}

"غرفة العبور": تجربة اللجوء والهجرة عبر الأزمان

ناصر ونوس ناصر ونوس 21 أكتوبر 2020
مسرح "غرفة العبور": تجربة اللجوء والهجرة عبر الأزمان
استندت المخرجة كاتيا هايزر بكتابة النص على حكايات اللجوء

فرضت قضايا اللجوء واللاجئين والهجرة والمهاجرين نفسها على كافة الأشكال الإبداعية؛ الأدبية والفنية المعاصرة، خصوصًا خلال السنوات الأخيرة، أي مع موجات اللجوء والنزوح والهجرة القادمة من بلدان آسيوية وأفريقية باتجاه أوروبا جراء الحروب وما أعقبها من تردي الأوضاع المعيشية في تلك البلدان. ومن بين المخرجين المسرحين الألمان الذين التزموا في طرح هذه القضية المخرجة كاتيا هايزر في مدينة دريسدن. فبعد عرضها الأول المسمى "ماركو بولو" قبل نحو عامين، والذي تطرح فيه تجربة هجرة التاجر والمستكشف الإيطالي ماركو بولو من إيطاليا إلى الصين، ها هي تأتي بعرض جديد تحت عنوان "غرفة العبور" (Transitraum ترانزيتراوم) الذي يقدم بين السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر والتاسع والعشرين من أيار/ مايو القادم في مسرح "سوسيتايتس تياتر" (Societaetstheater) أو "مسرح المجتمع"، أقدم مسرح شعبي في دريسدن. والعنوان نفسه دال على حالة التنقل والانتقال من مكان إلى آخر، والعرض المسرحي هذا يحاول تقديم هذه الحالة ومعاينتها ضمن مساحة ضيقة، والتي هي مساحة الغرفة، فتكون الغرفة هنا، المجسدة على خشبة المسرح، هي استعارة لهذه التجارب من الانتقال والنزوح والهجرة واللجوء. وفي داخلها ستتم محاولة الإضاءة عليها وإثارة الجدال حولها، مما يذكرنا بتجارب "مسرح الحجرة" أو "مسرح الغرفة" حيث المساحة ضيقة وعدد المشاركين في العرض ومشاهديه قليل.



المشاهدون موضوع العرض وجزء منه

تبدأ تجربة المشاهدة من لحظة دخولك إلى الفضاء الداخلي للمسرح. تقود المخرجة كايزر المشاهد من لحظة دخوله وتزوده ببعض التعليمات وتطرح عليه بعض الأسئلة من قبيل: أين تعيش؟ هل تحب المدينة أو القرية التي تعيش فيها؟ وما درجة هذا الحب على مقياس ابتكرته بنفسها وكان على النحو التالي: هناك حوجلتان من الماء، حمراء وصفراء، واحدة لحب المكان والثانية لكراهيته. وبجانب هاتين الحوجلتين محبرتان واحدة تحتوي حبرًا أحمر والثانية حبرًا أصفر باهتًا؛ الأحمر للتعبير عن حب المكان، والأصفر للتعبير عن كراهيته. ودرجة الحب أو الكراهية يعبر عنها المشاهد من خلال إضافة عدد من القطرات التي يختارها من إحدى المحبرتين ليضيفها لإحدى الحوجلتين، بحيث لا تزيد عن ثلاث قطرات: قطرة واحدة: قليل، قطرتان: متوسط، ثلاث قطرات: كثير. بعد أن يقوم المشاهد باختيار درجة حبه أو كراهيته للمكان، وهو إجراء يكشف مدى تعلق مشاهد هذا العرض المسرحي بالمكان الذي يعيش فيه وحبه أو كراهيته له، ينتقل إلى آلة كاتبة ليكتب عليها أسماء البلدان والمدن أو القرى التي عاش فيها. وهو إجراء يكشف الخلفية التي قدم منها المشاهد وتجارب التنقل والهجرة التي عاشها.
عندما يصل عدد المشاركين في هذين الإجراءين إلى اثني عشر مشاهدًا يتوقف بيع التذاكر واستقبال مشاهدين جدد، وغالبًا ما يتم حجز الأمكنة عبر الإنترنت، حيث أن عدد المشاهدين لا يمكن أن يتجاوز هذا الرقم لاعتبارات متعلقة بطبيعة هذا العرض المسرحي، وعملية مشاهدته، مما يذكرنا على الفور بتجربة "المسرح الفقير" ورائده البولوني جيرزي غروتوفسكي.
تتم قيادة الاثني عشر مشاهدًا على ثلاث دفعات إلى قبو المسرح حيث سيكون العرض. تقوم فتاتان، نعرف لاحقًا أنهما الممثلتان في العرض، بإعطاء كل مشاهد صندوقًا بلاستيكيًا يضع فيه حاجياته ويعاد الصندوق إلى الفتاة التي تقوم بوضع هذا الصندوق داخل صندوقين من الحجم نفسه للإغلاق على حاجيات المشاهد وإعادته للمشاهد نفسه لنعرف بعدها أنه سيستخدمه مقعدًا للمشاهدة. وأيضًا لكي تستخدم مجموعة الصناديق هذه مع نهاية العرض لبناء حاجز كبير، ربما كناية عن الحواجز التي تفصل أوروبا عن اللاجئين إليها. 

