}

"البروفيسور والرجل المجنون".. السينما بعيدًا عن ضجيج الجوائز

سينما "البروفيسور والرجل المجنون".. السينما بعيدًا عن ضجيج الجوائز
ملصق فيلم "البروفيسور والرجل المجنون"
لو حاولنا البحث في ترشيحات الأوسكار وباقي جوائز السينما العالمية الأخيرة عن عنوان الفيلم الأميركي "البروفيسور والرجل المجنون The professor and the madman" من إخراج Farhad Safinia لما وجدنا أي إشارة أو تزكية للفيلم، لا على صعيد حكايته التي تتناول تأسيس معجم أكسفورد الشهير، ولا على صعيد صورته وإخراجه، ولا حتى على مستوى الأداء المقدم من قبل نجوم السينما العالمية كـ ميل غيبسون Mel Gibson "البروفيسور" وشون بين Sean Penn "الرجل المجنون". يوحي عدم حضور الفيلم في مسابقة الأوسكار بضعف وملاحظات تعتري الفيلم المقدم، لكن من فور مشاهدته سيجد المتلقي نفسه أمام فيلم لا يستحق الحضور في الأوسكار وحسب، بل إنه يكاد يكون أهم بكثير من الأفلام المرشحة والفائزة، على أكثر من صعيد، ولعل أبرزها حبكة الحكاية وأداء الممثلين.
يروي الفيلم قصة تأسيس معجم أكسفورد في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت تبحث الأكاديمية البريطانية عن تشكيل لجنة أكاديمية تشرف على تأليف معجم لغوي يشمل فيما يشمل كل مفردات اللغة الإنكليزية. لم يكن إلى ذلك الوقت قد تم لم شمل اللغة الإنكليزية في معجم واحد، بحسب الفيلم، كان هناك بعض المعاجم في المكتبة الإنكليزية إلا أنها أصبحت قديمة ولا تواكب روح العصر الحديث، العصر الذي بدأت فيه اللغة الإنكليزية كلغة رائدة في العالم، تنتشر على بقاع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.
الأكاديمية والجنون، هذان المحوران المتناقضان هما الأساس الذي انطلق منه الفيلم. في الضفة الأولى نجد الدكتور James Murray"  /ميل غيبسون" العارف بتاريخ اللغات والمتبحر بتعلمها حتى أصبح يتحدث عشر لغات بطلاقة، مع اطلاع واسع على أصل الكلمات وفصلها في هذه اللغات. يخوض Murray صراعًا مريرًا مع السلطة الأكاديمية الإنكليزية في جامعة أكسفورد، هذه السلطة التي واجهته كونه رجلًا غير أكاديمي، وضربت عرض الحائط معارفه وخبراته اللغوية وثقافته الموسوعية. يقف الفيلم عند اصطلاح "أكاديمي" وماذا يعني هذا المصطلح في بريطانيا القرن التاسع عشر، مظهرًا عبر شخصيات المجمع العلمي التعنت الأجوف للمؤسسة الأكاديمية في وجه المبدعين والمثقفين الإنكليز من خارجها، هذه الحال التي ما زالت موجودة إلى اليوم بالعلاقة مع المؤسسات الأكاديمية، ليس في إنكلترا وحسب، بل في العالم كاملا، إذ تعمل المؤسسات الأكاديمية العلمية، من جامعات ومدارس ومعاهد، كمؤسسات سلطوية تمارس سلطتها على أي قادم من الخارج، وذلك ما واجهه السيد Murray في محاولته دخول الأكاديمية البريطانية وتقديم اقتراحه في العمل على المعجم. هذا العمل الذي قال فيه أكاديميو أكسفورد بداية إنه "ضرب من الجنون" لصعوبة إحصاء العدد الهائل من الكلمات المستخدمة في اللغة الإنكليزية حينها.




على الضفة الثانية، أقصد الجنون، يقبع الدكتور "William Minor/ شون بين" الطبيب الأميركي الذي يعاني اضطرابات عقلية شديدة أودت به إلى قتل أحدهم بالخطأ، بعد أن هُيأ له أن القتيل كان يلحقه للنيل منه. هذا الفعل لا يودي بالدكتور وليام إلى السجن فقط، بل تستقبله دور الرعاية الصحية النفسية في بريطانيا القرن التاسع عشر، دور العزل هذه التي كانت أشبه بمعتقلات صحية لشدة ما يتعرض له المرضى من تجارب سريرية ونفسية قاسية فيها. من ذلك ما تعرض له بين على يد الدكتور النفسي "Frederick Furnivall/ ستيفن غوغان" الذي يجرب على مرضاه وسائل علاج نفساني يعتقد أنها مجدية. تذكّر هذه العلاقة المعقدة بين وليام المجنون وطبيبه بالأثر النفسي العميق لمشفى الأمراض العقلية على مرضاه، فوليام المصاب بالفصام، أو الذي شُخصت حالته كذلك، يتعرض لتعذيب حقيقي، تعذيب لكن بلبوس العلاج النفسي، وهذا العلاج دائما ما تأتي نتائجه عكسية على الرجل الذي ساءت حالته بدلا من تحسنها، إلا أن المخرج الوحيد لنفسه المجنونة تلك كان الحب، الحب الذي لم يتوقعه أبدًا، والذي دفعه إلى العمل بشغف مع البروفيسور جيمس في جمع كلمات المعجم والبحث عن معانيها.

