}

بين البؤس والعدم المسرحي في السودان.. موت السنديانات

أنور محمد 23 يونيو 2020
مسرح بين البؤس والعدم المسرحي في السودان.. موت السنديانات
المسرحي السوداني الراحل عز الدين هلالي (1960 - 2020)

فُجعنا منذ أيام بموت د. عز الدين هلالي، وهو شاعر وموسيقي وممثِّل وناقد ومُخرج وكاتب مسرحي وتلفزيوني سوداني، من أعماله مسرحية (انقلاب للبيع) 1987، التي نبّهت للانقلاب على السلطة الذي تمَّ بعد عامين من عرض المسرحية 1989. ومن قبل فُجعنا بموت المفكِّر والناقد المسرحي، يحيى الحاج، وكذلك بموت الممثِّل والمخرج الريح عبدالقادر. ليست المشكلة في موتهم وقد تركوا في المسرح السوداني آثارًا توحِّد ما بين الفكر والوجود الإنساني، ولكنَّ المشكلة في حياة سلطةٍ لا تموت، سلطة لا تُحسِّن، ولا تريد تحسين، نسلها وهي تزاوج بين الحكم بالسيف الثيولوجي والقلم المدني؛ كمن يذبح الخنزير، ولكن ذبحًا حلالًا على الطريقة الشرعية، فيحلِّل أكل لحمه. سلطة بما تحمل من أوبئة شتى تقهر مثقفيها حتى لا يقيموا معادلًا نظريًا لطغيانها لتبقى هي البطل فيما الناس خونة.
هذه الدولة إذا كان خطابها تراثيًا، وبمرجعيات دينية، فلماذا تطرحه وتمارسه بعنجهية؛ بل لماذا لا تُعلِّق أحكامها على العُصاة والجُناة بحسب مرجعياتها الفقهية السلفية إلى يوم الدين؟ أوْ أنَّها تدفع المجتمع نحو الانتحار الجماعي- المسرح لا يلغي الحياة، المسرح مرجعياته مدنية، أو كأنَّها الدولة تدفعنا إلى خيار بثنائية جبرية: أن تكون معها، مع ضلالها وتضليلها لنا، أو تكون إرهابيًا. مَنْ الإرهابي؟ لماذا تخاف الدولة من المسرح، الذي هو مَشَاهد/ صور تعمل من خلال أداء الممثلين على إنتاج التأثير الفكري والعاطفي، ممَّا يجعل الحياة أكثر إثارة، فلا تتفسَّخ القيم الأخلاقية- والدولة راعية وحارسة الأخلاق، ولا تتعفَّن، كما يفعل موظفوها الثقافويون وشركاؤهم المُسلِّعون. انقلابيو 1989 قتلوا الصورة! قتلوا المشهد المسرحي وسيرورته الاجتماعية، لأنَّه لا يتناسب ومشروعهم التخريبي ضدَّ بشرٍ لم تمت النبالة في أعماقهم، والذين يعيشون حياةً اجتماعية بسيطة وبريئة يتقاسمون بينهم الخبز والملح والعلم والمعرفة. السودان

