}

كل يوم حكاية من فلسطين

مها حسن 9 مايو 2020
مسرح كل يوم حكاية من فلسطين
دينيس أسعد
دأبت الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد على تقديم حكاياتها عبر صفحتها على الفيسبوك، حيث توقّف نشاطها في الحكي، بسبب أزمة الكورونا، فراحت تتابع فن الحكي، في تسجيلات مباشرة.

وما إن بدأ شهر رمضان، حتى عادت دينيس إلى تذكيرنا بتلك الرابطة التاريخية بين رمضان والحكواتي، فقررت أن تقدم: كل يوم حكاية.
تتنوع حكايات دينيس، لتشمل قصصًا عالمية، من بريطانيا، وأفريقيا، ومن المأثور الشعبي، والأدب العربي، فتقوم بإعداد حكايتها، بطريقة تنسجم إبداعيًا مع شروط الحكي.
دينيس المليئة بالحكايات، ما إن تُسأل عن أي شيء، مهما كان بسيطًا، حتى تجيب بحكاية.
ها هي مثلًا تروي، عبر عرض " كشكول الحيفاوية"، عن طفولتها في الناصرة، لتحكي قصة اسم أمها "أندوشي". أمها وأبوها أولاد عم، تم تفريقهما في سنة 1948، أهل أبوها ذهبوا إلى الناصرة، بينما أهل أمها اتجهوا إلى عكا.. بعد سنوات، يتم تهريب ابنة العم إلى الناصرة لتتزوج من ابن عمها.
ولدت دينيس إذًا في فلسطين، وهي تقيم في حيفا، وتُعد أول امرأة في فلسطين امتهنت فن الحكاية، الذي ورثته عن والدها وخالتها، ولم تفكر أنها ستمتهن هذا الفن، بل اتجهت لدراسة الأدب، لتحصل على ماجستير في مجال التربية لجيل الطفولة المبكرة من جامعة حيفا. ثم جاء عملها كحكواتية بالصدفة، فبدأت احتراف فن الحكي سنة 2003. وقد شاركت في الكثير من الورشات حول فن الحكي، كونها حكواتية للصغار والكبار، وباحثة في أدب الأطفال. وكذلك تقوم دينيس بتدريب فن الحكي، للصغار والكبار.
تتنقّل أسعد في دول العالم، لتحكي حكاياتها، من برمنغهام في بريطانيا، إلى سوسة وصفاقس في تونس، إلى طوكيو في اليابان، إلى عمان في الأردن، إلى سنوة والاسكندرية والقاهرة في مصر، إلى  جامعة يونيسا في جنوب أفريقيا. بلباسها التقليدي الفلسطيني المزركش وبشالها أو وشاحها أو قبعتها، تحكي وتقلّد أصوات الشخصيات، وترقص أو تصرخ أو تستشهد بأبيات شعر أو بفقرات من رواية أو مقاطع موسيقية، أو حتى تغني، كلما تطلبت منها الحكاية ذلك، لتغرق في أدائها، صانعة البهجة ومقدمة العبرة.

فن الحكي
تقول دينيس في أحد تسجيلاتها المصورة بأن: الحكي فن فرجوي/ مشهدي، فن قائم بذاته، مثل المسرح والسينما، ولم يكن معروفًا في بلداننا العربية من قبل. والحكي، حسب دينيس، بدأ مع بداية الحكي عند الإنسان، حيث كل الناس حكّاؤون بالفطرة، ولكن لا يستطيع جميعهم أن يحكوا أمام الآخرين، وهنا يكمن الفن.
تميز دينيس بين الممثل والحكواتي، وبين الحكاية التي يقدمها الحكواتي، وبين العرض المسرحي، وتقول بأن الحكواتي ليس الممثل.
وتتوقف في لحظة تساؤل مقابل هذه الأحداث العنيفة التي يمر بها العالم، لتتساءل (في الأزمات وخاصة في الحروب طالما طرح السؤال "هل نكتب للأطفال قصصًا تصف الواقع؟ أو نكتب لهم قصصًا تصف واقعًا بديلًا يمنح قلوبهم الراحة والطمأنينة؟"). وتعود للإجابة على السؤال بأنه من الأفضل روي حكايات (تمنحهم الأمل والفرح وفرصة التواصل مع مشاعرهم ومع الآخرين). ولكن ذلك لا يعني، حسب دينيس، أن تحكي عن " زمن الكورونا"، إذ أنها ليست مؤمنة بأن ثمة حكايات موسمية أو حكايات مناسبات، كحكاية لعيد الأم أو لعيد الشجرة، بل تقترح على الأهل والمربين اختيار أية حكاية يحبونها، ليسردوها على أطفالهم أو طلابهم.

