}

"صُورتنا".. فوتوغرافيا الشباب المغربي

نجيب مبارك 29 يناير 2020
فوتوغراف "صُورتنا"..  فوتوغرافيا الشباب المغربي
ملصق معرض "صُورْتْنَا.. فوتوغرافيّو المغرب اليومَ وغداً"
عرفت مدينة الرباط مؤخّراً حدثاً ثقافياً فريداً، تمثَّل في تدشين المتحف الوطني للتّصوير، وهو أوّل متحف من نوعه مخصّص بالكامل لفنّ الفوتوغرافيا، بمبادرة وتمويل من المؤسّسة الوطنية للمتاحف، التي عملت على ترميم وإعادة تأهيل "البرج الكبير" المطلّ على المحيط الأطلسي، وهو أحد معالم المدينة التاريخية التي طاولها الإهمال والنسيان لأزيد من قرن، إذ كان في الأصل برجاً عسكرياً اشتهر لفترة طويلة باسم "حصن روتيمبرغ"، نسبة إلى مُصمِّمه والمسؤول عن ورشه الألماني والتر روتيمبرغ، الذي شرع في بنائه عام 1888 إلى غاية 1894، غير أنّ الفرنسيين بعد فرضهم الحماية على المغرب عام 1912، غيّروا اسمه ليصير "برج هيرفي"، وقد كان أيضاً  أوّل منشأة بُنيت كاملة بالإسمنت المسلّح في المغرب.

بمناسبة الافتتاح الرّسمي لهذا المتحف، يوم 15 كانون الثاني/يناير الحالي، اختارت المؤسّسة المشرفة أن تمنح "بطاقة بيضاء" لأحد أهمّ المصوّرين الفوتوغرافيين الشباب في المغرب، وهو ياسين علوي إسماعيلي (الدار البيضاء، 1984)، المعروف بلقبه الفنّي "يُورياس"، إذ كُلّف باختيار أبرز الأسماء من المصوّرين المغاربة الشباب، فوقع اختياره على 18 اسماً من مختلف الجهات والتجارب والحساسيات، ليساهموا في معرض جماعي تاريخي، يحمل شعاراً لافتاً هو "صُورْتْنَا.. فوتوغرافيّو المغرب اليومَ وغداً".

جانب من معرض "صُورْتْنَا.. فوتوغرافيّو المغرب اليومَ وغداً" 


















 إنّه معرض يدعونا للتعرّف المباشر على مشهد فوتوغرافيّ يجهله كثيرون، رغم أنّه غنيّ ومتنوع جدّاً، يقدّم شباباً يسردون الحياة ويحكون عنها بتلقائية وجرأة، من دون أن يخيّبوا أملَ المشاهد في قدرتهم الكبيرة على إنتاج الصّور والدفاع عنها ومشاركتها وعرضها أمام الجميع، وهو بلا شكّ معرضٌ سوف يساهم في إشعاع الثقافة البصرية بالعاصمة تحديداً، وفي المغرب بشكل عام.


بورتريه جيل

عدسة الفنّان الشاب الحسين بوبلغيتي  


















مدفعان هائلان جدّاً، زنةُ كلّ واحد منهما 30 طنّاً، هما أوّل ما يستقبلنا عند بوّابة المتحف الرئيسة. إنّهما مدفعان أرسلهما الألمان هديّة إلى السلطان المغربي مولاي الحسن الأوّل في نهايةَ القرن 19، في أوج احتدام الصّراع والتنافس بين القوى الاستعمارية حول المغرب. ثمّ، ما إن نخطو قليلاً إلى الداخل، حتّى تستوقفنا صور معلّقة على محيط السُّور الخارجي للحصن، التقطتها عدسة الفنّان الشاب الحسين بوبلغيتي (ميسور، 1979)، واختار لها اسم "هَذْرُ الجدران"، وهي صور حاول من خلالها نقل حالات بعض جدران المدينة، وبالتالي حالات الإنسان بشكلٍ افتراضي، لأنّ هذه الجدران تحتلُّ مكانة هامة في حياتنا المعاصرة، ويجب على الفنان أن ينقل رسائلها الكثيرة، وطرقها المبتكرة في التّعبير، أو كيف يتحدّث الناس بواسطتها.
من جهة أخرى، تطالعنا بورتريهات كبيرة عند مدخل المتحف، معروضة في الهواء الطّلق، لجيلٍ جديد من الشباب المغاربة، التقطتها كاميرا محمد كيليطو (1981، مراكش)، وهو خرّيج مدرسة الفنون في جامعة أوتوا، وقد استند في مشروعه الّذي أسماه "بورتريه جيل" على تصوير انعكاسات هويّة وشخصية بعض الشبّان المغاربة من خلال نماذج كانت لها الشجاعة  في التحكّم بمصائرها الخاصّة، عبر  تخطّي الحدود التي تقيّدها وفرض اختياراتها المتمرّدة على الواقع، رغم أنّها في العمق تطالب بالحقّ في الاختلاف وتحتفل بالتنوّع، وتتحدّى يوميّاً معايير التقليد والمحافظة، سواء من خلال غرابة المظهر واللّباس، أو الحلاقة والمكياج، احتفاءً بما هو غريب ومُلغز وغير عادي، وإن كان مخيفاً ومزعجاً وقبيحاً وفق معايير المجتمع.


