}

ما هي اللقطات التي سيحرمُ منها الهاتفُ كُتّابَ السيناريو؟

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 1 مايو 2020
سينما ما هي اللقطات التي سيحرمُ منها الهاتفُ كُتّابَ السيناريو؟
(Getty)

يحضر الهاتف النقال بكثافة في أفلام ومسلسلات كثيرة، بحيث يصير الفيلم مجرد ثرثرة عن بعد، وهذا مضر بتتابع الأحداث. وهذا من نتائج تأثير التكنولوجيا على الفن، الذي سيُرغم على التغير مع الزمن. لقد سبق للكاميرا أن قضت على رسم البورتريه في نهاية القرن التاسع عشر، فكيف يؤثر الهاتف كوسيلة اتصال رهيبة على السرد الفيلمي؟
هذه عيّنة حديثة: في فيلم "Marriage Story" 2019 (نوح بومباخ) مخرج يدير زوجته (أداء سكارليت يوهانسن) الممثلة في مسرحية، يتواصل معها جيداً على الخشبة. فجأة يقرران الانفصال على فرض أنهما لا يتواصلان في الحياة. يعيش المخرج الممثل في شرق أميركا، وتعيش هي في غربها، بينهما 4000 كلم، ومع ذلك يتواصلان طيلة الوقت هاتفياً. يبدو الزوجان المتخاصمان كأنهما في المكان نفسه. لقد فقد المكان العازل أثرَه بفضل الهاتف والشبكة العنكبوتية. كان التواصل الهاتفي المستمر مانعاً من بروز حواجز الانفصال النفسية بين الزوجين، وهذا ما جعل الطلاق في فيلم "قصة زواج" يبدو كمُزحة.

في فيلم marriage story بين الزوجين 4000 كلم، ومع ذلك يتواصلان طيلة الوقت هاتفياً (behindzscene)

وهذه عينة قديمة: من بعيد، يأتي إيجيوس جرياً يلهث، يصل ويقف أمام الدوق ثيسيوس ليعلن الخبر الجديد... وتظهر ردود الأفعال عن قرار الزواج الإجباري للشابة المتمردة. هكذا تبدأ مسرحية شكسبير "حلم ليلة صيف" التي كتبت في 1595م.
كان التواصل فعلاً مركزياً في السّرود القديمة، في جل الأحداث هناك شاهدُ ينقل خبراً حتى لو

كان طفلاً في المهد يشهد ببراءة يوسف، وأشهر مثال لمن أخل بنقل المعلومة كان الغراب الذي سيخبر ركاب سفينة نوح بقرب ظهور اليابسة، ذهب الغراب ولم يعُد. لكن في السرود الحديثة، ومع خرائط غوغل، لا يحتاج راكب السيارة غراباً، لقد احتل الهاتف هذه الوظيفة، وأجبر كاتب السيناريو، ومخرج الفيلم، على حذف مشهد التواصل، وكل ما فيه من تشويق وقلق انتظار، ثم وصول المعلومة، ورد الفعل عليها.
لقد حصل تحول. أين كُنا، وأين أصبحنا؟
كان المرسل والمرسل إليه يتواصلان مباشرة، أو عبر وسيط، وكان على طرفي التواصل أن ينتظرا وصول الحمامة التي تحمل رسالة العاشق، كما في الحكايات القديمة، أو أن يأتي راكب الفرس بسرعة لتوصيل الخبر الجديد والسري. في هكذا أفلام تاريخية تصوّر الكاميرا على مهل قلق الانتظار، ولحظة فتح الرسالة، وكادر كبير على شفتين تتحركان لكشف المعلومة، ثم ردود فعل المتلقين... هذا تتابُع منطقي، إنه خبر يُولد سلوكاً... في الأفلام التي تصور وقائع من القرن الواحد والعشرين من سيقوم مستقبلاً بالوساطة بين حبيبين متخاصمين؟ الهاتف.
حتى في مجتمع تقليدي يمنع اختلاط الرجال والنساء سيكون الهاتف أداة تواصل تضعف التباعد الاجتماعي.
وهكذا سيكون قلق الانتظار بلا معنى، لأن النقل المباشر للمعلومة سيضعف تشويق الانتظار. بنقل الخبر فوراً، يحْرم الهاتفُ الكاميرا من لقطات فعل التواصل بالصوت واليد والعينين... فقدت الكاميرا فرصة تصوير رد الفعل والأهم ما قبله، لحظة التردد.
حالياً، الهاتف الذكي هو آلتي الكاتبة، وخزانتي الثقافية والفنية وكاميرتي، هو نادي أصدقائي وصديقاتي. دار نشري هو ساعي البريد، وجهاز تسجيل، وهو كاميرا شاهدة... لقد قضى الجهاز الصغير على هذه الأماكن والآلات، وحل محلها على أرض الواقع، فكيف يؤثر ذلك على كتابة السيناريو؟ ما الوظائف التي يقوم بها والحاجات التي يوفرها للشخصيات؟
يوفر فتاوى، فبفضل الهاتف تراجعت نجومية المفتين، لأن الوسيط الجديد يوفر كل الأجوبة. لكل فرد فرصةَ تعميق معرفته الدينية فيسبوكياً.
هذا يوفر الوقت والجهد. حالياً، لا داعي لزيارة الأهل للتهنئة، يكفي إرسال صورة باقة ورد... لكن هذا يخلق مشكلة لكاتب السيناريو، إذ يقلل الهاتف التواصل الإنساني الحي المباشر الذي

