}

"فرسان السينما".. السينما الفلسطينية والذاكرة الوطنية

فيصل درّاج 14 مايو 2020
سينما "فرسان السينما".. السينما الفلسطينية والذاكرة الوطنية
أنجزت المؤلفة عملها بصدق كبير ومارست "تفعيل الذاكرة الوطنية"

أصدرت السيدة خديجة حباشنة كتابًا عن بدايات السينما الفلسطينية متواضع العنوان: "فرسان السينما – سيرة وحدة أفلام فلسطين"، أضافت إليه عنوانًا ثانويًا: "أول مجموعة سينمائية ترافق بدايات حركة تحرر وطني" (صدر الكتاب عن الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان – 2020، 273 صفحة).

يتضمن العنوان إشارات ثلاث: يحتفي أولًا بالعمل الكفاحي الذي بذله سينمائيون شجعان همّش أسماءهم نسيان لا يليق بشعب تشكّل الذاكرة الوطنية جزءًا من وجوده والحفاظ عليه، ويسعى ثانيًا إلى تسجيل تاريخ السينما الفلسطينية في حقبة متميزة من التاريخ الفلسطيني امتدت من النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي إلى منتصف سبعينياته، ويضيء ثالثًا العلاقة بين السينمائي والسياسي في المجال الإداري الفلسطيني، ذلك أن تلك "السينما الرائدة" قامت على مبادرات فردية، لا على عمل منظّم مسؤول يناط، عادة، بإدارة إعلامية تعي دور السينما التحريضي في التربية الوطنية.
يرتبط صدور هذا الكتاب في عام 2020 بمناسبة محددة: مرور خمسين عامًا على أول فيلم فلسطيني "ثوري"، كان عنوانه "لا للحل السلمي"، أشرف على تحقيقه مصطفى أبو علي عام 1969، ويمكن أن يضاف إليه فيلم "ثورة حتى النصر" – 1970 – بيد أن التاريخ الأكثر وضوحًا جاء مع بداية النصف الثاني من عقد الستينيات الماضية، كما تقول السيدة المؤلفة، في إشارة إلى ثلاثة فلسطينيين أوائل خريجي معاهد السينما في القاهرة، ولندن، قرروا الانضمام إلى العمل الفدائي بعد هزيمة 1967، وقاموا بتأسيس وحدة لإنتاج الأفلام عام 1969، أنتجت أولى أفلامها بعد عام. وإذا كان العمل في السينما يوحي، بعامة، باليسر والراحة، فإن ما قام به "فرسان السينما الفلسطينية" كان مغايرًا لما هو قائم في السينما السائدة، أعربية كانت أم غيرها، كانوا يسجلون الفعل الفدائي ويشاركون فيه، ما جعل منهم فنانين – فدائيين، أضاف أسماء بعضهم إلى موكب الشهداء، حال المصور هاني جوهرية، والمصورة سلافة جاد الله التي أصابتها شظية وأقعدتها مشلولة إلى الأبد، ومصطفى أبو علي الذي حمل "صليبه السينمائي" ودافع عنه في إطار بيروقراطي فلسطيني يحتفي بالانصياع، قبل أن ينتبه إلى دور "الفن السابع" في القضية الوطنية.



انتصر كتاب خديجة للذاكرة الوطنية، فأرشف للفيلم الفلسطيني في ظروف بالغة الصعوبة، سمتها الأولى "ضياع الأرشيف" بأقساط مختلفة، إثر الخروج من بيروت، وتبعثر الوثائق السينمائية في أكثر من مكان. انتهت لحسن الحظ إلى نهاية تغاير ما آل إليه "مركز الأبحاث" الذي هُجّرت مكتبته الكبيرة بين ميناء وآخر، وبين إهمال وآخر، إلى أن استقرت في "لا مكان"، كما جاء في مذكرات الراحل الكريم د. أنيس صايغ.
ولعل الرجوع إلى ملاحق الكتاب، وتقع في ستين صفحة، يعطي فكرة "عامة" عن الجهد المواظب الصبور والدؤوب الذي بذلته السيدة حباشنة، التي تصدّت لمهمة أخلاقية ثقافية وطنية، لا يقوم بها إلا من عرف معنى الوثيقة السينمائية، وأدرك أكثر واجب الأحياء إزاء الأموات، خاصة حين يكونون أمواتًا – أحياء حملوا رسالة تحررية، وزهدوا بفكرة المكافأة و"المخصص"، فقيمة الفنان من إنجازه، ومن الطريقة التي أنجزه بها.