توثيق الذاكرة
في قصتها بعنوان (حلم) المأخوذة من الأدب الشعبي البريطاني، قامت دينيس بتعريبها وإعدادها، تكرر الحكواتية استخدام أسماء المدن الفلسطينية، وتطالب الأطفال المستمعين إليها بوضع خارطة إلى جوارهم، ليعرفوا أماكن تلك المدن والمعالم، فهي تكرر مثلا اسم "باب العمود" عدة مرات، حيث تكرر جملها ذاتها، لتثبيتها في ذاكرة الأطفال، كالمتلازمة المتكررة في أية أغنية، لتسأل الصغار أمامها: فين؟ يجيبونها: باب العمود، فين؟ في القدس.. وفي هذا السياق، تكتب على صفحتها في الفيسبوك، عما تقوم به، أثناء إعداد أية حكاية من تراث عالمي، (لتصير حكايتنا)، راوية ما حدث معها في ورشة حكي في الناصرة، تقول، بأن الممثل والمخرج غنام صابر غنام، دعاها لسرد حكاية الديك الهادر (وهي من أحب الحكايات لقلبي لأنها أول الحكايات التي سردتها منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا).
تبدأ دينيس حكايتها بعبارة: "كان يا ما كان يا مستمعات ويا مستمعين في أجمل مروج فلسطين الواقع بين الناصرة وجنين وقبل وجود الحواجز وجدار الفصل العنصري، كان هناك ديك اسمه الديك الهادر".
بعد انتهاء الحكاية، يعلّق غنام، منبّهًا إلى هاجس الحكواتي من وراء سرده لحكاية معينة: "واضح من ذكر مرج ابن عامر في بداية الحكاية أن هاجس دينيس هو ترسيخ معالم الوطن في قلوب المستمعين من كبار وصغار".
لهذا تقوم دينيس بهذه الإضافات أثناء إعداد حكاياتها، فتشرح، حتى وهي تتطرق لأغنية من التراث الشعبي، كلمات هذه الأغنية، وتعطي فكرة سريعة، غير ثقيلة، عن بعض المفردات التراثية، التي قد تبدو غير شائعة للأطفال، أو حتى للكبار.

في رمضان، كل يوم حكاية
مستعيدة إذًا، تلك العلاقة القديمة بين الحكواتي ورمضان، في زمن عدم وجود أجهزة تلفزيون، حيث كانت الوسيلة الوحيدة للتسلية هي الحكواتي الذي يجمع رجال الحارة في المقهى، وبسبب تعذّر إمكانية الحكي خارج البيوت، في فترة الحجر الصحي، تلتزم دينيس أسعد بتقديم حكاية يومية، خلال شهر رمضان.
تبدأ مع الحكاية الشعبية المنتشرة في الكثير من الدول العربية، وربما في الأدب الشعبي العالمي، والتي سمعها أغلبنا في طفولته من آبائنا وأمهاتنا وجداتنا، حكاية " العنزة العنيزية"، حيث تبرع في تقليد صوت العنزة الأم، والذئب، والأطفال الثلاثة.
ثم تتتالى حكايات دينيس الشيّقة، التي تشدّ الكبار كما الصغار، لأنها تقدم دائمًا اشتغالاتها الخاصة وبصمتها المميزة في كسر التوقع، وهي تعيد الحكاية، ضمن نظرتها هي، متوخية أهدافًا تربوية، إضافة لتقديم المتعة.
من حكاية " خنيفسة" الواردة في كتاب "حكايات شعبية من فلسطين"، إلى حكاية "سرايا التي خطفها الغول وحكايتها مع ظريف الطول" التي ألّفتها دينيس بوحي من حكايات شعبية فلسطينية وعالمية، إلى حكاية " سما" أو "حارسة النبع"، تتنوع الحكايات وتتجدد.

تذكرة الدخول إلى مسقط الرأس
في فيلم توثيقي عنها، تجادل دينيس الموظفة الإسرائيلية التي تقطع التذاكر، للسماح للسائحين بدخول قيسارية، القرية التي وُلدت فيها أم دينيس، وأمضى أبواها فيها سنوات طويلة. تدافع عن حقها في دخول القرية، دون دفع المال، لكن الموظفة ترفض، وتقول إن عليها أن تدفع مثلها مثل غيرها. تحاول دينيس، بالعبرية، إثارة بعض الجدل بصوت مرتفع، لتجعل بعض السائحين يتدخلون، فتنهرها إحداهن، وهي غالبا ليست سائحة، بل إسرائيلية، تقول لدينيس بأن صوتها مزعج، وهكذا تدخل أسعد من جديد في حلقة توضيح: أنا حكواتية، أحكي قصصًا في جميع أنحاء العالم، وأنت تقولين إن صوتي مزعج.. أنا أوضح فقط، أنني مولودة هنا، انظري بطاقتي، أمي مولودة في قيسارية سنة 1935، لا تتعلق القصة بالمال، بل بحقّي. هكذا تدخل قريتها، التي تهدّمت معالمها، كباقي أربعمئة وعشرين قرية، هدمها الاحتلال سنة 1948، وصادر أراضيها، وحوّلها إلى موقع تاريخي.
هناك الكثير من الأعباء التي تحملها حكواتية امرأة، تمارس فنًّا أو مهنة نادرة اليوم، وخاصة بين النساء محترفات هذا الفن، إضافة لهاجس التصدي للاحتلال، الذي غيّر معالم الوطن على الأرض، وبجهود فردية وبالغة الصعوبة، كما تفعل دينيس، وتحاول الحكايات التصدي لتغيير معالم الوطن في الذاكرة، لخلق ذاكرة جديدة، استعمارية.
لهذا، تنهي دينيس حكايتها بجملة تختص بها، محاولة نقل الأمانة إلى المستمع، موصية إياه، بالحفاظ على الحكاية، قائلة: حكايتي حكيتها وبقلوبكم خبيتها، يا ريت تحبوها زي ما أنا حبيتها.

(فرنسا)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.