}

من المحاماة للغناء.. رجاء مزيان تتنفس الجزائر وفلسطين

بوعلام رمضاني 20 مارس 2020
موسيقى من المحاماة للغناء.. رجاء مزيان تتنفس الجزائر وفلسطين
المغنية رجاء مزيان (تويتر)
نادرة هي الحالات في تاريخ الجزائر والعالم العربي، التي عبرت فيها مغنية شابة، وجميلة وخفيفة مثل الفراشة، عن قبح سلطة ومعاناة وعناد ومقاومة شعب، كما فعلت رجاء مزيان التي أحيت أخيراً أول حفل لها في فرنسا بمناسبة عيد المرأة. اسم هذه الشابة التي تشبه مادونا، وتتنفس فلسطين والجزائر، يثير النفور والإعجاب غير المحدودين، كما هي حال الشخصيات الاستثنائية التي تخترق الجاهز من التصنيفات والتموقعات السياسية بخصوصيات وبصمات غير مسبوقة. قبل تبنيها حراك الشعب الجزائري، بشكل مكنها من أن تتحول إلى سفيرته غير المعتمدة رسميا، غنت مزيان عام 2014 لفلسطين الشهداء، حاملة علمها الوطني، ووضعت لاحقاً في ربيع عام 2016 بساحة براغ الشهيرة، حجرة رسمت عليها علم فلسطين موقعة باسمها. وسجلت مزيان بمناسبة المعرض الذي نظم في براغ، شريط فيديو تظهر فيه ترسم علم فلسطين على مرأى ومسمع سياح العالم على إيقاع أغنية "صامدون".
ويجدر ذكر أنه بفضلها، أصبحت فلسطين حاضرة في معرض ضم أسماء كل دول العالم إلا فلسطين كما قالت، وهي تتحدث في كليب، يؤكد التزامها القومي بالقضية الفلسطينية وليس بثورة شعبها الثانية فقط. مسارها القصير مكنها من حصد 50 مليون مشاهدة على يوتيوب بكليب أغنية "ألو سيستام (نظام)"، و19 مليون مشاهدة بكليب "ناجية" (survivor) أغنيتها الأخيرة، وخلافا لما يروج عنها أعداء الحراك الجزائري، ليست هذه الشابة ضد ثوابت وطنها.
رجاء غنت اشتياقها للعيد، ولشهر رمضان، وللآذان باللغة العربية حبا في الوطن الذي
اضطرت إلى مغادرته عنوة عام 2015، بعد أن طالها التهميش والتضييق، بسبب أغانيها التي تشحذ عزيمة كل الرافضين للظلم والفساد المستمرين، في نظر معارضين تفرقهم التوجهات الأيديولوجية، وتجمعهم قناعة تغيير الوضع السياسي في بلادهم بشكل حقيقي وملموس وغير شكلي.



من المحاماة إلى الغناء
مزيان من مواليد عام 1988، بمدينة مغنية الواقعة في أقصى الغرب الجزائري، وصاحبة موهبة مسرحية وموسيقية وسينمائية مبكرة مكنتها من تسجيل أول ألبوم في سن الرابعة عشرة. عام 2007، استطاعت أن تصل إلى الدور النهائي في مسابقة "ألحان وشباب"، وهي طالبة حقوق بجامعة تلمسان. بعد تسجيلها أغنيتين، تضمنتا نقدا للسلطة، حاولت عام 2013 تجسيد ميلها للسينما، بمحاولة إخراجها الفيلم الذي كتبت نصه، ولحنت موسيقاه، ورمت المنشفة حسب تصريحاتها الصحافية، إثر فشلها في الحصول على التمويل اللازم. الطالبة التي بقيت تعمق طموحها الفني لاحقا، رغم نجاحها الدراسي في الحقوق، لم تتمكن من ممارسة مهنة المحاماة التي درست من أجلها، بسبب رفض رئيس محكمة الجزائر تسليمها شهادة التمرين المطلوبة دون مبرر معقول على حد تعبيرها. هذه الشابة الوديعة شكلا، والشرسة فنيا وسياسيا، رفضت تزكية العهدة الرابعة للرئيس المخلوع بوتفليقة، واقتنعت بحتمية إعطاء الأولوية لرسالتها الفنية على طريقة جون بايز وترايسيه تشامبان، ومع تزايد الضغوطات والحصار عليها بسبب مواقفها، اضطرت عام 2015 إلى مغادرة الجزائر نحو براغ.

