}

"رحلة العود والموسيقى".. تغريبة زرياب وصبابته

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 4 أبريل 2020
موسيقى "رحلة العود والموسيقى".. تغريبة زرياب وصبابته
نُـصب لعود زرياب (777 - 857) في إسبانيا
في المسافة الوجدية الوجدانية بين الموصل والأندلس، أنجز زرياب (777 - 857) حاملاً عوده، الرحلة التي غيّرت وجه الموسيقى العربية.
رحلة حرّكت أوتار المؤلف الموسيقي الأردني وعازف العود علاء شاهين، واستفزت في أعماقه صهيل المقامات، فحقق من وحي الرحلة التي بدأت من مشارق الوطن العربي، مروراً بمغاربه، وصولاً إلى الحاضرة الأندلسية حيث واصلنا نسج حكاياتنا ومفردات حضارتنا ثمانية قرون من عمر الزمان، مقطوعة موسيقية منحها اسم "رحلة العود والموسيقى".
شاهين يقول إن المقطوعة تروي في زهاء 14 دقيقة حكاية زرياب (علي ابن نافع الموصلّي)، وتقيم حوارية جمالية نغمية وترية إيقاعية مع تغريبته.
يتسلسل شاهين في معزوفته بحسب ما يوضح، مستهلاً مداخلها بلحن حيويّ ناعمٍ يعبّر عن فترة الهدوء والحبور التي عاشها زرياب يتعلم الموسيقى على يد معلمه وأستاذه اسحق الموصلّي. هنا، في هذا الجزء من المقطوعة، يتولى مقام الكرد عبر درجاته الهادئة النبرة (الراي) وغيره، مهمة توصيف تلك المرحلة من مسيرة زرياب الملفوح بسمرة الأرض وعذوبة الشحرور. يتوتر اللحن ويرتد نحو كآبة ممسوحة بحزن شفيف، للتعبير عن لحظة الحسد التي جعلت أستاذه اسحق الموصلّي يوغر قلب الخليفة هارون الرشيد على تلميذه الذي لفت انتباه أمير المؤمنين أكثر مما فعل هو، ونال استحساناً عظيماً من لدنه.

يقرر العازف متعدد المواهب راقي السمات مغادرة أرض لم يعد له فيها مكان. تشاركه المقطوعة رحلته، فمرّة تحاكي بوح البراري، وفي أخرى تغوص أعماق البحار، مرّة تصبو وفي أخرى تصعّد الأوتار عالياً وتفجّر الإيقاعات.
فرقة الأقواس كلها يسخرها علاء شاهين علّها تبلغ شغاف البوح وتصف لنا ما كان من زرياب مع الزمان وما كان من الزمان معه.
ولا ينسى وضع الإيقاعات عند تخوم البعد الذي تلعب فيه داخل آفاق الحكاية/ المقطوعة دورها.
حركة أولى بميزان بطيء، وصولاً للتناغم والتآلف الموسيقي. وبعد صخب رياح السفر وخفقان الأشرعة، وبعد تسارع اللحن، تعود المقطوعة لما تحتاجه من قوة عندما كان لا بد أن يحقق ذاته ويفرض نفسه بعد وصوله بلاد الأندلس، دون أن تنسى المقطوعة تفريعاتها المعبّرة عن محطة القسنطينة الجزائرية والقيروان التونسية وصولاً لأقاصي شمال المغرب، ليعبر البحر الذي عبره قبله طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وعشرات الفاتحين.
لا يملك من يسمع مقطوعة علاء شاهين إلا أن يهتف:
"زرياب يا أيها العربيُّ الفارسيُّ الإفريقيُّ الكرديُّ السنيُّ الشيعيُّ الإنسانيُّ الكونيُّ الجمعيُّ الفرديُّ الجنيُّ الإنسيُّ العراقيُّ الجزائريُّ التونسيُّ الأندلسيُّ القرطبيُّ الموسيقيُّ الفلكيُّ القمريُّ البدريُّ الشمسيُّ الحقيقيُّ المجازيُّ تِه دلالاً بنا.. تعمشق جلابيبنا..".
يقول شاهين في سياق متصل: "في قرطبة والأندلس غدا زرياب القرطبي رمزاً للفن والثقافة والأناقة والإتيكيت، وأصبح أستاذ الموسيقيين والمطربين جميعهم. إنجاز جعلني أذهب في مقطوعتي نحو محاور عناق موسيقيّ جمعتُ فيه بين الرشاقة العزفية والتمازج اللحنيِّ مقيماً حواراً جمالياً مع الموسيقى الغجرية والفلامنكو، التي هي بالأصل مستوحاة من موسيقى زرياب ومقاماته وطرق تعامله مع الأوتار. تمازجٌ هارمونيٌّ موسيقيٌّ تشارك به داخل المقطوعة آلات القوس والنقر والإيقاع، وبما يخدم إيصال إحساس يأخذك نحو الأندلس هناك حيث الموسيقى زريابية صنعها هذا العملاق".

