}

"فاكهة الجنة".. مرئيات الواقع والمخيال

غسان مفاضلة 23 ديسمبر 2019
تشكيل "فاكهة الجنة".. مرئيات الواقع والمخيال
"لوحات هاني حوراني مقترحات بصرية يتداخل فيها الشّغفُ والبحث"
حينما دعاني لمرافقته في رحلةٍ صباحيةٍ إلى بساتين الرّمان الشهيرة في بلدة "كفر سوم" شمال الأردن، اعتقدتُ أننا بصدد نزهةٍ ترفيهيةٍ يتخللها التقاط صور لحبات الرمان على أمهاتها. وهو اعتقادٌ سرعان ما تبدّد لحظة وصولنا تلك البساتين. صار التشكيلي والفوتوغرافي الأردني هاني حوراني (1945) صاحب الدعوة نفسه، ومن دون مقدماتٍ، مفردةً من مفردات بساتين الرمان؛ يتنقّل بخفةٍ وشقاوةٍ بين الأشجار، يعاين ثمارها، يتتبّع مساقط الضوء على أغصانها، ويتلوّن بألوانها.
وما أن يصل مع "ثمار الجنة" إلى تلك اللحظة التي تستيقظ فيها الحواس دفعةً واحدةً، حتى يشرع باستدراجها، مفردةً وجماعاتً، من بساتينها اليانعة والوادعة، إلى مكامن الدهشة والجمال التي كشف عن مخبوءاتها في أعمال معرضه "فاكهة الجنة" المتواصل في غاليري مركز رؤى للفنون في عمّان.
إنها "لعبة" الاستدراج، نفسها، التي طالت جلّ المعارض السابقة للحوراني الذي يُعدّ من فناني جيل الستينيات، وأحد مؤسسي "ندوة الرسم والنحت" عام 1962، وعلى وجه التحديد مع معرضيه السابقين "وجوه مدينتي" و"صدأ" اللذين تقاطعا مع "فاكهة الجنة" في التقنية وتقمّصات التعبير.
فإذا كانت التقنية التي وظّف إمكاناتها "المركّبة" من الفوتوغراف والتشكيل، تفضي إلى "تذويب المسافة" بين هذين الحقلين، والمزج بينهما وفق إيقاع مشترك بين خزين الذاكرة، وما يقع في مرمى العين؛ فإن السمة التي باتت لصيقة بلوحته، لا تنفصل عن انصهار تلك التقنية، مع التماعات الرؤية، وروحية التعبير.
وعِبر سلسلة من الاتصالات والانقطاعات بين الرسم والتصوير، وعِبر المسافة التي تفصل بين ما تراهُ العين، و ما هو مستقرٌ في الذاكرة، يواصل الحوراني الذي تفرّغ للعمل السياسي والانخراط في المقاومة الفلسطينة بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، تشكيل عجينته الخاصة التي تستحيل معها لوحته، حتى بطابعها الاختزالي، إلى جملة بصرية مفتوحة على مرئيات الواقع من دون أن تتماثل معها بالضرورة. فلوحته، وفق المعطيات التي حملتها معارضه السابقة، خاصة بعد عودته لممارسة التشكيل والفوتوغراف مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، ليست سوى الواقع مرئيا بعين الذاكرة والمخيال.

