لا شك بأن قسم الحفر في كلية الفنون أسس جاهزيته التقنية العالية الأستاذ غياث الأخرس بعد المرحوم محمود حماد. وتخرج منه أغلب رواده. منهم من أصبح مدرسًا. لعلّ الأهم هو تمايز خصائص هذا الفن وتمايزه بالتالي خاصة عن "رديفه الألماني". ابتدأ من عودة مروان قصاب باشي وبرهان كركوتلي، ثم تبلور على يد الجيل التالي من الطلبة المجيدين الذين أصبحوا مدرسين في القسم. أذكر من هؤلاء عز الدين شموط (مختص المانييرنوار) ومصطفى فتحي الطباع (مختص طباعة الأقمشة الشعبية وتقاليد النسيج الريفي) ثم عبد الكريم فرج (الذي دمج ملصقات الأقمشة النولية بمفهوم اللوحة) وهند زلفو (مختصة بالأقمشة) وبهيج عربش وزهير معتوق ثم خيرو حجازي. لعلّ أبرز هؤلاء هو يوسف عبدلكي، الذي يمارس اللوحة التشكيلية الورقية ضمن مفهوم وخبرته الطباعية، ولعلّ أبرز الجيل الشاب هو ياسر الصافي الذي استقرت محفوراته في برلين. فبعد سنوات من تجديده وإجادته للطباعة والحفر المعدني يتحول إلى اللوحة التصويرية المتخمة بالألوان الموسيقية المأزومة. لعله الحفار الوحيد (إلى جانب مروان) الذي لا يخلط بين مادتي الحفر والتصوير حتى غلب تصويره على حفره.
تذكر حالة الصافي بجحافل من الفنانين (سواء في التصوير أم النحت أم الرسوم الطباعية) مُجيدون في متانة رسمهم، وقدرتهم سواء الواقعية أم الانطباعية أم التعبيرية أم الميتافيزيقية في خصوصية الشطح في معرفتهم العالية في التشريح البشري أو التفاصيل الطبيعية المعاشة يوميًا. نعرف من هؤلاء من جيل جماعة العشرة نذير نبعة ونشأت الزعبي ثم علي صابوني وممتاز البحرة وعائلة فناني فائق وفؤاد وباسم وقبلهم بشار العيسى والنحات ماهر البارودي وصولًا حتى المتانة النسبية للمعلمين من أمثال لؤي كيالي وفاتح المدرس، واستمرت هذه الحالة الاستثنائية مع نخبة جيل ياسر مثل عمران يونس ومنيف عجاج ومحمد عمران وسواهم، الذين انزلقوا من الذاكرة أو الذكر لضيق المجال أو الذين ببساطة لم أتعرف عليهم كفاية بعد.
القرع الموسيقي على الصحون الطائرة
باغتنا ياسر الصافي بتجربة بالغة الجدة والإثارة تستحق التوقف والتأمل، خاصة وأنها استمرار أكيد لمراحله السابقة رغم بلاغة خصوصيتها، فقد مُسخ صبيانه الزعران الذين ألفنا عربدتهم (في حيز ذاكرة المدينة والدار والحارة) إلى أطباق وصحون تعانقها مائدة عامرة بالخير والبركة وحسن الضيافة، بألوان رهيفة وعنيفة في آن واحد، تتحالف في مراحها العبثي والهذياني شتى الحواس الخمس: البصر والسمع (الإيقاعي واللحني) والشم (المتخيل برائحة التوابل) والذوق، ثم اللمس الذي تثيره نتوءات العجائن وتقعراتها المخبرية الصدفوية الحدسية المأزومة والحميمة في آن واحد.
تتفوق هذه المجموعة الطازجة على المعرض الذي استضافه مع زميل في متحف برليني منذ فترة قريبة، تعبق أطباق هذا السماط المتخيل بوصفات وروائح توابل والدته في مطبخها في القامشلي، بحيث يقع تأثيرها بين استهلاكية البوب آرت الأميركي (وفق فلسفة الزين: أنت هو ما تأكل) من جهة، ونخبوية أفلاطون الفكرية الشهيرة بحواراتها الفلسفية الأرسطية السقراطية.
دعونا نصغي السمع المتأمل لما يسرني به ياسر (وكأنه تميمة سحرية سرية) لا يجوز فضح مكنوناتها، يقول (مع الاختزال النصي): "كلما كانت والدتي ترسل الوصفة المطبخية وفق تقاليدها التي تغور عشرات الأجيال كنت أبدأ برسم تفاصيلها على نفس ورقة السكايب".
![]() |
باغتنا ياسر الصافي بتجربة بالغة الجدة والإثارة تستحق التوقف والتأمل، خاصة وأنها استمرار أكيد لمراحله السابقة رغم بلاغة خصوصيتها، فقد مُسخ صبيانه الزعران الذين ألفنا عربدتهم (في حيز ذاكرة المدينة والدار والحارة) إلى أطباق وصحون تعانقها مائدة عامرة بالخير والبركة وحسن الضيافة، بألوان رهيفة وعنيفة في آن واحد | ![]() |
تتصارع في مقترحها (من الطبخات القامشلية): "المواد الغذائية البضة مع الأدوات الخشبية والأواني النحاسية الموروثة والمعمرة". تتداخل مع طقوس الإنجاز المتبّدل في تفاصيله بما يسمى بـ"النفس" أو الذائقة الخاصة أو الحضرة التي لا تتكرر، "فالمطبخ ليس فقط علاجًا للبطن والتغذية وإنما وهو الأهم شفاء فعال للعزلة، لصفته الاجتماعية. فالجاط يأكل منه كل الحضور، هم المتحالفون في إثراء أنواع الأطباق معوضًا القحط الأوروبي الانزوائي عند تناول الوجبة الأوروبية السريعة أو المغمسة في دم الأضحية النيئة إلخ".
وقد يتسرب إلى التكوين شخص ملغّز أو غوريلا تتكئ على جدار حلمي أمام طبق عائلي كبير يتكئ عليه رغيف خبز يوحي بأن الرجل ينتظر جمعًا سيتحلق حول طبيخ الوالدة التي أفنت عمرها بمشقته.
يعترف زكريا تامر بأن صبيان ياسر بقرونهم الشيطانية، هم أنفسهم الذين يداهمونه ويراودونه في الحلم برعونتهم العبثية. يقضّون مضجعه بصخبهم، قبل أن يُمسخون إلى صحون مؤنسنة، تحمل نفس الطيش والرعونة. ينقلب هرجهم ومرجهم وصراخهم إلى قرع وحشرجة ديناميكية ميكانيكية تتزاحم فيها الأطباق الدائرة لتحتل أماكنها المزدحمة في نوتة صوتية أوركسترالية ملونة؛ تشبه في ألغازها الصحون الطائرة الوافدة بأحمالها الفردوسية من كوكب آخر: طفولي - بكر- بعيد في فضاء الوجدان ومعراج الوجد.
ويحضرني مؤلف أفلاطون الشهير "المائدة"، باعتبارها غذاءً فلسفيًا فكريًا جدليًا بينه وبين سقراط وأرسطو. أليست لوحة ياسر بنخبوية وجباتها سليلة هذا السماط الذي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا؟.