}

مسرحية 99% لبريشت.. عورات الطغاة

أنور محمد 7 فبراير 2020
مسرح مسرحية 99% لبريشت.. عورات الطغاة
بريشت في شقته في برلين 1927 (Getty)
مسرحيةٌ؛ ككلِّ مسرحياتِه، تعتني بالدراما الخرافية التي يصنعها المستبد. دراما المعجزات، دراما الغرائز الإجرامية. برتولد بريشت (1898 – 1956) في مسرحيته "99 في المئة"، أو "الخوف والبؤس في الرايخ الثالث"، التي كتبها عام 1938 بالمشاركة مع مارغريت ستيفن، ترجمة سمير جريس، وريم نجمي، إصدار الهيئة العربية للمسرح - الشارقة 2019، يقرأُ البيئةَ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتفاعل معها الإنسان، والتي تَسِنُّ له قانون الحياة الروحية. بيئة يتشكَّل منها التاريخ، وتتأسَّس عليها حياة المخلوقات البشرية التي تذهب كالأغنام طائعةً، ولكنَّها مُكرهة إلى صناديق الاقتراع، لتقول (نعم)، نعم لهتلر، ولمن في حكمه من الزعماء المستنسخين، الذين لا يقبلون إلاَّ بنتيجة فوزهم بمقاعد الحكم بنسبة 99%. وهي مسرحية جمع موادها كما يذكر المُترجم، سمير جريس، عندما كان بريشت منفياً في الدانمارك، مستخدماً برامج إذاعية وتقارير صحافية وشهادات شهود عيان عن الرايخ الثالث. وانطلاقاً منها، أنجزَ في العام 1938خمسةً وثلاثين مشهداً تُصوِّر الحياة اليومية في ألمانيا النازية، غير أنَّه تمَّ اختيار 24 مشهداً منها عندما طُبعت المسرحية في ألمانيا عام 1948، وهي المشاهد التي تُرجمت إلى اللغة العربية.
بريشت في هذه المسرحية المُترجمة الآن إلى اللغة العربية يكشفُ عورات الطُغاة، وَيَحُولُ دون تمجيدهم، كما يحدثُ في انتخابات تفويزهم واغتصابهم الدولة، ومن ثمَّ وهم يحتفلون بغريزة البقاء الذاتي لتغرز سكاكينها في جسد الناس. وهو بذلك يُعتبر مُكتشف اللعبة الجليدية؛ لعبة الفوز بنسبة 99% التي استوطنت صناديق الاقتراع في النظم الجمهورية الواقعية وما فوق الواقعية على وجه الدويرة الأرضية، خاصةً في البلدان العربية. ففي مشهد "المُخبر" من
المسرحية: "ها هُم السادةُ المُعلِّمُون، الصبيُّ يشدُّ أُذنَهم، ويعلِّمُهم أن يقفوا مشدودي الصدر، كلُّ تلميذٍ مُخْبِر، ليس على التلاميذ أن يعرفوا شيئاً عن الأرض والسماء، بلْ من يعرفُ ماذا عَنْ مَنْ؟ ثمَّ يأتي الأطفالُ الأعزَّاءُ وينادونَ على الجلادين والقامعين ويأخذونهم إلى البيت، ثمَّ يشيرون إلى الآباء، ويصرخون: خونة، فَيُعتَقلُونَ بالقيودِ والسلاسل". صورة مُرعبة لأطفال تمَّ تدجينهم ليتحوَّلوا إلى قَتَلةٍ لآبائِهم، خاصةً إذا عرفنا أنَّ مُعلِّمَهُم حين كان يُدرِّسهم كان يقول من شدَّة خوفه من نظام هتلر حتى لا يبطش به: "أنا مستعدٌّ لتدريسِ كلِّ ما يريدون، ولكن ما الذي يريدون تدريسه؟ ليتني أعرف!" وفي مشهد "الواشي" من المسرحية يخشى الأبُ والأمُّ ما قام به ولَدَهُما بإعلامهما الأجهزة النازية بموقفهما النقدي من النظام، الذي ظل سرياً داخل المنزل، يذكِّرنا هذا برواية جورج أورويل 1984.
أمَّا في مشهد "العثور على الحقيقة" يقول القاضي: "أستطيعُ إصدارَ حُكمٍ على هذا النحو، أو ذاك، بحسبِ المطلوبِ مني، ولكن لا بدَّ أنْ أعرفَ ما هو المطلوبُ مني!".