تلتقطه الكاميرا.
مع تطور التكنولوجيا، يحل التواصل الرقمي محل التواصل الإنساني الذي يحْلمُ المخرجون بتصويره.
في فيلم "المرشحة المثالية"، للسعودية هيفاء المنصور، تُجري طبيبة عشرات الاتصالات الهاتفية. تواصل عن بعد، لم تجد الكاميرا ما تصوره فيها، لكن لقطة واحدة للتواصل البشري غير الرقمي شرحت سياقاً بكامله. يرفض ذكر عجوز مصاب بكسر أن تلمسه الطبيبة الشابة قبل أن تخدره بالكامل لتعالجه.
بفضل الهاتف، يمكن تحديد مكان تواجد شخص ما. فكيف سيتحدث سيناريو عن اختفاء شخص لديه هاتف وإنترنت؟ فقط إذا انفصل ذلك الشخص عن هاتفه. هل سيصدق المتفرجون أن هذا محتمل الوقوع؟ خاصة في زمن فيروس كورونا الذي رفع منسوب التواصل بين الأفراد المنعزلين خوفاً من العدوى.
يلغي الهاتف ضرورة تنقل الشخصية لزيارة صديق، أو عدو، بغرض إخباره، أو سؤاله. يمكن فعل كل هذا من غرفة مغلقة، وهذا مضر بعمل الكاميرا...
تزداد كل يوم مساحة التكنولوجيا في حياة البشر. في التواصل الفعلي تشتغل الحواس الخمس للبشر، في التواصل الرقمي ينعدم هذا الدفء. يحصل هذا في الواقع وفي الأفلام. صارت الآلة الذكية تقوم بجل المهام التواصلية التي يفترض أن يقوم بها الممثل. حالياً سيكون مشهد شخص يفتح رسالة ورقية آية في الغباء في 2020. حالياً، يصعب عرض سيناريو يجري في مدينة كبيرة، وادعاء الجوع، بينما يمكن للشخصية الاتصال بمطعم وجبات سريعة تُحضر الأكل للمنزل في أي وقت.
لقد فقد كاتب السيناريو ذريعة "طلب معلومة ما" لبدء التعارف بين شخصيتين. ممنوع السؤال عن الساعة، ممنوع السؤال عن موقع فندق معين، ممنوع السؤال عن الطقس، ممنوع السؤال عن سعر كتاب، أو ميلاد مؤلفه... لا يمكن لمن يملك هاتفاً مرتبطاً بالشبكة العنكبوتية أن يزعم أنه لا يعرف.
يمكن لكاميرا الهاتف أن تصور حدثاً، بذلك تحل الصورة محل الشهادة أمام الشرطة. يمكن التجسس على شخص من هاتفه. حالياً، صار تصوير مشهد شخص يطارد ويراقب شخصاً آخر من ثقب في جريدة متجاوزاً.
لا يمكن للسيناريست كتابة أن البطل لم يستيقظ مبكراً، لأن أمه نسيت إيقاظه، بينما هاتفه يرن ويعلن توقيت الاستيقاظ. الهاتف يفعل هذا أفضل من الأم.
مع اكتساح الهاتف للحياة الاجتماعية، تم الاستغناء في الحوارات الثنائية عن السؤال، عن

الطقس والساعة في مقدمات مغازلة النساء. الهاتف فاعل ثوري، كاكتشاف النار، له ما بعده على صعيد تداول المعلومات في الحكايات. الهاتف يغذي الروح ويبدد الوحدة، لا معنى لملل بطل فيلم قادر على الاتصال بحبيبته، أو بديلتها، قادر على طلب أكل وشراب عن بعد وهو يشاهد آخر الأفلام على شاشة في جيبه؟ من أين سيأتيه الملل إن كانت لديه نقود؟
حتى الحوارات ستتضرر، لأن اللغة كأداة تواصل حاسم تراجع دورها. كيف؟ يكفي إرسال صورة ورد لعيد الميلاد، وإرسال قلب للتعبير عن الشوق، ويكفي البصم على شاشة الهاتف لطلب سلعة، فلماذا سيحتاج بطل الفيلم الكلام إذاً؟
هكذا سيتضرر الشريط الصوتي للفيلم.
يتسبب حضور الهاتف بكثرة في اللقطات في خسارتين على الأقل:
أولاً: يجعل الفيلم كله مجرد تصوير داخلي مثل سيتكوم، وهذا الغش في التصوير الخارجي، الذي يقلل الكلفة مربح لشركات الإنتاج، لكنه مكلف فنياً، لأنه يغيب صدى الواقع.
ثانياً: من كثرة الثرثرة على الهاتف تحول الفيلم إلى صوت إذاعي، وهذا مضر باللغة السينمائية.
لتجنب هذا، على السيناريست أن يبدع في نصه.
يوفر الهاتف الإخبار الجديدة، ويتصل بالغائب، ويتوسط بين العشاق...  لذا لا معنى أن يظهر في فيلم شخص متعلم يتصل بصديقه ليسأله: هل سمعت خبر ظهور فيروس اسمه كورونا؟
المعلومات شائعة بشكل رهيب، ما جعل السّر والإشاعة والتيه صعباً، لذا سيكون هناك في تاريخ كتابة السيناريو قبل وبعد طغيان الهاتف النقال. فكل مشكل تواصلي يحله الهاتف النقال والشبكة العنكبوتية، سيكون مفتعلاً أن يجعله كاتبُ السيناريو جزءاً من أزمة الحبكة في الحكاية في القرن الواحد والعشرين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.