}

مائيات أسامة بعلبكي: المكان من وجهة نظر اللون

تغريد عبد العال 5 يوليه 2019
تشكيل مائيات أسامة بعلبكي: المكان من وجهة نظر اللون
(أسامة بعلبكي)
يرسمُ أسامة بعلبكي المكان من وجهة نظر أخرى في معرضه المقام في غاليري أجيال في الحمرا، بيروت، فالألوان هي التي تتحدث في اللوحات، إنها تعكس وجود المكان وأبعاده وتفاصيله. وفي كل لوحة ينفرد أمامنا جزء من مشهد بيروت التي تتحول اجتماعيا وعمرانيا ومشهد الريف الذي يحيط بالمدينة.
تلعب العتمة لعبتها في بعض اللوحات، لكنها تميل الى الزرقة الغامقة يخففها وجود الضوء المتمثل بالأصفر الذي يملأ اللوحات كلها، ولكن الأزرق هو سيد الموقف بالنسبة للفنان، فيعطي له مساحة واسعة في كل اللوحات، وكأن الفنان يريد للمكان أن يكون جزءا من السماء وأن لا ينفصل عنها. هناك علاقة سرمدية بالمكان، السماء هي التي تحتوي المكان، تلونه، وتعيد تشكيله مرة أخرى، وحتى الأشجار تفقد ألوانها الخضراء وتتحد مع السماء في حوار شيق وغريب.
اللون أيضاً يجيب عن ذاك السؤال حول الفرق بين الريف والمدينة، حيث تبدو الإجابة غريبة، وتفترق مساحات الألوان لتظهر أن الفرق ليس سهلاً، فيتكثف حضور الطبيعة في الريف وتبدو 
الزرقة أخف وطأة وتميل إلى الاخضرار. إنها لعبة ألوان إذاً، يفككها الفنان ويوحدها في آن كي تُظهر الاختلاف بين المناطق والأمكنة.
يكثر وجود المباني والشجر، ولكن في إحدى اللوحات المرسومة عن الريف يرسم أسامة بعلبكي سيارة مركونة بجانب الشجر، يعطي هذا المشهد دلالة للعزلة، وتكشف اللوحة عن غربة السيارة عن ذاك المكان حيث تتلون بألوان السماء والشجر ونتخيل حواراً ما يدور بينهما.
وفي لوحة أخرى يختبئ المبنى بين الشجر، وهي لوحة أيضاً عن العزلة، حيث المبنى وحيد ومختف، على عكس بعض اللوحات الأخرى التي تظهر فيها الشجرة وحيدة ومنزوية قرب المباني. إنها عين الفنان التي تلتقط الأشياء وتجعل الألوان تحتفي بها، والعزلة إذاً في المكانين، في الريف والمدينة.
تبتعد ريشة الفنان عما تفعله الكاميرا وتقترب أحياناً، فتظهر بعض المشاهد القريبة وكأنها بعيدة جداً، حيث تمحى التفاصيل تماماً. ويظهر مشهد آخر بعيد بكامل تفاصيله. إذاً هو الضوء الذي يختفي في أماكن ويظهر في أماكن أخرى، حتى نرى أن ما يرسمه هو صور تبدو حية ويتحرك فيها الماء الذي يتراءى في الألوان، وكأنها حالة المكان قبل التصوير تماماً، في التقاط حي ومتحرك لأجواء الطقس وحوارات الأشياء والطبيعة والفصول.
نقرأ في مائيات أسامة بعلبكي وجه المكان، في شحوبه وبهجته، وكأن الفنان يريدنا أن نذهب بعيدا عن تفاصيل المكان، يريد أن يكشف لنا المشهد عن بعد، فنراقب حوار المدينة مع السماء والضوء وكيف يغطي الأزرق وجه الريف وكيف يتوزع الضوء في حنايا الشجر. نقرأ ما هو مفقود في الصور المكانية التي نراها في وجوهنا كل يوم، إنها موسيقى اللون، ما يجعل المكان
يبدو وكأنه قطعة واحدة أو معزوفة واحدة لا تنفصل أجزاؤها عن بعضها.
تقترب عوالم اللوحات من عالم سيزان، حيث تبتعد ريشته عن عالم الواقع قليلا وتبقى بمحاذاة عالم الخيال، فكأن هذه المشاهد تمر في أحلامنا، رغم وجود هذه الأماكن حولنا ولكن الزرقة وضربات الريشة جعلتا من المكان سرمديا. نمر على لوحة تظهر فيها صخرة الروشة ونتذكر أن هذه لوحة نعرفها لكننا في الوقت نفسه أمام لوحة جديدة، تتغير فيها الألوان عما هي في الأصل.
وتظهر في اللوحات تلك العلاقة مع المكان فتبدو متوترة، يغيب فيها البشر في بعض اللوحات ويحضرون أحياناً مجرد ألوان باهتة وأحيانا كعتمة مكثفة في الوسط. غياب البشر هو إشارة إلى الغربة عن المكان والاختفاء بعيدا، حيث المباني والشجر والسيارات هي التي تسيطر على المشهد، والإنسان ليس ببعيد عن لوحة بعلبكي، لكن المكان بجغرافيته ومساحته المفتوحة على صفحة الضوء والعتمة هو ملعب الفنان وشاعريته الفذة التي تبحر بعيدا لتصل إلى عمق مكانها وإنسانيتها. وكأن الفنان يسأل الى أي مدى يستطيع الضوء أن ينقذ مكاننا الممتد في داخلنا؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.