه وتعريفه وبلورته من خلال قراءات داخل الكتاب".

أزمة السيناريو
ويختم كلامه عن أزمة السيناريو بقوله: "لا شك أن السيناريو هو العمل الأولي للفيلم والكتابة

الروائية ليست هي الفيلم بدليل أن الكثير من الروايات الكبيرة حين حولت إلى أفلام فشلت، مثل رواية "البحث عن الزمن الضائع" لبروست والذي وضع السيناريو له واحد من أفضل كتاب السيناريو في العالم جون كلود كاريير، ولكن الفيلم كان بالنسبة لي محبطا، فالأسئلة الكبرى والعقدة والشخصيات والبناء السردي في الرواية حين تحول إلى مشاهد فيلمية اختل البناء العام للرواية. وإذا ما أردنا أن نعالج أزمة السيناريو في المغرب أو في إطار التاريخ الخاص للسينما وللكتابة السيناريستية وعلاقتها بمن يكتبها وبالحقل الثقافي الذي صنع فيه، لا بد من القول إن السينما خبرة وصنعة وكفاءة وبناء ولا يستطيع أي شخص كتابة السيناريو، حتى ولو كان مخرجا ناجحا أحيانا، لهذا فالسينما هي من أصعب الفنون لأن الفاعل السينمائي يبدأ من الفكرة لكي يحولها إلى سيناريو ثم يبدأ بالبحث عن مصادر التمويل ويذهب للحصول على رخصة كي يكتسب حرية التصوير ثم التصويب والإنجاز والمونتاج والتوزيع، وكل هذه آليات ومراحل جد معقدة إلى أن نصل إلى مرحلة القلق، حين يأتي المخرج أمام المتلقي والصحافيين والنقاد. فالمشتغل في حقل السينما يشتغل داخل حقل كله ألغام وصعوبات، خاصة في المغرب".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.