مع هذا العرض المسرحي نكون عاينا كمشاهدين تجارب لجوء من زوايا مختلفة
وأزمنة مختلفة، لكنها في جوهرها واحدة، تتكرر عبر الأزمنة.


فور أن يدخل المشاهدون إلى القبو ويتسلموا الصناديق يكونون قد تحولوا إلى جزء لا يتجزأ من العرض المسرحي. إنهم موضوع العرض، اللاجئون الذين يخوضون تجربة اللجوء في هذه الغرفة، بقيادة الممثلتين اللتين تتخذان أدوارًا مختلفة، إلى جانب المخرجة التي تشارك تجربة المشاهدة. تتتبع الممثلتين لتجد نفسك في فراغ معتم أسود بجدرانه الأربعة وسقفه وأرضه، غرفة ربما لا تزيد مساحتها عن ثلاثين مترًا يتوسطها ثلاثة حواجز منتصبة على شكل إشارة شركة مرسيدس، ثم يتم تحريكها وترتيبها لاحقًا وفق مقتضيات كل مشهد، وعبر أجهزة إسقاط غير مرئية يجري عليها عرض مقاطع مصورة لمساحات خضراء وغابات وأردية ترفرف على حبل غسيل، ولاحقًا مقاطع فيديو لطيور النوارس المهاجرة وسط الرياح العاصفة التي تقذف بها من اتجاه لآخر وسط هذه السماء اللانهائية، في واحد من أجمل المشاهد وأكثرها تعبيرًا عن موضوع الهجرة وعذاباتها.
مع بداية العرض تقوم الممثلة على ما يبدو بتجهيز نفسها للسفر، عدتها كمشة صغيرة من تراب الوطن، أكثر رمز يمكن أن يعبر عن الحنين إلى الوطن والتعلق به، تلفها بقميصها وتربطها. أما زوادة الطريق من طعام فعبارة عن قطعة خبز صغيرة، وحنجور صغير يحتوي على قليل من الزعتر، إلى جانب قارورة زيت صغيرة. هذا كل ما يحمله المهاجر أو اللاجئ الذي اضطر إلى النزوح عن أرضه، ليبدأ بعدها مغامرة اللجوء الطويلة والمضنية.
يتمركز العرض كله حول رحلة اللجوء هذه، وما يعانيه اللاجئ خلالها، وخصوصًا تجربة مروره برجال الشرطة والجمارك وموظفي الحواجز الذين يقودونه بأوامر صارمة عبر المداخل والمسارب والمخارج المختلفة، ويتحققون من الأوراق وجوازات السفر، وبناء عليه يتم فرز جموع اللاجئين قبولًا أو رفضًا... لتبدأ بعدها رحلة مريرة تكاد لا تنتهي من الأسئلة والتحقيق، والتحقق من الهويات، وتعبئة الاستمارات... لكن هذا كله ليس جديدًا في تجربة اللجوء الإنساني، كما سيتضح لنا.



