}

سينما المؤلف بين الأسلوب وقانون السوق

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 3 ديسمبر 2019
سينما سينما المؤلف بين الأسلوب وقانون السوق
جواكين فينيكس الذي جسَّد شخصية الجوكر، في مهرجان نيويورك(2/10/2019/Getty)
افتتح مهرجان سينما المؤلف في الرباط دورة تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 بفيلم أميركي ناجح تجارياً (الجوكر). وقد أثار هذا جدلاً. وتشمل هذه الجملة الأطروحة ونقيضها. يبدو أن الشائع هو أن السينما التجارية الأميركية الرابحة هي نقيض سينما المؤلف التي تخسر في شباك التذاكر، لكن فيلم "الجوكر"، لتود فيليكس، ناجح تجارياً، ويحمل بصمة أسلوب المخرج/ المؤلف. إن هذه البصمة حاضرة أيضاً على الفيلم الذي حصل على الجائزة الكبرى للمهرجان، فيلم "ستموت في العشرين" للسوداني أمجد أبو العلا.


مسألة أسلوب
بالبحث في قانون النوع، فسينما المؤلف أسلوب أكثر منها موضوع. ويتضح ذلك في ما يلي:
ـ المخرج المؤلف يهمه الشكل الفني، مخرج لديه نظرية لكل شيء، يستحضر في فيلمه مرجعيات الفن على مستوى كادرات تذكر بلوحات شهيرة، وعلى مستوى كاميرا متحررة غير تقليدية، وكل هذه الأسلبة هدفها تجنب خطر تقديم محتوى فج لا شكل له.
ـ تفترض سينما المؤلف أصالة انتساب السرد وأسلوبه للمخرج، ويفترض أن يكتشف المتفرج نسب اللقطات حتى إذا لم ير اسم المخرج في الجنريك.
ـ يرفض المخرج المؤلف سرد قصة خطية تقليدية، وهذه إشاعة يرددها من لم يشاهدوا خطية أفلام فيديريكو فيلليني، كما في لاسترادا وليالي كابيريا.
ـ يقدم شخصيات صامتة، تفقد الشخصية الثرثارة عطف المتفرج، وعطف المخرج المؤلف، لذلك يقدس المؤلف السينما التي تقتصد في الحوارات، ففيها يتحدث الجسد، وهذا يريح العين، ويستغني عن الأذن.
ـ يريد المؤلف الانتقال من التنميط إلى التجريب، ويعلن رفضه لتوابل الفيلم الهوليوودي التي تتمثل في التقطيع السريع. لا يحتاج مخرجو الأفلام التجارية التشبه بسينما المؤلف التي تقدس اللقطات الطويلة الملتقطة بكاميرا ثابتة والتي تسبب الملل.
ـ تعتمد سينما المؤلف على التجريب والارتجال الخلاق، وترفض السيناريو الإسمنتي المكتمل. وترى في استخدام رسومات التقطيع التقني - ستوري بورد story-board - تعطيلاً للإبداع، كما زعمت الموجة الجديدة في فرنسا. وبما أن هتشكوك اشتهر بالستوري بورد فهو مخرج تجاري. ياه؟ بفضل الستوري بورد كان هتشكوك يرى الفيلم قبل تصويره. يكون كل