وإذا كان البعض، بمعرفة أو من دونها، يختصر التجربة السينمائية التي دفنت قبل الأوان – عمرها خمسة عشر عامًا – في صفات: "السينما التحريضية، السينما الإعلامية، أفلام الأرشيف"، وهذا كله صحيح، لكنه ينسى صفة: الجديد التي لازمت تجربة محاصرة انتزعت اعتراف العاملين في السينما التحررية في العالم كله – قدم الكتاب أكثر من وثيقة في هذا المجال. وهذا الجديد، الذي حاول سينما مختلفة، أقنع مثقفين درسوا في المعاهد السينمائية العالية أن يدفعوا بألقابهم المدرسية جانبًا، وأن يشاركوا الفدائيين مآلهم، وتحولهم إلى فدائيين، جمعوا بين الثقافة السينمائية والتعرّف على أنواع الرصاص والقنابل وأصوات المدفعية، وأن يتأبطوا أذرعة المقاتلين البسطاء ويذهبوا معهم إلى عمليات فدائية.



قصد كتاب خديجة حباشنة التذكير بمقاتل سينمائي مختلف، حاول الإبداع القاتل في منفى محاصر لا يرحّب بالفلسطينيين والمبدعين منهم بخاصة. فالسينمائي الراحل مصطفى أبو علي، على سبيل المثال، انطلق من شرط فلسطيني "لا سينما فيه ولا استقرار"، هاجسًا بتأسيس "ما لا وجود له".

كان قد درس الهندسة المعمارية في جامعة بيركلي لمدة ثلاث سنوات وأشرف على النجاح، ودرس الموسيقى في القاهرة، ثم تقدّم إلى منحة لدراسة السينما في لندن، وأدهش "لجنة القبول وجاء ترتيبه الأول بين المتقدّمين". ليست الإشارة إليه، كما غيره، إلا صورة عن "شغف وطني"، مرجعه حلم "عودة محتملة"، سوّى منه اسمًا محترمًا فاعلًا بين السينمائيين، أعربًا كانوا أم من جنسيات مختلفة.
ولعل الربط بين بداية "الفيلم الثوري"، أو "الوثائقي" بلغة أخرى، وبداية الثورة المسلحة، هو ما وضع في كتاب "فرسان السينما"، وثيقة مركّبة عن الدور الاستنهاضي الذي جاء به ميلاد الكفاح المسلح في صفوف الشباب الفلسطيني، ودور الكفاح الفاعل في توليد وعي فني جديد، لا فرق إن كان سينمائيًا أو أدبيًا، وإن كان الأول أكثر مشقة وتطلّبًا. وإذا كان للكفاح "مآله" المحتشد بأسئلة كثيرة، الذي يفيض كثيرًا على كتاب "عن السينما"، فقد اجتهد الكتاب في تسجيل حياة روّاد الفيلم الفلسطيني في أحلامهم الثورية وتضحياتهم الواسعة الموزعة على العشرات.




أنجزت مؤلفة الكتاب عملها بصدق كبير، أجرت عشرات المقابلات، وتابعت منافي الفيلم الفلسطيني، واستأنست بالمتاح من الدراسات والكتب. ساعدها في ذلك قربها من روّاد "الوحدة السينمائية الأولى"، ومعايشتها لهم وهي زوجة الراحل مصطفى أبو علي، و"شغف الحقيقة"، الذي يعني للبعض كثيرًا، ويطرده بعض خارج المكاتب الأنيقة و"الألقاب الفخيمة"، التي لا تعني في الواقع شيئًا.

اقتنعت مؤلفة الكتاب، التي عرفها الفلسطينيون وعرفتهم، بآثار موضوع عاشته، وانتقلت من وضع الفنان – الشاهد إلى وضع المؤرخ المشدود إلى "وثيقة سينمائية" تليق بفنانين – فدائيين. أعادت بعد مشقة "أرشفة ما كان مؤرشفًا وفقد"، نظّمته وأعطته حياة جديدة، بعد أن تهدّم جزء منه، وذهب جزء آخر إلى سجلات المخابرات الإسرائيلية، حال "أرشيف مركز الأبحاث"، الذي بذل فيه د. أنيس صايغ جهدًا لا مزيد عليه.
مارست المؤلفة "تفعيل الذاكرة الوطنية" ومرّت على وجوه حاضرة وأخرى غائبة، وعرّفت "بمجاهيل نبلاء" آيتهم سلافة جاد الله، التي حلمت بالعودة إلى فلسطين وصدّها الطريق، وغيرها من فدائيين في مجال السينما، أرادوا سينما مختلفة، وأرادوا معها سياسة وطنية مختلفة.
قال فالتر بنيامين مرة: "لا سياسة ثقافية صائبة إلا بسياسة صائبة"، وهو حلم جميل.
على الأحياء أن لا يخذلوا الأموات الذين دافعوا عن الحياة، وهو ما ترجمته خديجة حباشنة بشكل صحيح.

  خديجة حباشنة


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.