رجاء مزيان 

أنا ابنة الشعب
مزيان التي تعد من بين أكثر 100 امرأة تأثيراً في العالم حسب "بي بي سي"، تألقت رغم مرضها، وتخوفها بسبب ظهورها الأول في باريس، ولم يكن تألقها مفاجأة لأحد، رغم أن مصداقيتها الفنية تبدو أقوى مصورة، وليس قبالة جمهور مهما كانت نوعية تجاوبه مع ابنة وطن تتقاسم معه ألم الغربة المفروضة، وشجون المنفى، وأمل المستقبل العادل والأفضل.
على مرأى ومسمع جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي الذي جلس أمامنا في الصف الأخير، وجان بيار فيليو المؤرخ المستعرب، وصاحب كتاب "الجزائر الاستقلال الجديد"، وجمهور

جزائري جاء بالرايات الوطنية، راحت مزيان تغني، منوعة الأداء واللغة والخطاب، سعيا وراء مقاربة بيداغوجية، تتجاوز المنحى الحزين الذي أبكاها، وأبكى الرجال المتهمين والنساء المتهمات بالمشاركة في تهديم الجزائر، على حد تعبير وزير داخلية حكومة عبد العزيز جراد.
مرتدية بذلة جندي، لا تتعايش مع جسمها الضئيل، لكنها تعبر عن تبنيها نضال شعب عنيد وصامد، راحت رجاء مزيان، تؤدي الأغاني التي جعلت منها أيقونة حراك، اعترف به الداني والقاصي، وما زال يصنع الحدث رغم تصدر فيروس كورونا الواجهة الإعلامية عالميا. ابنة الشعب، كما عبرت عنها إحدى أغنياتها، جسدت بكلماتها البسيطة والمباشرة، وبصوتها التراجيدي خطابا سياسيا مؤثرا وموجعا، وأقوى من كل خطب السياسيين والمثقفين النخبويين المعارضين، وأكدت رجاء ذلك بقولها:

بلغ السكين العظم، ولولا هذه الحقيقة لما قلت هذا الكلام.
تسلطتم عليّ من غير حق، لأنني ابنة الشعب، ولست ابنة عملاق.
تحبون الرداءة والعفن، وتساعدون ابن اللص في الصعود.
جدي شهيد مات على الجزائر، وشهد له بالأخلاق.
مهما أكلتم، تبقون جياعا، وتموتون أذلاء.
انا ابنة الشعب، ولست ابنة عملاق.
بلغ السكين العظم، ولولا هذه الحقيقة لما قلت هذا الكلام.



حزن ودموع
ابنة الشعب، غنت كل الأغاني التي صنعت شهرتها، ونطق باسمها شباب الحراك الجزائري، وأيقظت مشاعر الألم والأمل، بكلمات تختصر الدور التاريخي الذي تلعبه مغنية ثائرة بكل المعايير والمقاييس. رجاء التي تأكدت أن تأثيرها أقوى عبر الفيديوهات، التي شاهدها الملايين داخل وخارج الجزائر، عرفت كيف تغطي على ضعفها النسبي على خشبة تفتقد لشروط وعناصر الشاشة السينمائية، التي تبدو فيها بعبعا يقض مضاجع المسؤولين عن إفساد وطنها العزيز. ووفقت ابنة الشعب في تكتيك ترتيب أغانيها قبل فوات الأوان، بتمكنها من تمرير رسالتها الفنية، والنضالية كمقاومة للظلم وللإهانة، وليس كمستسلمة للألم والحزن اللذين استوليا على جمهور، عرفت كيف تتخطاهما بسرعة لافتة. حدث ذلك، بعد أن بكت، وبكى معها الكثيرون، مستمعين لأغنية "رائحة البلاد" التي تعصر وتمزق قلوب المنفيين والمشتاقين إلى البيت الأول، وللأغنية التي تقص مأساة الشبان الذين أكلهم الحوت وليس الدود بعد أن غرقوا في البحر المتوسط، وفشلوا في الوصول إلى أوروبا التي يقضي فيها أبناء العمالقة عطلهم، ويهرب إليها آباؤهم المال الأسود والوسخ!
في نفس سياق الأغنيتين الحزينتين، غنت الشابة العربية والأمازيغية الثائرة، مكرمة الراحلين كمال مسعودي صاحب أغنية "ماشي غرضي"، ومعطوب لوناس الذي ثار مثلها ضد سلطة ظالمة، لكن بخطاب أيديولوجي يختلف في جوهره عن خطاب رجاء التي تشتاق لشهر رمضان، خلافا للفنان الذي بالغ في تحدي القيم العربية حسب منتقديه باسم الدفاع عن الهوية الأمازيغية.
بعد أن هزت رجاء قاعة معهد العالم العربي في بداية الحفل بأغنية "طوكسيك"، من منظور