شاهين يقصص مقطوعته، ثم يحمل العود ويعزف بعضاً منها، وما هي سوى لحظات حتى يتماهى الحرف مع اللحن، ويهتف المستمع مخاطباً زرياب، قائلاً له: "زرياب إنك العود والدف والبوق والطرب والصوت والغناء والصنعة والقصيد والناقوس والستارة والمزمار والطريقة.. إنك مجد القيافة ما بين الدقيقة والحقيقة.. إنك سياجنا الرقيق وآهاتنا الرقيقة.. إنك صفوُ زمانِ الوصْلِ وسوسنةُ الحديقة..".
يواصل شاهين صاحب عديد المؤلفات الموسيقية وصانع الأعواد، تقديم مقاربة لمقطوعته، فيقول: "في نهاية العمل الموسيقي يرجع الإيقاع بالزمن البطيء مع حالة الرغد والحب والاستقرار النغمي والجمال الذي عاشه هذا العملاق في مكان يقدّر الفن والمبدعين لتكون النتيجة علوماً تخدم البشرية جمالاً ورقيّاً".
ثم ما يلبث أن يستدرك: "العود يصف زرياب، والإيقاع يصف الزمن والترحال، والآلات تصف الصعاب والراحة خلال رحلة تغريبته ورحلة عمره". وأما بالنسبة للإيقاعات التي استخدمها شاهين في المقطوعة، فهي كما يبيّن: تركية وعربية وإيرانية وأندلسية.
الآلات القوسية تصف، بحسب شاهين، موسيقى الحضارة الغربية التي تأسست على تعاليم زرياب وكتاباته المستقاة من العالم الجد نصر الدين الفارابي في كتابه الكبير للموسيقى.
علاء شاهين 

















أما الهارمونية والتناغم والتآلف، فإنه يخدم الجمل الموسيقية التي يقودها العود: "يقود العود العمل الفني بامتياز ورشاقة عزفية وحضور إيقاعي".

علاء شاهين يختم بالقول: إنها رحلة العود النقريِّ الذي يقدم فنون القوس والنقر والنفخ مجتمعة، ليصبح آلة العرب الأولى، وروح الموسيقى بنكهة عربية أندلسية قرطبية.
يتوقف العازف المؤلف عن الكلام، لكنه لا يتوقف عن العزف، هو يعزف وحروف الكتابة تجري معه: "زرياب يا قومي الملامح أممي الجلال.. اصعد بنا.. اصعد بنا نحو أعالي الجبال.. يا أحلى وأندى وأينع ما تحمله صبايا الريح في قلب السلال..
زرياب يا سحر الأغاني المتعربشات الفَلَك.. كلهن.. كلهن.. تهيّأنَ لك.. لكَ وحدك.. تُهْنَ بك.. بكَ وحدك..
فاهنأ بناعسات الطرف يا معزوفة الجمال والكمال. هلكت عروش المرابطين جميعها وعرش مجدك ما هَلَك". 

# فيديو (رحلة العود / قصة زرياب). تأليف واداء وتوزيع علاء شاهين



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.