}

لوحات وجداريات "ما بعد كورونا" باليمن.. صورة أخرى لمخاوفنا

صدام الزيدي صدام الزيدي 13 يوليه 2020
تشكيل لوحات وجداريات "ما بعد كورونا" باليمن.. صورة أخرى لمخاوفنا
"الجداريات المظهر الوحيد المتبقي لثورة الربيع العربي في اليمن"
في ظروف الحرب التي تشهدها اليمن للعام السادس على التوالي، وجد التشكيليون الشباب أنفسهم أمام تحد كبير، إذ وجدوا أنفسهم كما غيرهم من المبدعين في حالة اشتباك روحي مع وتيرة الأحداث والمعايشة اليومية للجوع والظلام والدمار وتطاير الأحلام بحياة مدنية كريمة في سماء ضبابية وغيمة سوداء في آخر الأفق تلوّح بالمزيد.

من هنا كان التشكيلي وفنان الغرافيتي ذي يزن العلوي، في صنعاء، يشهد بأم عينيه على يوميات مشتبكة لكنه ذهب ليواجه مخاوفه الداخلية (التي هي جزء من مخاوف الناس ومشاهداتهم وحالة الإعياء والانكسار المدوية في أعينهم) بالفن، عندما أصبح الجدار فضاءً ممكنا للتحليق وبات الرسم ملاذا من بؤس يطارد الروح وينكأ الجراحات.



"عالم ما بعد كورونا
"
في أحدث أعماله الفنية، المنبثقة من بين رماد الحرب وأشلاء اللحظة اليمنية العصيبة، يجسد ذي يزن العلوي في مجموعة فنية بعنوان "العالم ما بعد كورونا" (حبر على ورق)، حقيقة أن الفن هو ليس فقط تعبير عن الواقع المعاش حاليًا، بل هو استذكار للماضي واستشراف للمستقبل، إذ تبرز في لوحات هذه المجموعة بدائية الإنسان وعودته إلى يومياته الأولى على هذه الأرض. في زمن وباء كوفيد- 19، يستحضر العلوي بدايات الإنسان في البرّية وصراعه من أجل البقاء على هذه الأرض.
"أعود إلى تعليق الصديقة كارلوتا إبراهيم حيث قالت: وكأن الإنسان سيعود بدائيا وإلى نظرية داروين، ليتطور من جديد ويتكيف مع البيئة والظروف الجديدة، ليستطيع البقاء على قيد الحياة، حيث البقاء للأقوى"، يقول ذي يزن في سياق حديثه لـ"ضفة ثالثة"، مشيرًا إلى أنه: "بالنسبة إلى بلد تحت نار الحرب، لم يكن الحجر الصحي أو المكوث القسري في المنزل شيئًا غريبًا. ففي بداية الحرب كان مكوثنا في المنزل طويلا ومخيفا ولا نعرف متى سوف نُدمّر، غير أن وباء كوفيد- 19، الذي اجتاح العالم قبل نصف عام، جاء إلى اليمن كضيف، في بلد لا يمتلك أي امكانيات صحية لمواجهته، فموتك بخطأ طبي أو افتقارك لرعاية صحية أكثر من احتمال إصابتك بكورونا، هذا الوباء الذي أوقف الحياة بكل العالم وجعل كل إنسان يخاف من أخيه الإنسان، كما أن الكوارث الطبيعية والأوبئة هي حتمية لمواصلة حياتنا".
تتضمن هذه المجموعة عدة أعمال فنية تصور الإنسان بشكل متوحش، وتصور حيوانات تحمل أسلحة وأجهزة إنسانية؛ معالجة بصرية عن كيف كان الإنسان وكيف تطور وهل سيعود لمراحله السابقة؟ 



أكثر من علامة استفهام؟ 
متحدثا عن تجربته الشخصية في مواجهة الوباء، في مدينة كصنعاء، تكتظ أسواقها وأرصفتها بالناس، بعكس حالة العزل والاحتراز التي عاشتها بلدان عدة حول العالم، يقول العلوي إن هذا الوضع أوصله إلى مرحلة محفوفة بعلامات استفهام كبيرة (وجودية)، على حد قوله، وهذا كان دافعا لمواجهة الموت المحدق من كل اتجاه بالرسم: "وحيدون. يحاصرنا الموت من كل الجهات، لذلك بدأت برسم أعمال فنية تتسم بالوحشية والظلمة والعري القاتم في شخصياتي التي لا تستطيع التمييز هل هي بشرية أم لا؟ خطوط غامضة ومظلمة تشبه ما نعيشه الآن بالضبط. صحيح، كما يقول البعض، أن دور الفن هو نشر شيء إيجابي لنجعل الناس يشعرون بالألفة، لكني أرسم في خط آخر هو (مواجهة مخاوفنا).. مواجهة كل خطر وكل قلق داخل كل إنسان في أي مكان وحيد وهارب من قبضة كورونا. المواجهة لتحويل كل هذه الأفكار المرضية وإخراجها من اللاوعي الداخلي. البعض كان يجهل أنه يمتلك كل هذا الخوف والقلق في داخله واستطعت أن أجعلهم يكتشفونه ويجابهونه. إنه الوقوف في الخط الأمامي لجعل الناس تخرج أوهامها وتكتشفها وتستطيع أن تواجهها وتقتلها. وبعدها سيكون سهلا أن نزرع بداخلهم شيئا جميلا".






