}

مصطفى النشار والتجربة الصوفية في اللوحة

أسعد عرابي 20 ديسمبر 2019
تشكيل مصطفى النشار والتجربة الصوفية في اللوحة
"معجبو اللوحات يتحسسون ذوقية عرفانية أشكاله وصبوته الوجدية التصوفية"
هو فنان فرنسي من أصل سوري مولود في حماة عام 1940م ويعتبر من أعمدة هذه المدرسة الرهيفة بعقدها المتفوق: نشأت الزعبي توأمه الروحي وعلي صابوني وأخويه ماجد ومخلص، ثم عبد اللطيف صمودي ثم شنتوت وجلل ثم آخر العقد النحاتة الاستثنائية نور عسلية ثمرة عالم الجمال الأكبر محمود حوا. تدرب متأخراً بسبب تواضع أحواله المادية في كلية فنون دمشق ثم بوزار باريس. عانى الأمرين بعد حادث مؤلم أفقده أعز ما يملك، عينه اليمنى. ثم ترأف به حال الزمان عندما تعرف على زوجته الفنانة الألمانية غودرون، يعملان معاً في ترميم اللوحات وفي ميدانهما الأساسي، هو مصور تجريدي صوفي يحمل أجنحة روحانية تحلق في مواجيد عوالمه المشكاتية، وهي تعمل في تصاوير الفريسك والسجاد، منخرطة في حماسة الخضر والإيكولوجيين، تنحاز إلى من يدافع عن «الأوزون» وعن تجنب جفاف الكوكب الأرضي وتدافع عن النازحين.  يقع محترفهما على بعد مئة كلم من مدينة تولوز الجنوبية، ينعمان بفردوس الطبيعة الفرنسية الغنّاء والمعتدلة الطقس في المنطقة. ساعدته على العرض في صالات أوروبية متباعدة. ولكني أراه لا يزال مجهولاً مقارنة بتفرده الأسلوبي وعمق روحانيته اللونية وعبقريته التصويرية مثله مثل الثلاثية التي تجمع الزوجين: «الماء والريح والروح» وفق تعبيره. لا يماثله روحياً إلا حسن جاها في المدينة المنورة.

الأحرف المتمردة 

















ولكن من هو هذا المجهول الذي يقع على هامش الشهرة والنقد؟ إنه مصطفى النشار الفرنسي السوري. معلّم عريق ابتلعته موجة الزمان متمسكاً بأهداب الذاكرة والنسيان، هي حال لوحته منذ نصف قرن.
سقطت بيننا الأزمان وباعدت بين لوحتينا الأماكن والبحث الدؤوب العاثر عن الوطن البديل وهو اللوحة. يعتبر بالنسبة لي صنو وتوأم ونظير المعلم نشأت الزعبي، تجمعهما تصوفية «ذوقية» لونية متقاربة، لأنها تنهل من نفس المعين: الفن الإسلامي. هو الذي جعلت تقاليده من اللوحة مسطحاً دون حجم. جعلت من التصوير ورقة أو مرآة أو جدار، أو بمعنى أعمق «التنزيه» المنافي «للتشبيه». أي جعلت التصوير مع تعددية مواقع النظر وتعددية مصادر النور. بلا ظلال ولا حجم ولا مناظير لا صينية ولا غربية. تجمعهما حضرات آلة عود ثالثهم بديع العوير أحد نواعير الطرب في أمسيات العاصي وأنين الجدران الطينية الموشومة برسوم المواهب المبكرة. لعلّ حماة عاصمة الفن التشكيلي السوري! ربما!.

شطحات معلوماتية 

















مصطفى النشار (مثل الزعبي): هو الفنان الحكيم التأملي. تكشف ابتسامته مفاتن التوازن والسلام الداخلي الذي يصب في مناخات لوحته. كل أحياء وجمادات حماة قابلة للرسم والتصوير: نواعير العاصي التي ترسم وتئن حوافه، قصورها الكيلانية الغاربة، حماماتها الحميمة المقوسة مثل السلحفاة، زواريبها الملتوية الملتاعة بنوافذ مشربياتها، ويستمر نبض الحياة مع السابحين الصغار في حضن مياه البرازخ وخضم الترع المتفرعة عن زمزم المدينة.