شيء جاهزاً لديه. يمكن الستوري بورد من تقطيع ما سيتم تركيبه في المونتاج.
ـ بالنسبة للمخرج المؤلف، فمن دون لقطة مشهد يبدو الفيلم كألبوم صور تتوالى. قرأت في كتاب ما عن المخرجين العظام أن أورسن ويلز هو المخرج الذي يمكن التعرف على أسلوبه بعد مرور ثلاث دقائق من الفيلم. في أفلام ويلز الخاسرة تجارياً زمن رتيب مرتخ بسبب التأمل والتفلسف وتدخل السارد ولغة شعرية وجمل طويلة، لكن على صعيد تنظيم السرد مدهشة بفضل كمية المعلومات التي تقدمها اللقطة -المشهد على مراحل.
كان تشبع أورسن ويلز بثقافة أوروبية يجعل أفلامه أدبية الجوهر، كافكاوية وشكسبيرية ودون كيخوتية. من جهته، يريد اليوناني ثيو أنجيلوبولوس لأفلامه أن تعلم المتفرج كيف يحلم، ويقول إن أفلامه تستدعي التأمل، وليس الفرجة الكسولة.
مع مثل هذه الشروط الفنية العالية، من الطبيعي أن يهاجم مارتن سكورسيزي، وهو المتأثر بسينما المؤلف الإيطالية والفرنسية (الواقعية والموجة الجديدة)، أفلام مارفل باعتبارها حديقة ألعاب لا سينما. عادة يركز المخرج المؤلف على معايير النخبة لا معايير الجمهور، وقد أكد تزفيتان تودوروف أنه "لا يمكن أن نقيس الفن العظيم والفن الشعبي بالمقاييس نفسها"؛ "شعرية النثر" ص 9.  

ما سبب اختلاف المقاييس؟
يحاول كل فرد أن يحرز اسماً وشهرة، ولابد له من منهج. وعن سؤال المنهج: كيف يصير الفرد نجماً؟ أجاب الممثل والمخرج برادلي كوبر في فيلمه "ميلاد نجمة":
أولاً، يجب أن يكون لديك ما تقوله (ما تحكيه).
ثانياً، يجب أن تقوله بالطريقة التي سيحبها الجمهور.
في سينما المؤلف، يريد المخرج المؤلف أن يقول ما لديه بالطريقة التي يحبها هو. لذلك "يعرض ما لا يفهم"، أو لا يفهمه إلا معجبوه، لقد سبق للشاعر أبي تمام أن مر من هذا المسلك.
بتجنب استرضاء الجمهور تناهض سينما المؤلف كل متعة سهلة. لذا لا تهتم سينما المؤلف بمتفرج عادي، تبحث عن متفرج "سينفيلي" أي عاشق سينما راسخ له سوابق راسخة في الفرجة السينمائية. عادة يحب السينفيليون الكاميرا المصابة بعمى الألوان، الكاميرا التي لا تلتقط إلا الأبيض والأسود، كما في فيلم "الفنان"  THE ARTIST2011، يحبون الإيقاع الرتيب والقصص التي تجري في أمكنة معزولة كما في فيلم "روما" 2018.

الجمهور والسوق
تناهض سينما المؤلف كل متعة سهلة، لذلك لا تهمها السوق. ولهذا تبعات.
تصنف الأفلام الفقيرة مالياً "أفلام مؤلف"، بينما تصنف الأفلام التي تتوفر على تمويل كبير أفلاماً تجارية. يعتبر المخرج المؤلف أن للسوق نظرة شعبوية في مجال الفن، لذلك بينما تمول السينما التجارية أفلامها من مداخيل القاعات، فإن سينما المؤلف تحتقر الفرجة الكسولة، وتنتظر نقود المال العام.

 

"هل المؤلف ملزم بالنسبة للقارئ؟"
أجاب الناقد الأدبي واين بوث في كتابه "بلاغة الفن القصصي" بأن "الفن الحقيقي يتجاهل الجمهور"، والفنانون الحقيقيون يكتبون لأنفسهم فقط.
هذا وهم خطِر.
إن الترفع عن الجانب التجاري للسينما، وهي فن مكلف، يسبب الجوع، ولفعل ذلك في المغرب يجب أن يكون المخرج  صيدلانياً، أو أستاذاً جامعياً... لكي يكون لديه أولاً دخل ليعيش، وثانياً وقت ليبدع دون أن يجوع، وإن لم يتوفر فيه الشرطان، فعليه أن يعيش انفصاماً فنياً، يصور