وينوه العلوي: "ما حاولت أن أرسمه، في يومياتي الكورونية، هو بمثابة تابو. لم أستثن أشياء كثيرة، ومن هنا أنا لا أحاول أن أنتزع شيئًا من داخلهم (الشخصيات المرسومة)، بل أقوم بزرع فكرة هي أن جميعنا نعرف أسرارنا، أشياءنا المخبأة والمحرمة. هي دعوة بأن جميعنا نمتلك جسدا واحدا ولا يوجد بيننا اختلاف، مهما حاول أي طرف زعزعة هوية شعب يرزح تحت وطأة الحرب والجوع والأوبئة. نستطيع لملمة أجسادهم، وتوحيد هوية مشتركة بيننا جميعا. البعض سمى الأعمال قبيحة. وأنا أرفض هذه التسمية لأن الجمال بالنسبة إلي مطلق ونستطيع تذوقه في كل شيء. إنها فترة مظلمة ودوري أن أصور ما أعيشه. وبسبب أنني أعيش بجانب الناس وألمس معاناتهم فأنا أعبر عنها. مهما رسمت فهو ينطلق من شيء مشترك بيننا. ومهما كانوا يرفضون هذا النوع من الفن، إلا أنهم تدريجيا يتقبلونه لأنهم يثقون بصدق ما يقوم الرسام برسمه.  ودور أساسي لنا كفنانين هو ليس التعبير عما يعاش، فحسب، بل أيضا رفع وعي المجتمع عبر الفن الذي نقدمه".
يمثل النشر على مواقع التواصل الاجتماعي (والسوشيال ميديا عموما) نافذة مهمة للتواصل بين الفنان وجمهوره، وهنا يجد ذي يزن في فضاء فيسبوك فسحة لنشر جديد لوحاته وجدارياته: "خلال هذه الفترة أستطيع القول إنه في كل مرة أقوم بنشر عمل، يتحول النشر إلى ندوات افتراضية حيث يتناقش الأصدقاء حول الفكرة ويحللون العمل ويضعون تأويلاتهم، وهي مشاركة فعالة مهمة بين الفنان والمجتمع، وتصنع حوارا. كما أن الفن في هذه الحالة يكون جزءا من حياة الناس اليومية ويناقش مخاوف الإنسان في العالم".



حملات ومبادرات
في مطلع 2020 نفذ ذي يزن العلوي بمشاركة خولة المخلافي ورشيد قائد، حملة جداريات في صنعاء بعنوان "صنع في اليمن"، وقبلها، في 2014، نفذ حملة "كاريكاتير الشارع"، وفي 2018، نفذ حملة "شظايا" وهي الحملة الفنية الثانية له بعد "كاريكاتير الشارع"، ثم توالت أعمال تشكيلية وغرافيتية، منها: سلسلة "الحمام الراقصات"؛ سلسلة "قمع"؛ سلسلة "ضحايا الحرب- كائنات بعيون رمادية"؛ سلسلة " Rosesورود"؛ مجموعة وحوش الحرب: "إله الحرب"، أو "ملك الحرب"؛ مجموعة "مشردون"؛ مجموعة "العالم ما بعد كورونا The World post-covid19"؛ مجموعة "أصدقاء"؛ مجموعة "قصص".



"صُنِع في اليمن"
يوم 22 يناير/ كانون الثاني 2020، أطلق العلوي حملة جداريات "صنع في اليمن" ويحمل العنوان إشارة غير مباشرة إلى أن السلام سيصنع في اليمن مهما طال أمد الحرب والاقتتال. وهنا تبرز رسالة الفن ودعوته إلى السلام والتعايش ونبذ الحرب. نفذت الحملة بمشاركة كل من الفنانة خولة المخلافي والفنان رشيد قائد.
في حديثه عن هذه الجداريات ينوه ذي يزن أن "(صنع في اليمن) ليس فقط مجرد اسم، بل إنه هدف نريد ايصاله. ففي الوقت الذي تحاول أطراف الحرب التدمير، نحن نحاول البناء، وأن نصنع السلام والأمل والحب"، مشيرا إلى أن الناس تعبت وأنهكت من الحرب ومن حصر الضحايا، "ولا يمكن أن يوجد شيء نحارب لأجله سوى السلام عبر الفن. لم نجد مكانًا يمكن أن نعبر فيه عن مشاعرنا ومواجعنا أكثر من الشوارع العامة. هذه الشوارع لا تعمل بوصفها فضاء فيزيقيا تتشكل فيه الصراعات وسبل التعبير عنها. مع ظهور حملات فن الشارع بدأت تشكل فضاءً يحمل معنى رمزيًا. حملات فن الشارع تعبر عن المشاعر الجمعية والعواطف المشتركة والآراء العامة للأفراد العاديين حول معاناتهم اليومية والتي يتم التعبير عنها عبر الرسم على الجدران".
ويضيف: "في الحرب ظهرت هويات مختلفة لكنها تتفق في العنف والقتل والتدمير. تقتل بلا رحمة وبدم بارد وبضمير مرتاح! هذا ما قام به أطراف الحرب بتحويل البشر من ناس عاديين وأسوياء إلى جنود وقتلة. وهدفنا هو تخليص الناس من النزعة القتالية والعدوانية وذلك بالرسم بالألوان في الشارع لتحريك المشاعر من أجل السلام".
إلى ذلك، يعتقد ذي يزن أن الرسم في الشارع بمشاركة الناس يذيب كل الهويات والفوارق بينهم ليجعل الموقف الحاسم في الفن هو الذي يجعل جميع الذين يرسمون يتصرفون وفق انتماء إنساني موحد يدين وينبذ الحرب والعنف. ومن خلال فن الشارع يدرك الناس أن بينهم قواسم مشتركة ويلتقون في هويتهم الإنسانية المشتركة.