مدروس فنيا وسيكولوجيا، وأدت في منتصف حفلها الأغاني الحزينة والمبكية، عادت إلى روح الثورة والسخط والرفض من خلال أغاني "متمردة"، و"ثورة"، و"ناجية".
وجاء سخطها المدوي بأغنية "طوكسيك" عبر كلمات:

طوكسيك... طوكسيك... طوكسيك.
ترحلون جميعا بثورة سلمية.
ضحيتم بالفقراء، وما زلتم متشبثين بالحكم.
خرجنا، وقلنا كلمتنا، ومن أجل الحرية لن نتراجع.
يا أمي، لن أنسى، وما تبقى ليس أفظع مما مضى.
الشبيبة لن تتعب، ولا للعفو.. ولا للعفو .

أما في أغنية "ألو سيستام" (ألو نظام)، فصدحت رجاء الثائرة بلغة دارجة تفقد زخمها ورمزيتها السياسية والأدبية، حينما تترجم إلى اللغة العربية، وهي الأغنية التي تذكرنا بالشاب بوعزيزي بائع الخضار، وصاحب الفضل في اندلاع ثورة الشعب التونسي الشقيق:

خرجوا الفقراء، وخرج موح مول الطابلة (محمد صاحب الطاولة).
ضربتم التعليم، وعطلتم المجتمع، ونشرتم التسيب.
الثقافة غائبة، والشعب يركب قوارب الموت، وأنتم غير مبالين .
قتلتمونا في الحياة، وحكمتمونا بالموتى.
أضحكتم بنا كل الأجناس، وتركتمونا متأخرين .
الشعب يموت، وأنتم سعداء .
رفعتم الجدران في نادي الصنوبر، وبقيتم مختفين.
ألف مليار في مهب الريح، وما زلتم طامعين .
حلبتم البقرة، وتقاسمتم الغلة والبترول وما زلتم مكملين.
لن نخاف، ولن نسكت .
أردناها جمهورية مدنية غير عسكرية، ديمقراطية وغير ملكية .
الفقير أكتوى بكم، وتقيأ الكادر (إطار صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة).
الطوفان جاء، لينزعكم يا بانديا (يا لصوص).
ربحنا هذه المرة، وراكم خاسرين.
ستتركون الوطن، وستلوذون بالفرار.


أغنية "ألو سيستام"، وكل أغاني رجاء مزيان لا تصلح في تصورنا، إلا مرئية في المقام الأول، وصوتية في المقام الثاني. الشابة الثائرة لا تخاطب جمهورا مخمليا يبحث عن الطرب، تحت ضوء القمر أو في بلاط ملكي، بل تخاطب مقهورين ضعفاء سلط عليهم الغبن والهوان، ووحدها الشاشة قادرة على إظهار قدرات شابة، تقوم بحركات وبإيماءات وإشارات، تعكس شخصية فنية خارقة بجمالها الذي يريح النفس، وبشراستها التي ترعب صناع كل أشكال القبح والشر.
هزت رجاء قاعة معهد العربي للمرة الأخيرة في جو غير مسبوق بأغنيتها الأشهر، والأكثر تعبيرا عن سخطها، وتمردها على السلطة، وتبنيها حراك شعب، خرج في الجمعة الخامسة والخمسين يتظاهر رغم أنف المحذرين من خطر فيروس كورونا، وبترديد المتظاهرين شعار: "كورونا ماتحبسيناش (لا توقفينا)"، تكون رجاء، قد تأكدت من الدور الذي لعبته في إذكاء روح الثبات، والمقاومة في شعب وطنها العازم مثلها على رمي صناع بؤسه في مزبلة التاريخ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.