حنة أرندت وبرتولت بريشت وماكس فريش مصادر للعرض

لأن الإبداع، مثل أي شيء آخر في الحياة، لا يأتي من فراغ، استندت المخرجة هايزر في كتابة نص العرض على حكايات اللجوء التي رواها لها عدد من اللاجئين الأفغان والإيرانيين والعرب في ألمانيا. وكذلك على نصوص ألمانية عن تجربة الهجرة واللجوء لكل من الكاتب المسرحي ماكس فريش، والفيلسوفة حنا أرندت، والمسرحي والشاعر برتولت بريشت، وكل منهم عاش تجربة هجرة ولجوء مختلفة سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو خلالها، وكتب عنها. فمشهد الاستبيانات الذي يعرض حالات من تعبئة الاستمارات والمشاركة في استبيانات، أخذته المخرجة من ماكس فريش الذي وثق تجربته في اللجوء في كتاب بعنوان: "استبيان" وفيه تدور الأسئلة حول مفاهيم وجودية مثل الوطن والصداقة والزواج وغيرها. وما زال هذا الكتاب ينشر حتى اليوم بطبعات متجددة. أما حنة أرندت فقد وثقت تجربتها في اللجوء إلى فرنسا ومن ثم إلى الولايات المتحدة في نص أو مقال مطول بعنوان "نحن اللاجئين" يخيل لقارئه أنها كتبته قبل سنة أو سنتين، بينما هي كتبته قبل عشرات السنين، وخصوصًا ما يتعلق تحديدًا بتسمية "لاجئين" حيث تقول أرندت في بداية مقالها: "في المقام الأول، نحن لا نحب أن نسمى "لاجئين"؛ نحن أنفسنا نسمي بعضنا بعضًا "الوافدين الجديد" أو "المهاجرين"" (حنة أرندت: نحن اللاجئين. ترجمة فتحي المسكيني. موقع "مؤمنون بلا حدود"). وهذا ما يطلقه المجتمع الألماني والمؤسسات الألمانية حاليًا على اللاجئين مراعاة لشعورهم مما يمكن أن تحمله كلمة "لاجئ" من معنى سلبي. لكأن ألمانيا بمجتمعها ومؤسساتها قد قرأت مقال حنة أرندت هذا، وليس ذلك مستبعدًا. تتابع أرندت توثيق تجربتها وتجربة أبناء وطنها باللجوء وتقول على سبيل المثال: "تعلمنا من النجوم متى يجدر بنا الغداء مع المحسنين، وفي أي يوم لدينا أفضل الحظوظ كي نملأ واحدًا من تلك الاستبيانات التي لا تحصى والتي تصاحب حياتنا الحالية". وهو ما يلازم اللاجئ حاليًا، وربما بشكل أكبر، منذ لحظة وصوله إلى بلد اللجوء.
 

مع بداية العرض تقوم الممثلة على ما يبدو بتجهيز نفسها للسفر، عدتها كمشة صغيرة من تراب الوطن، أكثر رمز يمكن أن يعبر
عن الحنين إلى الوطن والتعلق به، تلفها بقميصها وتربطها.

القضية الثانية التي يمر بها اللاجئ هي علاقته بجواز السفر التي يجسدها العرض المسرحي هذا أفضل تجسيد، حيث هناك مشهد عن جواز السفر، استندت فيه الكاتبة والمخرجة إلى كتاب "حوارات المنفيين" لبرتولت بريشت، وهو من أجمل ما كتبه بريشت، ومن أجمل ما كتب عن تجربة المنفى والاغتراب، بأسلوبه الساخر والتهكمي والهزلي، وما يتضمنه من "كوميديا سوداء" (تراجيكوميديا) إن صح التعبير. ففي مقطع حواري يقول بريشت عن جواز السفر بلسان لاجئين ألمانيين واحد بدين وآخر نحيف التقيا في محطة القطارات في هيلسنكي:
"النحيف كالا: جواز السفر أثمن جزء في الإنسان فلا يُصنع بنفس السهولة التي يُصنع بها إنسان. فالإنسان يمكن أن يُصنع في أي مكان وبكل رعونة وبدون سبب معقول، غير أن جواز السفر ليس كذلك أبدًا. لذلك يُعترف به عندما يكون جيدًا، في حين لا يُعترف بالإنسان مهما كان جيدًا.
البدين تسفيل: يمكننا القول إن الإنسان ما هو إلا حامل آلي للجواز. إذّ يُدَسُ في جيبه كما تودع الوثائق والمستندات الثمينة في الخزانة الحديدية، التي لا قيمة لها سوى أنها تحوي أشياء ثمينة" (برتولت بريشت: حوارات المنفيين. ترجمة يحيى علوان. دمشق: دار كنعان، 2002).
مع هذا العرض المسرحي نكون عاينا كمشاهدين تجارب لجوء من زوايا مختلفة وأزمنة مختلفة، لكنها في جوهرها واحدة، تتكرر عبر الأزمنة.

بطاقة العرض:

غرفة العبور (Transitraum)

التأليف والإخراج: كاتيا هايزر (Katja Heiser)

التمثيل: جوليا أمي وهيلينا فرناندينو (Julia Amme and Helena Fernandino)

الفضاء المسرحي والديكور: سفيا دوفي (Svea Duve)

الفيديو: فرانسيسكا وصوفيا هوفمان (Franziska and Sophia Hoffmann)

الصوت: نيلز ميشيل فايشاوبت (Nils Michael Weishaupt)

التصوير الفوتوغرافي: يوليوس زيمرمان (Julius Zimmermann).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.