}

هل ثمة هوية صوتية لكورونا؟

أسعد عرابي 27 مايو 2020
موسيقى هل ثمة هوية صوتية لكورونا؟
في زمن كورونا، الكمان خير جليس في الأنام
هل لفيروس كورونا صوت أو "أصداء" رغم تناهيه في الصغر، حتى لا يكاد يكشف إلا بمجاهر ومكبرات عدساتية خاصة؟

لم لا؟

تؤكد الفيزياء الحديثة أن كل ما يتحرك يملك طاقة، والطاقة تنتج رفيفًا صوتيًا في الفراغ. ومن المعروف أن الإنسان لا يسمع الأصوات الخافتة جدًا (الناتجة عن العالم الصغيري الميكروسكوبي المدعو بـ"الميكروكوزم" أو الصادرة عن العالم الكبيري الكوني أو الفضائي التلسكوبي المعروف بـ"الماكروكوزم"). عرفنا هذه النسبيّة منذ فلسفة القطب "الجيلي". لذلك يحتاج تسجيل أجراس الطرفين إلى أدوات صوتية رهيفة.
لا شكّ بأن هذا الصوت المفترض يمثل جزءًا من كونية وشمولية الفيروس. لنتذكر ملاحظة الفنان الروسي المهاجر واسيلي كاندينسكي في كتابه "ما هو روحاني في الفن المعاصر" والذي كتبه بالألمانية عام 1910م بعد سنتين من اكتشافه للتجريد، ويؤكد على التطابق البنيوي بين العالم الذري (علاقة البروتون والنترون والإلكترون فيه) والعالم الفلكي (علاقة الأجرام والكواكب والمجرات بتحلقها وفق تبادل الجاذبية). ويخضع "كوفيد 19" لهذه "النسبية" حتى لو تخيلناه عملاقًا بحجم الفضاء، رغم قياسه الذري. لا يمكننا سماع صوته ولا صوت المجرّة إلا بالأجهزة والمكبرات السبرانية. ولنا عودة على هذا الاختبار.

  مشهد مجهري لكورونا ثلاثي الأبعاد  

















كونيّة الكورونا 
لا شكّ بأن هذه الجائحة اجتازت الحدود الجغرافية، ورسخت اليقين بشمولية مصائب الكوكب الأرضي وساكنيه من البشر والأجناس الحية الحيوانية وسواها، واقتحامها المسالم لصمت المدن (الساكنة في حجورها وجحورها الصحيّة).

تجتمع في يوم نشور بعد انسحاب الضجيج الآلي والصناعي والاستهلاكي، بدلًا من الصراع الأبدي بين مجتمع الإنسان ومجتمع الفيروس.
يكتب أحد رواد الفضاء (من علماء وكالة ناسا) ساخرًا من الذين يبحثون في ارتحالهم إلى الكواكب الأخرى عن الأحياء بعد الماء، وذلك أنّ تجليات الحياة في هذه الأصقاع المجهولة لا تناظر أحياء الأرض، قد تناظر مجتمعات الفيروس وتفوقِها الحضاري على الإنسان، تفوق قوة "التنظيم الهجومي" على الخلايا العضوية. ويؤكد شطح هذا الكاتب ما يستهلكه الإنسان من جهود تعقيمية قبل إطلاق المركبة الفضائية خوفًا من حمل الفيروس خارج الكوكب الأرضي، مما يكشف قناعة الإنسان (الذي اجتاح الفضاء) بتفوق الفيروس على تقدمه التقني. ويخشى البشر الفيروس ليس فقط بسبب المعركة غير المتكافئة معه، بل وأكثر من ذلك: لا نعرف هذا العدو المغلف بالغموض الشيطاني. لم نسمع حتى صوته ولو لمرة، وها هو التقدم العلمي يُسمعنا صوته لأول مرة كما سنشهد لاحقًا.

كونشرتو البيانو وعزلة الحجر الصحي 

 

