}

"ومن ثم السُكون".. بورتريهات بيروت ما بين القلق والثورة

دارين حوماني دارين حوماني 19 يوليه 2020
تشكيل "ومن ثم السُكون".. بورتريهات بيروت ما بين القلق والثورة
معرض محمد المفتي بمثابة أرشيف بصري لبيروت
ينخرط المعماري والفنان التشكيلي محمد المفتي (1976) في أجساد ووجوه بيروت القلقة والمبهمة في معرضه الحالي والرابع له في بيروت "ومن ثم السكون" في غاليري 392 رميل 393 (الجميزة/ بيروت)، فالمعرض هو بمثابة أرشيف بصري لبيروت منذ بداية ثورتها في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى آخر نقطة زيت على لوحاته.

نحن أمام تداخل تراثي اجتماعي سياسي واقتصادي. ثمّة عمارات تتّكئ على الماضي تكاد تتنفّس، انهيارات اقتصادية ومشاهد حيّة من شوارع تطالب بالحياة، وكائنات معزولة بفعل وباء كورونا. بعد معرضه Anamnèse في شتاء 2020 في باريس والذي وثّق فيه أحياء ورموز وطنه الأم سورية وحاول فيه استجواب الذاكرة الجماعية وبقاياها من خلال تفكيك وإعادة تفسير معانيها ورموزها الموروثة، اختار المفتي أن يحكي حكاية بيروت من نفس المكان الأرشيفي، بيروت التي انتقل إليها منذ ثماني سنوات بُعيد الحرب السورية واستقرّ فيها وطنًا ثانيًا، فأحبّ تفاصيلها بكل أوجاعها ليأتي توثيقه لها نقلًا مباشرًا لذاكرتها المهشّمة بفعل رموز السلطة، ولثورة التزمت الصمت التامّ بعد كورونا، وشكّل هذا التناقض الذي عاشته بيروت في فترة قصيرة زمنيًا مَلهمةً للفنان الذي أراد أن يرسم فعل الحراك وما هو مضادّ له، أي فعل الصمت، فكان عنوان المعرض "ومن ثم السكون..".
يكتب المفتي في البيان الخاص بالمعرض: "من الحركة إلى السكون، يصوّر هذا المعرض الانتقال من الضجيج إلى الصمت، من التجمّعات الشعبية إلى العزل. كفنان توثيقي، يتفحّص العمل بيئة المدينة الحجرية وهياكلها المعمارية الرمزية".
أكثر من عشرين لوحة متنوّعة الأحجام مشغولة بالزيت والإكليريك وبحب بيروت الذي قاده إلى الرسم على طريقة التصوير الفوتوغرافي، تتمدّد مناخاتها بين انهيار الدولة السلطوي والاقتصادي وبين ثورتها وعزلتها. الفن المعماري والتشكيلي اللذان شكّلا البنية التحتية للمفتي، نقلهما من دمشق إلى بيروت عبر تجسيد مشهديّاتها المتناقضة. يبدأ المفتي عمله باسكتشات تجريدية سريعة للفكرة، هي اللوحة الطفلة، يشتغل عليها بالحبر الهندي وهي معروضة أيضًا. يتنقّل المفتي بين ثيمات متعدّدة تختصر المدينة المقفلة بمكعّبات إسمنتية، هي رؤية الفنان لبيروت كاملة مع العزلة التي فرضتها جائحة كورونا. مبانٍ عتيقة تصطدم بمبانٍ شاهقة وفي الأفق الذي يكاد لا يُرى ثمة سماء رمادية وليست غائمة تشير إلى إحباط جماعي. كذلك السلطة وما تسبّبته من انهيار اقتصادي أودى بحيوات عديدة على طريق الفقر حُمّلت أرواحها على الأيدي في انتفاضة شعبية أرادت اسقاط النظام الفاسد الذي لا يبدو سقوطه محتملًا في بلد طائفي بامتياز.  