سيتكومات رمضان لكسب رزقه، وبعدها يذهب ليصور "أفلام مؤلف".
في 2010، افتتح الأميركي ريدلي سكوت مهرجان كان بفيلم "روبين هود"، من بطولة راسل كرو. وتم النظر لذلك الافتتاح كهجوم مخرج تجاري على مهرجان المؤلفين، حيث ينتصب الهيكل المقدس للإخراج la mise en scène.
ينظر لريدلي سكوت كمخرج تجاري، وهذه صفة ذات بعد تنقيصي، وكأن النجاح التجاري لمخرج ما كارثة، لا إنجازاً. وعلى أساس هذا الادعاء، فالسينما الحقيقية هي سينما المؤلف، سينما لا تصمد في شباك التذاكر. حالياً، ينظر إلى إنتاجات نتفليكس بأنها مضادة للسينما، وليس صدفة أن استعانت نتفليكس بمارتن سكورسيزي لتصوير "الإيرلندي"، النتيجة تراجعت النظرة لنيتفليكس كفن تجاري فقط. اسم سكورسيزي وازن في حقل سينما المؤلف.

الناقد نسب الفيلم
في ظل شعار عاشت سينما المؤلف وحدها،  يبدو كما لو أنه مطلوب من الناقد السينمائي الكتابة فقط عن الأفلام التي تحقق صفر درهم في شباك التذاكر. لا يفخر النقاد بتناول الأفلام الرابحة. يبدو أن الناقد مع الخاسر، وقد سبق للرسام عاشق السريالية غارسيا لوركا أن قال "الشاعر مع الخاسر".
في فرنسا - البلد المؤسس للنقد التشكيلي والنقد السينمائي- ينظرون إلى السينما أكثر مما يبدعون. وهم يحتقرون السينما التجارية، ويركزون على سينما المؤلف. إن الفيلم بالنسبة للأميركيين سلعة يقرر فيها المنتج، بينما هو في فرنسا فن يعود للمبدع المؤلف. لذلك لا يعترف المبدع إلا بطموحاته الفنية الشخصية.
هذا هو منطق المؤلف الحر الصارم، الفنان المستقل الذي لا يهمه الحصول على رضى الجمهور. هو يريد صدم الجمهور لا تملقه. شعاره "الفنان هو ضمير العصر"، وهذا ما يفسر حديث السينيفيلي عن رسائل الفيلم ونضاليته. المؤلف حسب ماكس فيبر هو "مفكر حر، أي مترفع عن واقعه الحالي".
يسخر إريك هوبزباوم من زعم رواد سينما المؤلف الفرنسيين أن "الفيلم هو جهد المخرج وحده"، عصر التطرف" ص892. ويضيف المؤرخ الثقافي الكبير أنه في فرنسا "تحتاج كل بدعة مبتكرة إلى نظرية" ص 319، وهذا الهوس بالتنظير هو سبب ازدهار النقد، وسينما المؤلف في فرنسا، حتى المخرج المؤلف ينظّر في أفلامه لعمله.
في سياق هذا الترف النظري المفتعل، والعدوى الفرنسية، كانت الأندية السينمائية المغربية تخجل من عرض أفلام جون فورد، وألفريد هتشكوك، على اعتبار أنها سينما تجارية. منعت

كراهية أميركا المناضلين من الاعتراف بأن هوليوود مختبر للإبداع. وقد أثر هذا في أجيال من السينمائيين المغاربة الذين تجاهلوا أنه يوجد كثير مما يجب على سينما المؤلف تعلمه من السينما التجارية. يقول المخرج الصيني زانغ ييمو: "إن عمل أفلام تجاريّة تمرين جيّد للمخرج، بمجرّد أنّ تكون خبيرا في الطّريقة السّائدة، يمكن أن تجدّد روحك المبدعة بعمل شيء ما آخر". هذه وصفة جيدة للمخرجين، لتعلم الوصول لتركيبة متوازنة بين سينما المؤلف والسينما التجارية.
ليست وحدها سينما المؤلف من تستحق الكتابة عنها. ومن الخطأ القول إن الأفلام الناجحة تجارياً لا تحتاج إلى مقالات. والنجاح التجاري للفيلم ليس شتيمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.