حليّ العائلة

  مراد فداوش 


















بالانتقال إلى داخل المتحف، تطالعنا  صور مراد فداوش (سيدي يحيى الغرب، 2000)، وهو شاب بدأ هواية التّصوير بهاتفه المحمول على استحياء قبل عامين، من خلال توثيق يوميّات الحيّ الشعبي الذي يقيم فيه رفقة والديه الّلذين يبيعان اليقطين في السّوق، ويشاركهما ذلك أحياناً بالموازاة مع دراسته الجامعية، وهي صورٌ شخصية تحاول التعبير عمَّا يشعر به في فضاء حياته اليومية، تمزج بين الواقع والجمال الخيالي للأماكن والأشخاص المحيطين به (أطفال يتناقشون، جيران يتفاخرون، امرأة تعبر أمام كشك بيع الخضروات، أمُّه التي تحمل ابنة أخيه المقمَّطة...). ثمّ تليها صور الفنان إسماعيل الزيدي (مراكش، 1998) الذي يستلهم البيئة التي تربَّى فيها، وتعتمد صوره "حليّ العائلة" على معنى الأسرة والعمل الجماعي، إذ غالباً ما تكون ثمرةَ تعاون بينه وبين أخته وأخيه ووالدته، وهو يستعين بكثير من الأقمشة والإكسسوارات التي تُستعمل في المنازل أو تُعرض في الأسواق. أمّا ياسين التومي (الدار البيضاء، 1985) فهو يجعلنا نعيش واقع الدار البيضاء من خلال السّرد الوثائقي الذي يحمل دائماً رمزيّة هذه المدينة ذات الألف وجه، إذ يكشف عبرها عن حدودَ الفضول والتكتّم، الجمال والهزل، الإنسان وتاريخه.


يوميات حمّام

من صور "يوميات حمَّام" لمهدي مريوش 


















لا بدَّ من التوقُّف قليلاً عند صور زكريا أيت واكريم (الدار البيضاء، 1988)، وهي من الصور المؤثّرة والجميلة في هذا المتحف، إذ تعرض جانباً من حياة والده المصاب بالسرطان، الّذي اختار العلاج الكيميائي واستمرّ في العيش بكرامة، معتمداً على نفسه في غياب البنيات الاستشفائية الضّرورية، وهو حين يشاهدها فيما بعد يكون لها مفعول إيجابيّ على نفسيّته ومقاومته للمرض. لقد نبعت أعمال أيت واكريم الأولى في التصوير من بحث تجريبي ارتبط بكشفه لطريقة إدراك حدود الصّورة، ما دفعه إلى التفكير في مفاهيم ملهمة مثل الهويّة والتغيير. إنّه يستعمل لغة بصرية هي في الوقت نفسه حكائية وشعرية، تسرد التغييرات المتسارعة التي تخضع لها البلاد اليوم، وتشتغل على المناظر الطبيعية والصّور الشخصية، لأنّ التصوير بالنسبة لهذا الفنان وسيلة لمواجهة الواقع وإدراكه بشكل أفضل. في هذا السياق نفسه أيضاً، تفاجئنا صور "يوميات حمَّام" لمهدي مريوش (1986)، التي توثّق لتلك اللحظات التي يقضيها والده في الحمّام الشعبي، من دون أن يظهر وجهه، باعتباره فضاء سحرياً للمشاركة والاسترخاء والذكريات، ومصدر غنى ثقافي وجزءاً من التراث الاجتماعي، يعبر زواياه البخارُ وتتابعه الصور الظّليلة طوال اليوم.