ينذر الدكتور وليام أمواله إلى "إليزا" زوجة الرجل الذي قتله خطأ. ترفض إليزا المنحة بداية، إلا أن الفقر والعوز يدفعانها إلى قبول عرض الرجل. لا تقف العلاقة بينهما هنا، إذ تزور إليزا وليام في مشفاه. تتعرف عليه عن قرب، وسرعان ما تتطور العلاقة بينهما إلى استلطاف فإعجاب فحب، إلا أن هذا الحب الذي كاد أن ينقذ وليام من جنونه سيتلاشى حينما تصفعه ابنة القتيل التي لم تنس فعلة الرجل المحفورة بعقلها، صفعة واحد كانت كفيلة بتدمير كل المعمار النفسي الذي رممه وليام في وحدته في المستشفى. لم يكن حدث الحب عارضا في حياة وليام بل كان الدافع الأساسي الذي دفعه إلى مشاركة جيمس، البروفيسور الذي يعرفه بالمراسلة وحسب، في تجميع معاني الكلمات التي لا تنتهي. لذلك كان من المتوقع، أن تنهار جهوده العبقرية ما أن ينتهي حبه.
هذه الحياة العاصفة ليست هي ذاتها حياة البروفيسور جيمس، على العكس تماما، فالرجل يعيش حياة مستقرة مع عائلته الكبيرة وزوجه التي يحب. هذا سيساهم لحد كبير في قدرته على التركيز على عمله في المعجم، بالرغم من بعض المنغصات العائلية المتعلقة بانشغاله الدائم في العمل، لكن معركة جيمس كانت في مكان آخر، كانت مع من ينتظر هفواته ويتصيد أخطاءه، مع اللجنة الأكاديمية البريطانية وخصوصا الدكتور Philip Gell، الذي دأب على تخريب عمل جيمس والتسخيف من قدراته اللغوية، فمنذ اللقاء الأول بينهما ظهر هذا الصراع الذي سيتطور حتى يصل إلى الدوق وينستون تشرشل، تشرشل الذي خاطبه جيمس مصرًا على إكمال مشروع المعجم رغم القرارات التي كانت تطبخ في الأكاديمية لإيقاف المشروع. وهذا ما تم لجيمس، أُمر باستمرار المشروع، واستأنف العمل عليه بعد أن كان قريبا من التوقف للأبد.
إذًا، ظهرت النسخة الأولى من معجم أكسفورد بجهود أشخاص كثر، لكن كان على رأسهم البروفيسور المنبوذ من المؤسسة الأكاديمية، والمجنون المنبوذ من المؤسسة النفسية، لكن في الوقت الذي تمكن فيه جيمس من حصد نجاحه بتكريمه من الجامعة التي رفضته ونيله درجة بروفيسور جراء عمله الكبير على المعجم، بقي الدكتور وليام مجنونًا يعيش في هلوساته، ولو أُطلق سراحه ورُحل إلى أميركا محروما من العودة إلى بريطانيا بقية حياته.

الأداء
كان الأداء أحد أعمدة نجاح الفيلم الأساسية، تحديدا ما قدمته الشخصيتان الرئيسيتان، من الجهة الأولى قدم ميل جيبسون شخصية عارفة وموسوعية على مستوى عال من الصدق والحرفية، سواء من جهة ردود فعل شخصية البروفيسور تجاه العقبات التي يواجهها في العمل أو عن طريق محاولاته الدؤوبة للاستمرار في الاشتغال على المعجم. كذلك الحال مع المستوى العاطفي للبروفيسور المتعلق بعائلته وزوجته. لكن رغم ما قدمه جيبسون من أداء متماسك، يبقى التميز الساطع في الأداء من نصيب شون بين، فهو لم يقدم المجنون بالصورة المباشرة السطحية، بل عمل على الحفر في شخص المضطرب نفسيا ودوافع الفعل لديه، ظهر هذا جليا في حركة الشخصية وأفعالها غير المنضبطة، وفي ضبط التوازن بين ثنائية عقل/جنون في الشخصية التي تتعرض لتغيرات حادة في المزاج بسبب العلل النفسية التي تعتريها. زد على ذلك، إبراز أثر الحب على الشخصية ودوره في تطور خطها الدرامي وانخفاضه، وكل ذلك يدل على اطلاع واسع لبين على العوالم النفسية، وتفريقه بين مستويات الهوس والفصام والاكتئاب وغيرها من الأمراض النفسية.
تلافى فيلم "البروفيسور والرجل المجنون" الكثير من المشاكل التي تعتري الأفلام الهوليوودية، وتمكن من تقديم حكاية قيّمة بحبكة مشدودة، ومشاهد تخلو من الثرثرة والحشو الأميركي، وأعاد الاعتبار إلى الأشخاص الذين أسسوا المعجم الأشهر في تاريخ اللغة الإنكليزية، ورحلتهم المعقدة مع الكلمات وأصلها وجذورها، البروفيسور الذي لم يكن بروفيسورا، والمجنون الذي لم يكن مجنونًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.