"كاريكاتير الشارع"
حملة "كاريكاتير الشارع"، بدأت كفكرة في ديسمبر/ كانون الأول 2012، وتم العمل عليها في الشارع من 2014 حتى 2017، وانطلقت بهدف إخراج الكاريكاتير من فن في الصحف والمجلات إلى الشارع. يقول العلوي عن الحملة: "بدءا بحملة (كاريكاتير الشارع) استطعنا استغلال الفن للتعبير عن قضايا مختلفة وإيصالها للمجتمع بمن فيهم الذين لا يقرأون المجلات أو يتصفحون الجرائد، وذلك للحفاظ أيضًا على مبدأ حرية الرأي والتعبير للجميع. أما حملة "شظايا" التي نفذت في أغسطس/ آب 2018، فهي الثانية بعد (كاريكاتير الشارع) مباشرة، برغم أن كاريكاتير الشارع كانت قد رسمت عدة جداريات في وقت الحرب، إلا أن "شظايا" أطلقناها كحملة تركز على الشظايا والآثار الناجمة عن الحرب وأثرها على المجتمع. أول نشاط كان بالرسم في بيت مدمر ونفذنا فيه عملًا رمزيًا عبارة عن رسم خطوط تمثل أرقام الضحايا في مساحة تتجاوز 20 مترا. وذلك للتعبير عن أن ضحايا الحرب أصبحوا مجرد أرقام. النشاط الثاني كان عن الأوبئة والأمراض القاتلة. والنشاط الثالث كان عن زراعة الألغام وعن خطرها الكبير على الأبرياء. هناك أيضا سلسلة "الحمام الراقصات" وهي مجموعة فنية حملت سمة مغايرة في ابتكار أسلوب جديد لرسم الحمامة بشكل بسيط وجميل ومعبر. وهذه الحمامة لا تعبر عن حمامة السلام، بل هي عبارة عن أرواح الأبرياء الذين سقطوا في الحرب وتحولت أرواحهم إلى حمام. أما الرقص فيرمز إلى الحرية وما أصبحت عليه هذه الأرواح من سعادة وخلود".


الغرافيتي في اليمن
يعد الغرافيتي أو فن الشارع واحدًا من أهم مميزات عصرنا الراهن، إذ تميز منذ بدايته بالتمرد والاحتجاج ليس فقط على الفن، بل على الحياة الاجتماعية والسياسية. إنه "فن غير قانوني جعل الشارع ساحة له"، وفقًا لفنان الغرافيتي اليمني ذي يزن العلوي، الذي قال إنه قبل نشوء "الجداريات" كان القائمون على المتاحف والمعارض وتجار الفن يجعلون الفنانين يخضعون لمعايير كثيرة، لكن "فن الشارع" جاء ليسقط كل هذه المعايير في الفن، وفي حياة الناس. فعندما تنعدم وسيلة الناس الضعفاء للتغيير، يلجؤون للاحتجاج في الشارع، وكذلك الفنانون. ونشير هنا إلى أنه في اليمن انطلقت أول حملة جداريات في الشارع عام 2012 بقيادة فنان الغرافيتي مراد سبيع (الحاصل على زمالة صندوق حماية الفنانين بجامعة إيكس مارسيليا- فرنسا) وأطلق عليها اسم "لون جدار شارعك". بعدها استمرت حملات فن الشارع وما زالت ترافق كل الأحداث والتحولات السياسية في اليمن. كما أن الجداريات (وفقا للعلوي) تعتبر حتى الآن المظهر الوحيد المتبقي من ثورة الربيع العربي في اليمن للاستمرار في الاحتجاج في الشارع وتواصل المطالبة المدنية والسلمية بطرق حضارية وفنية راقية وبمشاركة الناس من كل الفئات.



العلوي: الرسم بالألوان في الشارع يهدف لتحريك المشاعر من أجل السلام

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.