بُعدان سياسي واقتصادي
البُعدان السياسي والاقتصادي نجدهما في معرض المفتي، إحدى اللوحات المعنونة "Democracy" (الديمقراطية) اشتغل عليها الفنان قبل عزلة كورونا ورغم ذلك يبدو رئيس البرلمان وحيدًا على كرسيّه مع قناع على وجهه ليكون ذلك رمزًا لسلطة لا تسمع ولا ترى نداءات وندوب أبنائها. كراسي البرلمان فارغة وصندوق الاقتراع فارغ. يعلّق المفتي عند لقائنا على ذلك: "هناك تباعد من قبل كورونا، تباعد سياسي ومسافة شاسعة بين المجلس والشعب، صندوق الاقتراع هو دليل على الديمقراطية وفراغه دليل على تعطّل الديمقراطية"، ثمّة إشارة إلى فراغ السلطة من عملها الحقيقي تجاه وطنها، سلطة معطّلة من واجباتها، وثمّة قطّة وحيدة على أحد الكراسي في إشارة إلى الطبيعة التي ستأخذ مجراها ذات يوم. "ما يهجره الإنسان ستقتينه الطبيعة"، يضيف المفتي. جدار البرلمان سيكون رماديًا مصاحبًا للظلام الذي فرضه البرلمان اللبناني على شعبه. اللون نفسه سنجده في عمارة بيروت الاقتصادية الهشّة يرسمها المفتي في لوحته "System Crash" (انهيار النظام)، بناء مخلخل وغير مرتكز على الأرض، مفرط بانزياحات تقود إلى الانهيار مُعَنون بـ"بنك النحر المتوسط"، يشكّل هذا العمل إبداع المفتي في نقل ما فعله النظام المصرفي باللبنانيين من فعل لنحر جماعي مؤسّس على هشاشة وفراغ لن ينزاحا من ذاكرة اللبنانيين التي باتت رمادية بالكامل.
فراغ السلطة من مكّوناتها الطبيعية واستيلائها على أموال الناس الذي غذّى أعمال المفتي، قاد إلى انتفاضة شعبية بدت مذهلة في بداياتها، تصوّرنا معها أن التغيير سيكون محتّمًا، ثورة نقل جمالها لنا الفنان في ثلاث لوحات "Lord of the Ring" (سيد الخواتم)، "October in Lebanon" (تشرين في لبنان)، و"Rue de Damas" (طريق الشام). جسد واحد على طريق الرينغ يقطع الطريق على الشاحنة في لوحة "سيد الخواتم"، الذي اقتبس عنوانها محمد المفتي من فيلم "The Lord of The Rings" للمخرج بيتر جاكسون والروائي ج. ر. ر. تولكين. جسر الرينغ الذي أصبح رمزًا للثورة، فقد بدأت من هناك، هو نفسه الذي يفصل "البيروتتين"، "الشرقية والغربية"، وهنا يتساءل المفتي في حديثه لـ"ضفة ثالثة": "لماذا كانت الشرارة الأولى من جسر الرينغ، ولماذا بدأ مسلسل قطع الطرقات من هناك، ألا يشكّل ذلك استعادة لرمزيّات الحرب الأهلية؟".

الثورة أنثى
في لوحة "تشرين في لبنان" المكثّفة بصريًا سنقرأ شعارات الثورة: "الثورة أنثى، كلّن يعني كلّن، ويل لأمة كان جبرانها خليل وأصبح جبرانها باسيل.." وغيرها من الشعارات تحملها أذرع مرفوعة، لا أجساد ولا وجوه، فقط أيادٍ تثور ترفع أواني وأوعيةً في إشارة إلى محاولة إيقاظ الشعب من سباته الذي استمرّ لأكثر من ثلاثين عامًا، ولتعلو الأصوات، أعلى من أصوات السياسيين الذين يتوجّب عليهم أن يصمتوا ذات يوم. نحن أمام حضور للدخان والألوان الثورية، سنجد ألوان الأسود والرمادي والبرتقالي والأحمر، ثمّة أيضًا ما يدلّ على الأمكنة التي كان يتجمّع فيها المتظاهرون، طريق القصر الجمهوري، طريق عالية- شتورة.. تبدو اللوحة كتصوير فوتوغرافي للحظة استثنائية من ذلك الزمن الذي لا يموت. الأذرع نفسها سنجدها في لوحة "طريق الشام"، أذرع مرفوعة مطالبة باسقاط "حكم المصرف" أمام مبنى يوحي مباشرة بأنه المصرف المركزي في بيروت، سوف نرى خلفية بيضاء مع تدرّجات للألوان الرمادية فيما يضيء الأحمر اللبناني في خمسة أعلام محمولة بأيدي متظاهرين ليشكّل هذا اللون الضوء المعاكس في اللوحة.  