لوحات هاني حوراني ليست سوى الواقع مرئيا بعين الذاكرة والمخيال

 
وإن كان ثمة تباينات بين لوحات تلك المعارض، فإن مردّها لا يعود إلى التباين في مستويات التقنية، أو في طرائق التكوين وسمات التعبير، بقدر ما يعود إلى طبيعة الشكل وخصوصيته التي تتمظْهُر به موضوعات لوحاته في الواقع والفن على السواء. بمعنى آخر، يعود التباين بين تلك اللوحات، إلى بنية موضوعاتها، وهيئتها، وتشكّلاتها التي تُفضي إلى الكيفية التي تنتظم بها، بمحمولاتها الرمزية والتعبيرية، على سطح التصوير.
وليس الرمان الذي يواصل معه الحوراني تجربته في اختزال المسافة بين الفوتوغراف والتشكيل، سوى مساحةً أخرى من مساحات "استثمار" الجمال في الطبيعة، ليس من أجل تثبيته وتأكيده في لوحته، فقط، وإنما ليكون أيضاً، شاهداً على مجريات الحياة، ومعتركات الواقع المعيش.
ولئن كان جمال ثمرة الرمان، سواء كانت على أمهاتها في مراحل نموها المختلفة، أم كانت منفردة، أو جزءاً من مجموعات مصفوفة ومرصوصة على عربات الباعة، هو ما دفع الحوراني وحفزّهُ إلى تصويرها ما بين الأعوام 2015 و 2019 بألوان الأكريليك ومواد أخرى على القماش؛ فإن رمزيتها وطقوسها المرتبطة بالخصوبة والازدهار والطموح في حياة العديد من الشعوب، ولا سيما المشرقية منها، على مرّ العصور، سرعان ما وجدت طريقها إلى أعماله في بدايات "الربيع العربي" بما انطوى عليه من تطلعات وآمال.
إنها مقاربة بين معطيين مختلفين لا تستقيم إلا مع الفن؛ رمزية الرمان بـ "حشوده" وتشكلاته على عربات الباعة، وحشود الناس التي غصّت بها ساحات "الربيع العربي" لحظة أملٍ وطموحٍ بالتحرّر والانعتاق.
ربما كانت المصادفة هي التي جعلت من امكانية المقاربة بين حشود "الربيع العربي" و"حشود" الرمان، إمكانية جمالية وتعبيرية. وربما كانت "إسقاطات اللاوعي" هي التي جعلت من تلك المقاربة، طباقا تصويريا مفتوحاً على الإحالة والتأويل "لا تشبه ثمرة الرمان ثمرة أخرى مجاورة لها، كما هو حال الناس الذين نزلوا للشوارع والساحات العامة. فكل واحد منهم كان يمثل كياناً قائماً بذاته، له تاريخ وحياة وقسمات مميزة، لكنه أيضاً جزءاً من تلك الجموع الثائرة" بحسب الفنان.
ولكن ماذا بشأن تصوير الرمان وإعادة تشكيله ضمن حالات فردية، أو متفرقة، ومن دون "حشود" بعد ضمور "الربيع العربي"؟!.. هل هي مصادفة، ومن إسقاطات اللاوعي أيضاً؟!.. أم أنها معاينة واقعية لمآلات الربيع المخطوف!؟.. (بعد زمن "الربيع العربي" عدت أصور الرمان في حالات فردية، أو على شكل مجموعة قليلة من "الحبات" التي أصاب بعضها الجفاف، أو باتت جزءاً من مشهد صامت) يقول الحوراني مستدركاً.

 يوظّف حوراني خلفيته السياسية ومراسه البحثي، في تغطية موضوعاته إلى أقصى درجة ممكنة من التقصّي والمعاينة 

وفي الحالين، سواءً أكانت تلك المقاربة بين حشود الرمان و"الربيع العربي" بفعل المصادفة، أم بفعل اسقاطات اللاوعي، فإننا لا نستطيع إغفال الوعي اليقظ والمتحفّز في تتبع مظاهر الجمال في الطبيعة، وسحبه إلى تفاصيل الحياة المعيشة. وهذا ما تشير إليه، بوجه خاص، العديد من لوحات "فاكهة الجنة" التي جعل منها موضوعاً للطبيعة الصامتة التي أثثها بمفردات من البيئة المشرقية والمغربية، خاصةً مع الخزفيات والأقمشة واللوحات الفنية. ولم يغفل الحوراني في رحلته مع تنويعات ثمرة الرمان، أن يسحب الثمرة من حشودها وطبيعتها الصامتة، إلى تلك المساحة الجمالية التي تنفرد بها وحيدةً على أغصان أمهاتها؛ إنه التخفّف الناعم من الدلالات والمقاصد، لصالح الفرادة التي ينطوي عليها جمال ثمرة الرمان في الطبيعة.   
لم يتعامل الحوراني مع موضوعه في معرض "فاكهة الجنة"، كما هو الحال مع معرضيه السابقين "صدأ" و "وجوه مدينتي" بوصفة مصوراً فوتوغرافياً، أو فناناً تشكيلياً، فقط، بل راح يوظّف خلفيته السياسية ومراسه البحثي، أيضاً، في تغطية موضوعاته إلى أقصى درجة ممكنة من التقصّي والمعاينة، بغية الإحاطة بما هو متوار في تلك الموضوعات، وإشباع تطلعه في الكشف عن "اللامرئي" في ظواهره المرئية.
فأعماله، وفق هذا المنطلق، ليست أعمالاً توثيقية أو تسجيلية. ولا تندرج، أيضاً، ضمن التوليفات السردية لجماليات الظاهرة المرئية على هذا النحو أو ذاك، وإنما هي مقترحات بصرية يتداخل فيها الشّغفُ والبحث، جنباً إلى جنب، مع جماليات اللحظة الفوتوغرافية في رسوخها التشكيلي. إنه التداخل الذي صار معه المرئي، بتمظهراته واستبطاناته، تجسيداً للمتع الحسيّة المفتوحة على آفاق الواقع والمخيال.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.