بلدٌ غنيٌ بالثروات الزراعية والحيوانية عدا الثروات الباطنية، وفيه عقولٌ شُجاعة وذات تأثيرٍ على وطنها؛ بل لا يُذكَرُ السودان إلاَّ ويُذكَرُ الطيب صالح، ويحيى الحاج، وعز الدين الهلالي، وآخرين.
هي الدولة حين ترى المسرح وسيلة ترويجٍ لـ(باطلها) على أنَّه (الحق)، وبذلك تكون علاقة المسرحيين بها علاقة استتباعية، أو استعبادية. لا شكَّ أنَّ مسرحيًا مثل الريح عبدالقادر، أو عز الدين هلالي، الذي حذَّرَ في مسرحيته (انقلاب للبيع) من الوقوع في عدمية الشعور، أو في حالة ما بعد الموت، وكأنَّ السودان ليس للسودانيين، فبرهنوا في سلوكهم على شجاعةٍ عقلية ضد السلفوية التي تدَّعي الوطنية، في حين ذهبت بسلفويتها إلى أن يصير السودان سودانين. وهذه مسرحيةُ المسرحيات التي بالتأكيد لم يشارك في كتابتها عز الدين الهلالي، ويحيى الحاج، ويوسف عيدابي، والسر السيِّد، وهاشم صديق، وغيرهم. هو العدمُ الذي يُفرِّغُ الوطنية من هويتها وأصالتها الحضارية، وبسيف الثيوقراطية التراثية. إنَّه العنف الكارثي المجنون الذي يتعرَّض له المسرح السوداني منذ انقلاب 1989، الذي تنبَّأ به الهلالي، فلا صوت له ولا صورة، وكأنَّه انقرض، رغم وجود سنديانات مسرحية في التأليف والتمثيل والنقد والإخراج؛ الذين أغلبهم اختار مُكرهًا منافيَ، أو خشباتٍ بديلةٍ يمارسون عليها تفكيرهم ونشاطاتهم. وتسأل: لماذا يحدث ما يحدث لهذا المسرح الذي يكادُ يُسمع له صوت، إِنْ في السودان، أو في عواصم المهرجانات العربية. فنكتشف أنَّه وصلَ إلى ما وصلَ إليه من (العدمُ المسرحي) بسبب المحبة الإنسانية التي ترعى بها الدولة هؤلاء المسرحيين، لكن باعتبارها محبَّة ضارية تنقضُّ على الثقافة، فنونًا وآدابًا، كما لو أنَّها فرائس.
لا مختبر مسرحي سوداني، وإن كان هناك المسرح القومي في أم درمان، الذي افتتح عام 1959، ومعهد عالٍ للموسيقى والمسرح كان افتُتح عام 1968، وكذلك  مسرحيون لاعدَّ لهم، إِنْ في داخل السودان، أو في المُغترب العربي والعالمي، من مثل الرواد: خالد أبو الروس، إبراهيم العبادي، إسماعيل خورشيد، أحمد عاطف، يس عبد القادر، عبيد عبد النور. ومن ثمَّ: عبد الرحمن علي طه، أحمد الطيب أحمد، ميسرة السراج، محمد عبد الحي، الفكي عبد الرحمن، حمدنا الله عبد القادر، أو كما يُطلق عليه  تشارلز ديكنز أفريقيا، عبد الرحمن نجدي، أحمد طه أمفريب، عبد الله علي إبراهيم،  السر السيد، محمد شريف علي، هاشم صديق، مكي سنادة، الفاضل سعيد، يحيى الحاج، يوسف عيدابي. لأنَّه لم يفرز أو يخلق (حالة مسرحية) دائمة. رغم أنَّ المسرح السوداني كان في بداياته التي ترجع إلى عام 1899، أو 1902، يؤسِّس لحالة خلقت مسرحًا قاسَمَ الناسَ همومهم الاجتماعية والوطنية، وحرَّكَ وجدانهم حتى لا يقهرهم الواقع المعاشي لمؤسَّسات دولة ستمارس في ما بعد أنواع السحر والشعوذة، وتشجِّع على قراءة الكف والتنجيم واستحضار الأرواح، فلا تترك فكرهم في حالة وعي