ستأتي لوحة "And then One Day" (وبعد يوم) مباشرة بعد لوحة "طريق الشام" على جدار واحد في المعرض، إنه صمت المدينة بعد ضجيجها، نحن في شارع باب إدريس الملاصق لساحة الشهداء، احتفظ المفتي ببراعته في الهندسة المعمارية لهذه اللوحة، شغل معماري فني دقيق يحمل هوية عالمية، مباني بيروت العالية وبيت بيروتي عتيق وما بينهما ما تبقّى من الثورة مع وباء كورونا، بالونات ملوّنة ستتمكّن من حمل مكعّب إسمنتي يحمل شعار "بيروت" بخط يد شركة سوليدير التي ثبتّته ورفاقه هناك يوم أزالت ما تبقّى من بيروت الجميلة. سوف نتمشّى قليلًا لنرى أفق بيروت البصري مغلقًا بالمكعّبات الإسمنتية يصوّره لنا محمد المفتي في لوحة "Horizon" (الأفق)، هنا انغلاق الرؤية، رذاذ الموج يكاد يصلنا من اللوحة من خلف الأحجار التي تعمل كسدّ أمام حرية اللبنانيين.   
ماذا تفعل المدينة خلال الحَجر؟ يرسم المفتي في لوحتين تحت عنوان "La Vie, Mode D’emploi" (الحياة دليل الاستعمال)، المقتبس عن عنوان رواية للروائي الفرنسي جورج بيريك، عمارتين مكشوفتين على صمت تام، أجساد صغيرة تمثّل كلّ منها وحدتها على طريقتها، جسد يقف على الشرفة وآخر يستحمّ وآخر يشاهد التلفزيون واثنان يتسامران، يبدو فعل التلصّص هو الفعل الوحيد الممكن في ذلك العالم، وغرف أخرى فارغة من الحياة. إنه السيناريو المؤكّد للعزلة التي يكشفها الفنان أيضًا في لوحة "مطار بيروت الدولي" ولوحة "الجامعة اللبنانية"، الأروقة ساكنة وفاقدة للحياة، المطار سيكون كعجوز متقدّم في العمر يتهيّأ للموت إلا من عشبة خضراء نافرة في مكان رمادي، هي الطبيعة مرّة أخرى تقتني ما يهجره الإنسان. الجامعة اللبنانية ستقدّم لك ألوانًا زهرية وذهبية مقابل رمادي يجتهد على العتمة، هنا سكون سيكون مخيفًا ونحن ندخل في الرمادي الذي اختاره الفنان لأعماله والذي سيأخذنا مباشرة إلى فعل الموت.




حنين إلى زمن جميل مضى ولن يعود
اختار الفنان أن يوثّق تاريخ بيروت المعماري في عدد من اللوحات التي تحمل حنين الفنان إلى زمن جميل مضى ولن يعود. لوحة "Revelation" (استكشاف) هي تصوير لمبنى دار الأوبرا الذي لم يكن معظم الثوّار يعلمون به، مبنى غائب عن ذاكرة شعب كامل، لم يعرف اللبنانيون أن لديهم دار أوبرا إلا عندما نزلوا إلى ساحة الثورة، هناك فقط أزاحوا المكعّبات الإسمنتية وكسروا الحواجز ليظهر لهم مبنى أثري تمّ إخفاؤه قصدًا أو عن غير قصد، لم يعد مهمًا، فالسلطة فعلت أكثر منذ ذلك بكثير، لربما هو أحد مباني بيروت العتيقة التي لم تتمكّن سوليدير من الاستحواذ عليها، الإخفاء ليس تجاريًا فقط، إنه فعل إخفاء ثقافي لا يعكس إلا ما سعت إليه السلطة الحديثة منذ ولادتها في عام 1992، أهداف إقتصادية تجارية بحتة مترافقة مع هدم ثقافي لتكريس الطائفية.