وفي مشهد "المُحتَضِر"، يسألُ القسَّ: هل تعتقدُ أنَّ المرءَ بإمكانه هناكَ في السماء، أن يفتحَ فَمَهُ مرَّةً أخرى؟". يالقسوة بريخت وهو يسخر من نسبة 99 في المئة التي خوَّلت المستبد بَأنْ يحجرَ على حريَّة الإنسان الواعي العاقل الذي قالَ نعم عندما كان يريد أن يقول لا، فيما الوحوشُ غير الواعية تتمتَّعُ بالحريَّة فتفعل ما تمليه عليها غرائزها حين تجوع. لكن في مشهدٍ عن الجوع نرى "الفلاح يعلف الخنزيرة"، وقد طلبَ من زوجته وولديه أن يسدوا أفواههم فلا يتكلَّموا - أي أنْ لا يُخبروا الدولةَ فيُسجنَ مدى الحياة، فهو لا يحتملُ سماعَ صوت الخنزيرة،
وهي تصرخُ جائعة، فالله الله لا يُريدُ أن تجوعَ مخلوقاته، وهو حين يقدِّمُ لها العلفَ فلكي لا تموت، ولو ماتت فدولة هتلر لن تعوِّضه عنها، ثمَّ يقفُ الفلاَّحُ أمام الخنزيرة قائلاً: "خُذي كُلي يا لينا، هايل هتلر، إذا جاعَ أَحدُ المخلوقات فليسَ هناك دولة".
أمَّا عن "العلف"!! الذي للبشر؛ ففي مشهدٍ في السجن نرى سجينين كانا يشتغلان خبَّازَيْن يقولُ أحدُهما للآخر:" لِمَ سجنوك، فيرد: بأنَّهم قبضوا عليه، لأنَّه لَمْ يَقُمْ بخلطِ النخالةَ والبطاطس مع عجينة الخبز لِكَيْ يزيدَ وزنه. وأنتَ لماذا سجنوك؟ يسأل زميله الخبَّاز فيجيبُه: لأنَّني خلطتُ النخالةَ والبطاطس مع عجين الخبز، فقد كانوا يُطلقون على ذلك قبل سنتين غشَّاً في المواد الغذائية".
برتولد بريشت في مسرحية "99 في المئة" يحاول تعديل سلوكنا لندافع عن غريزة البقاء - بقاء الشعب وليس الحاكم؛ وبكثيرٍ من الجودة. فالصراع بين هتلر وشعبه كأنَّه صراعٌ بين خُرافات، ولو أنَّها وقائع فعلية مُعاشة، فهتلر وأمثاله/ منسوخاته؛ يريدون تغيير جينات البشر/ الإنسان، وهذا أمرٌ يتطلَّبُ معجزة، بل مُعجزات. ففي آخر مشاهد المسرحية، وهو حول استفتاء "التسعا وتسعين بالمئة"، وذلك في برلين عام 1938، نرى رجلين وامرأة من العمال في غرفةٍ يتجادلون حول ما يمكن اتخاذه من موقف تجاه الاستفتاء الشعبي الذي تنظمه دولة هتلر، العامل الشاب يأسف لعدم قدرته على كتابة بيان ضدَّ الاستفتاء، فيوافقه بالرأي العامل الآخر الذي يشيرُ إلى الراديو، الذي ينبعث منه الضجيج، وهو يطالبُ البشرَ الاعترافَ بأنَّ النازيين
يزدادون سلطةً وقوَّة قد تصل إلى نسبة 99%، كما يُهوِّلُ المُذيع، فتشكِّكُ المرأة في كلامه، ثمَّ تَسِلُّ رسالة من مُعتقَلٍ كان أرسلها قبل لحظات من إعدامه، وترى أنَّه وبسببِ هذا الضجيج المُنبعث من الراديو النازي بإمكانها قراءةُ الرسالة بصوتٍ عالٍ!! والتي يطلبُ فيها المحكوم بالإعدام من ابنه أن يهتمَّ بأمر أمِّه وشقيقاتِه، وأنَّ والدَه لم يُغيِّر مبادئه، ولم يقدِّم التماساً، لأنَّه لمْ يرتكبْ جرماً، ثمَّ يضيف الأب: "حتى إِنْ كان يبدو أنَّني لَمْ أصلْ إلى شيء، كأنَّني لَمْ أصلْ إلى شيء، لَمْ أصلْ إلى شيء، ليست هذه هي الحقيقة. كُلٌّ في مكانه، يَجبُ أنْ يكون هذا هو شعارنا، مهمتنا صعبة جداً، ولكنَّها أعظمُ مهمَّةٍ في الوجود: تحريرُ البشرية من القامعين. ليس للحياة قيمةٌ قبل أنْ نصلَ إلى هذا الهدف، إذا غابَ هذا الهدفُ عن أعيننا، غرقتِ البشريةُ كلُّها في أوحال الهمجية، مازلتُ صغيراً جداً، ولكن لن يضرُّكَ إذا فكَّرتَ دائماً في الجبهة التي تنتمي إليها". ويختتم بريشت المسرحية بكلمة واحدة، أو صرخة وحيدة، هي: لا!. لا ضدَّ نعمِ استعباد الوعي والإرادة، حتى لا يبقى الإنسان مثل حشرةٍ يعيشُ في عبودية ميكانيكية عمياء.

 

*ناقد مسرحي سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.