التوليف بين أنواع الفنون التراثية
يعتمد مختبره اللوني على خرق الحدود بين أنواع الفنون كما هي تربيته الذوقية – الصناعية الروحية، فالفن العربي الإسلامي لا يفرق بين الفنون التشكيلية (النخبوية) والفنون التطبيقية (الشعبية). يرفع مثلها الحواجز الحسية بين الصوت والضوء، بين البصر والسماعي. تجتمع هاتان الحاستان في القلب (الحدس) فنسمع بالعين ونبصر بالأذن. من هنا تتواشج لديه إيقاعات الحروف القدسية (نتبين في إحداها لفظ الجلالة) بالمقامات اللونية. ونحن نعلم بأن الرموز العرفانية تقودنا إلى تمييز أن لكل لون معراجا وأن لكل معراج لونا رمزيا، فالسفر مع الله لون أصفر، والسفر من الله لون بنفسجي والسفر في الله لون أخضر والسفر عن الله بلا لون وهكذا.


مقامات بالأحمر  

















إن أسرار الحروفية المشكاتية لمصطفى تذكرنا بأن مؤسس الحروفية هو المتصوف النسيمي وقبره في حلب، لعلّه ولهذا السبب تطورت النزعة الحروفية في مدرسة حلب منذ الخطوط السريانية.
نجده بادئ ذي بدء يستثمر روحانية الحليات القرآنية التي انبثق عنها تاريخياً فن تصاوير المخطوطات (المنمنمات)، وإعادة تكوين صفحات المصحف الأول ابتداءً من تثبيت إطارات الهوامش الهندسية ولعبة خروج بعض الموتيفات الداخلية عبرها إلى المطلق. تبتدئ تشكيلاته دوماً من مركزية إطار الصفحة المسطرة هندسياً بصيغة تربيعية غالبة. تطورت مع الأيام رحابة الهوامش وصناعة الحليات المرافقة خاصة لعناوين الآيات مزدانة بخط «الثلث» في حين ظلت أنواع النسخ مسيطرة على طريقة كتابة النصوص.

وجد بالأخضر 


















لا يفرق مصطفى بين هذه العناصر، تتفاعل الحليات مع طرز الخط وأشرطته مع المقامات اللونية المستخدمة عادة في المنمنمات بإشراقها المشكاتي أو الكاليودوسكوبي (شظايا المرايا المتعاكسة). وحين يستغرق في رهافة حياكة السطح المخملي يقع في نمط بدرجة ما من الباروك الاستشراقي (مقارنة بحدسية ماتيس وبول كلي وحتى نشأت الزعبي)، ما ينقذ تعثره في الأسلبة شطحاته اللونية الإعجازية، فهو ملون من الدرجة الأولى، عرفنا هذه الخصلة لدى بعض الفنانين السوريين خاصة مدرسة حمص القرينة ما بين كرم معتوق وشهدا ودحدوح (فؤاد) وعلى رأسهم فاتح مدرس في دمشق. ثم إن آلية الحياكة الباروكية التي تستغرقها التفاصيل مستقاة أساساً من السجاجيد القدسية التي تحافظ على بنية اللحمة والسداة، بعضها خاصة في خانقاهات حلب لا يداس على أديمها بالأقدام بل ترفع لتعلق على الجدران أو تتهادى لتغطي أضرحة الأقطاب (مثل مولانا الرومي في قونيه). لوحات مصطفى لا يفوتها التوليف مع مربعات السيراميك المتوهجة مثل فنون النار والنور، تحمل قدسية هذه السجاجيد، بل هي أشبه بمنافذ المحراب التي تقود إلى قدس الأقداس كما رآها بول كلي مرصعة بما لذ وطاب من العقيق والمرجان والأبلق والسيراميك (الزيلليج) وشظايا المرايا، وغيرها وذلك وفق طرازها المعماري. وهكذا فإن معجبي لوحات مصطفى يتحسسون ذوقية عرفانية أشكاله وصبوته الوجدية التصوفية عامة.
أغلق المعرض أبوابه منذ أيام قريبة في جامعة السوربون في باريس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.