بقايا في الذاكرة

من صور فاطمة الزهراء سيري 


















من التجارب المميَّزة في هذا المعرض، ما يقدّمه الفنان وليد بندرة ( الدار البيضاء، 1985) في مجموعته "بقايا في الذاكرة"، هو الذي بدأ رحلته مع التصوير التناظري (بالأشرطة ذات 36 وقفة) وسرعان ما انبهر بجانبها العملي، لأنّ هذه الوقفات تعطيه مساحة ووقتاً مناسبين للإبداع، إذ يحتاج المصوّر إلى التوقّف واتّخاذ موقع للرؤية، بينما يمنح تعريض كيمياء الجيلاتين للضوء صورةً  فريدة من نوعها، كما أنّه يستخدم الكثير من آلات التصوير القديمة والأفلام فاقدة الصلاحية، مستفيداً من كيميائها غير المستقرّة والتي تقوم بتحويل الألوان، ثمَّ يعمل على إخراجها بمعالجات متداخلة وعروض مزدوَجة الصور، لتأتي النتيجة وكأنّها أحلامٌ وليست صوراً تمثّل الواقع.
أيضا هناك تجربة أمين أولماكي (الرباط، 1986) الذي استعان بمجموعات صور عائلية وشخصية قديمة، تضمُّ كثيراً من الأساطير والآمال والتخيّلات والأسرار التي تعود إلى أجيال عديدة، وانطلاقاً من المزج بين صور العائلة والصور اليتيمة مجهولة الأصل، ابتكر روابط وقصصاً جديدة ذات تداعيات شعرية لا حصر لها، عملَ على تجسيدها بالخطّ العربي، مستعيناً بكلمات قاموس أبيه "المُنجد"، من خلال خلط الكلمات والمقاطع بعضها ببعض، والتي تؤدّي إلى تغيّر في الدلالة والموسيقى والشّكل، فضلاً عن التّكرار المقصود كما في التقاليد الصوفية. كما لا يمكن للزائر أن لا يتوقّف أمام صور فاطمة الزهراء سيري (الناظور، 1996)، وهي وإن بدت منشغلة كثيراً بوضعية المرأة في مجتمع مغربيّ محافظ، إلّا أنّها عبّرت بشكل ناضج وقويّ عن شخصيتها ومشاعرها في صور مستفزّة، حاولت بجرأة أن تكسر فيها الصور النّمطية التي تحاصرها من كلّ جانب، بتقديم حكايات أصيلة ومستقلّة، ذات نكهة مغربية خالصة، تحمل كلّ واحدة منها رسالة من الرسائل.


المغرب ليس بطاقة بريدية

 الصورة لـ ياسين علوي إسماعيلي  

















نختم جولتنا في هذا المعرض مع مهندسِه ومنسِّقه الفنّان المتميّز ياسين علوي إسماعيلي (يورياس) ، الذي اختار أن يعرض أعماله بشكل خارج المتحف بعيداً عن أعمال باقي الفنانين، في برج صغير يطلّ على البحر، واختار أن يسمّيها "المغرب ليس بطاقة بريدية"، وهي توثّق لرحلاته اليومية داخل مدينة الديار البيضاء، الّتي يعترف أّنها كانت رحلات واعية ومقصودة للوصول إلى الآخرين وإظهار ما جعلَه الروتينُ غير مرئيّ: لقاءات الشارع، الاندفاعات، اللّحظات التي يبدو فيها الناس متزامنيّ الحركة. يقول في هذا الصدد: "لا يمكننا إدراك لحظات الانسجام إذا اقتصر عملنا على تمرير صورها فقط. لن ندرك غير الهباء. أنا أريد أن أُظهر التناغم في هذا الهباء الظّاهر، كأنّه سرٌّ كامن في البساطة. إنّها رحلتي اليومية ورسالة حبّي للمغرب في الآن نفسه". ومعروف أنّ شهرة "يورياس" تكرّست في السنوات الأخيرة بفضل صوره الّتي نشرتها مجلّات عالمية مثل "نيويورك تايمز"، و"ناشيونال جيوغرافيك"، و"ذي ماغازين" الإنكليزية، ومجلة "فوغ". وقد حصل على شهادات تميّز كثيرة مؤخّراً، من بينها جائزة التّصوير الأفريقي 2018، وجائزة أصدقاء معهد العالم العربي للإبداع المعاصر 2019، كما سبق له أن عرض هذه الأعمال في مؤسّسات ومهرجانات دولية مثل "مقاولة هرمس" بباريس، متحف التاريخ بميامي، مهرجان الفن المعاصر ببازل، معرض الفنون الأفريقية بمراكش، بينالي الدار البيضاء، متحف الأغا خان بتورنتو ومعهد العالم العربي بباريس.

 

جانب من معرض "صُورْتْنَا.. فوتوغرافيّو المغرب اليومَ وغداً" 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.