للضرورة للدفاع عن حريتهم. وهذا السلوك العدواني للدولة على المسرح لم يسمح بمراكمة الفعل المسرحي بسبب حرصها على تهميش، بل وإلغاء، فعاليته، من خلال القوانين والمحاذير التي وضعتها لتقييد الفعل المسرحي. لكن لا مانع من أن تُصنِّع فرقة مسرحية موالية لها؛ فرقة (حلمنتيش)، فتخاطب الناس وكأنَّهم مجتمع حشرات، وليس مجتمعات إنسانية، في عودة للبدائية، فتقضي على الشعور بالتمرد الإنساني وعيًا وفعلًا.
احتمال أن يكون انقلابيو 1989 قد (تنوروا) برأي الإنكليز أبناء شكسبير، عندما أغلقوا معهد الموسيقى والمسرح، وشلُّوا الحياة الفكرية، ومنعوا العروض المسرحية التي تطال، أو تنال، من جناب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حين كانت السودان مُستعمرة بريطانية! وَلِمَ لا؟ في حين كان أبناء عمومتهم الفرنسيون يشيدون المسارح في مستعمراتهم؛ خاصة في الجزائر، وإن كان بقصد الترفيه عن عساكرهم وعائلاتهم. طبعًا في السودان، وكذلك في الجزائر؛ الحركة الوطنية؛ أو المثقفون الوطنيون في حينها، لم تُثنهم ممانعة وتقييد المستعمرين، ولا الحكومات الوطنية لنشاطاتهم، فكان المسرح قنديل الثورة. في مصر، وأيام عبد الناصر، اصطدم المسرحيون مع السلطة، واجهوها، في سورية كذلك، خاصة في عرض مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، وفي الجزائر، وفي تونس أيضًا. في السودان، وبعد انقلاب 1989، ماذا فعل المسرحيون السودانيون؟ لقد قاوموا؛ خاصة عندما رفعت الدولة يدها عن تمويل ودعم المسرح، وحين باع الانقلابيون مسرح "تاجوج" في مزادٍ علني، منذ ثلاث سنوات، المسرح الذي شُيّد في عام 1970 بدعم من الأهالي، وكان يتَّسع لـ 1450 مقعدًا، ويُقال إنَّ أم كلثوم ساهمت في بنائه، كما طالبوا بحقوقهم ووقفوا ضدَّ الدبابة التي وضعها الانقلابيون بجوار المسرح، وقاموا بتمويل العروض المسرحية من جيوبهم. الرقابة منعت عرض مسرحياتٍ مثل: "نبتة حبيبي" لهاشم صديق، التي تعتبر من أكثر العروض أهميةً فنيًا وفكريًا في المسرح السوداني، ومسرحية "المشي على الرموش" لإبراهيم شداد، ومسرحية "نحن نمشي في جنازة المطر" لعمر الطيب دوش، التي عُرضت سرًا على مسرح الفنون الشعبية في أم درمان، وغيرها. في المقابل، سمحت السلطة بعرض مسرحية "الشعب يريد …" بقالبٍ كوميدي، وبدلًا من أنَّ الشعب يريد تغيير النظام تنقلب إلى "النظام يريد تغيير الشعب"، من تأليف مصطفى أحمد الخليفة، وهي كما ذكر بعض من شاهدوها مسرحية "تنفيسية"، ولو كانت غير ذلك فعلًا لمنعت الرقابة عرضها.
في معظم المهرجانات المسرحية العربية، لا يغيب المسرحي علي مهدي، صاحب مؤسَّسة "مسرح البقعة"، وهو بالزيِّ السوداني. ومن كثرة اهتمام الدولة المضيفة به، تظن أنه نمر المسرح الإفريقي؛ مع أنَّ حضوره في رأيي لا يُغني ولا يُسمن من مسرح، فقليلًا ما يتكلَّم، وإذا تكلَّم، فإنَّما ليشكر مُضيفه، فحضوره يصادر كثيرًا من فكر ونشاط مسرحيين سودانيين من أمثال: السر السيد، وهاشم صديق، وآخرين. إذ إنَّني أذكر في أحد المهرجانات العربية كانت هناك مشاركة سودانية، وهذه حادثةٌ نادرة، تعرَّفت فيها على المسرحيين عادل حربي، وعثمان جمال الدين، وعصام أبو القاسم، وبقية الوفد المسرحي، وسألتهم متألِّمًا: ما الذي يُكاد للعقل المسرحي النقدي التنويري الديمقراطي السوداني، وما هي الجزية، أو الإتاوة، التي عليه أن يدفعها وهو الذي لا يغتصب، ولا يُنافس، ولا يُنازع على سلطة سوى مساحة خشبة ليُقيم عليها عرضه؟ أو أنَّ المواجهة مستمرَّة والسنديانات ستبقى تتساقط؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.