فيروس الآلة الموسيقية الفتّاكة
نشرت جريدة "لوفيغارو" الفرنسية في العاشر من أبريل/نيسان 2020 وتحت وطأة ناقوس طاعون الكورونا، اكتشافًا علميًا (في جانب هامشي من الصفحة الثقافية)، مأخوذًا عن عددٍ من المجلات البحثية الجديّة يبرز في حدثه الانعطافي اسم باحثين اثنين يجمعهما رهانٌ مشترك، يتمثل في محاولة تحليل البنية الصوتية للفيروس، ممّا قد يساعد على مجابهته.
الأول عالم مختص بالالتهابات الفيروسية، والثاني باحث موسيقي يدعى ماركس بويهلر، بروفيسور في معهد ماساتشوتس للتكنولوجيا (MIT)، ومختص بتطوير نماذج الذكاء الصنعي البشري. أما بحثه الانعطافي الجديد فيعتمد على محاولة استيعاب الوظائف الصوتية لبروتين فيروس "كوفيد 19" وذلك بتحويله إلى أصداء صوتية شبه لحنية أو موسيقية، وذلك اعتمادًا على قاعدة أن لكل عنصر في الوجود صوتًا نوعيًا خاصًا يشبه تبصيمات الـDNA التي تمثل هويته الجينيّة.
تملك الكورونا مجهريًا ثلاث شبكات من البروتين، كل واحدة تُصدر باهتزازها رفيفًا صوتيًا نسميه تجاوزًا باللحن. إذًا هناك في هذه المقاربة الموسيقية ثلاثة ألحان تحدد الهوية الصوتية الثلاثية للكورونا، هي المرة الأولى التي يستمع فيها الإنسان إلى ترددات وذبذبات مجهرية الكورونا.


الأوركسترا والإيقاع الكوني 



















الإحالة في هذه المعجزة الاكتشافية ترجع إلى عام 2018 وبالذات في واحد من مراكز بحوث جامعة كاليفورنيا العملاقة المدعومة بأعقد الأجهزة المعلوماتية من كتل "السيبرنيتيك" البالغة التعقيد حسابيًا، وبدأ الباحثون في هذه المراكز يقترحون المعطيات على الشاشة السبرانية المركزية عوضًا عن مألوف عادة الكمون أو الخزان المعلوماتي الذي يغذيه الإنسان عادةً بالمعطيات. طُلب منه معلوماتيًا ذات مرة أن يرجع إلى تاريخ اصطدام "مجرّة درومادير" (المقابلة لمجرّتنا "درب التبانة") بمجرّة تدعى UGC2369 مصورة بكاميرا إعجازية تدعى Hubble. ويستمر الاصطدام أربعين ثانية ينتهي بالتحام الرقص الحلزوني وابتلاع مجرة "درومادير" للثانية. جرى ذلك قبل ثلاثة مليارات من السنوات الضوئية، علمًا بأن عمر الأرض أربعة مليارات وعمر الكون (بداية البيغ بانغ الانفجاري) أكثر من ثلاثة عشر مليارًا (وقد يكون أربعة عشر).

 اصطدام مجرة درومادير 



















ابتدأ هاجس هذه الاكتشافات الكونية النسبية من الرهان الفني المعلوماتي في التحول من الضوء إلى الصوت وبالعكس، خاصة لدى الفيزيائي اليوناني تاكيس، الذي يعتبر اليوم فنانًا رائدًا في تيار "السينيتيك"، ويحفظ متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو له هيكلًا تحوليًا مؤلفًا من منصّة معلوماتية ونوابض فولاذية ترقص وفق صفير المشاهدين أمام اللوحة، وتعتبر بركته المزروعة بنوابض فانوسية ليزرية ملونة رمزًا للحي المستقبلي في باريس "لاديفانس"، تشع المصابيح بألوانها المتعددة وفق برنامج موسيقي معلوماتي.

  تحول فيروس كورونا إلى نوطة صوتية  

















لا شكّ بأن حدود المعرفة العلمية تتداخل مع الفنية اليوم ابتداءً من العهد الانطباعي وتطبيق الفيزياء البصرية على توليف الألوان. وإذا كان فيروس الكورونا في هذا المقام موسومًا بالشمولية الكونية ذلك أن مادته تتراوح بين رفيف الضوء وذبذبات الصوت وهما العنصران الكونيان الأساسيان، فسرعة الضوء في الفضاء تعتبر مقياسًا للأبعاد والسرعات، وتراخي الزمن النسبي لدى آينشتاين.
راودتني هذه التأملات الفنية - العلمية في غمرة الحجر الصحي في باريس، فلم يكن لي عزاء في هذه العزلة اللاطوعية سوى العودة إلى مكتبتي الموسيقية المكتنزة بالأسطوانات والفيديوهات النادرة الشمولية التي بذلت فيها نصف قرن من البحث: من أدوار سيد درويش وصالح عبد الحي إلى مقاطع جان سيباستيان باخ وسيمفونيات سيبيليوس السبع وكونشرتات بيلا بارتوك الثلاثية على البيانو، فإذا كان الكتاب خير جليس في الأنام لدى الجاحظ فأنا أضيف إليه "الأسطوانة".

الكمان خير جليس في الأنام 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.