ثمة توثيق لمبان بيروتية شهيرة يشتغل عليه المفتي في عدد من اللوحات، قصر بشارة الخوري الرئيس الأول للجمهورية اللبنانية، مبنى فورد ومبنى قديم في منطقة مار مخايل، هو اشتغال محمد المفتي على تذكير اللبنانيين بأشياء جميلة في مدينتهم. التنبيه الأجمل لنا هو البناء المعماري الكبير الذي كان ذات يوم معملًا للبيرة في منطقة مار مخايل، المبنى مهدّم حاليًا فكيف تعرّف عليه محمد المفتي؟ يجيب: "كان من أهم المباني في بيروت من طراز العمارة الصناعية الفرنسي، وكان من الممكن تجديده بسهولة فيتحوّل إلى جامعة أو مدرسة. حين كنت مقيمًا في الحي المقابل للمعمل تقرّر هدمه، صُدمتُ عندما علمتُ بقرار الهدم، توجهتُ إلى المبنى وعربشتُ على حيطانه، ودخلتُ إليه، بدأت برسم اسكتشات عنه. الآن نشاهد جورة فارغة واسعة عمقها خمسة عشر مترًا لاستبداله بمبنى عالٍ". ثمة توثيق آخر لبيروت في لوحة "Beyrouth, Etat des Lieux" (حالة الأماكن)، لوحة آتية من مدرسة واقعية تنقل لك التفاصيل كاملة، تفاصيل لا نراها فقط بل سنعيش بحواسّنا الخمس معها. "حالة الأماكن" تصوّر التناقض المعماري في بيروت، الطبقات المتعدّدة، تناقض طافح بين طبقة غنية وأخرى فقيرة في عدد من الأحياء، مبانٍ شاهقة مع حداثة معمارية تطلّ على سماء رمادية وتشكّل حاجزًا بصريًا أمام أبنية ذات طراز قديم بطبقات معدودة على أصابع اليد تطلّ على مستوعبات نفايات طافحة على الأرض تعكس حالة المدينة التي لم تجد حلًا للتخلّص من نفاياتها، نسمع سكون المدينة "ونشمّ في اللون الرمادي روائح الإحباط"، كما يعبّر المفتي.



تفحص لوحات المفتي التصويرية والواقعية تضاريس بيروت بثورتها وعزلتها وانهياراتها فقط، ليست واقعيّتها شاهدًا عليها وحسب، وسنجد كل ذلك في تعابير الخوف والتيه التي تقسّم خطوط ثلاثة وجوه مكثّفة بالمعاني معنونة "Dementia" (الخلل العقلي)، هي بورتريهات الكائن المعذّب في مدينة عربية أفرغها حكّامها من جمالها، كائنات ضائعة بين ثورة وعزلة وانهيار كامل فقدت القدرة على التمييز وتحوّل ضجيجها إلى سكون، ليس سكون العزلة فقط بل هو سكون الصدمة. إننا أمام تسجيل يهزّنا من دواخلنا، لكل وجه من الوجوه الثلاثة تعبيراته التي تسرد لك ما حلّ ببيروت مَرَضيًّا، ما يجمعها هو الصدمة، البؤس التام وقسوة الحقيقة. اختار الفنان خلفيّة سوداء للوجوه الثلاثة بما يثيره هذا اللون من خوف يلتهم المدينة. في هذه البورتريهات الثلاثة كما في معرضه الكامل "ومن ثم السكون" لا يصوّر المفتي فقط، ولا يوثّق، ولا يذكّر، بل أيضًا يفضح بيروت التي يسيل منها اللون الأسود على خطوط وجوهنا.   

معرض "ومن ثم السكون" مستمر حتى 3 آب/ أغسطس المقبل ــ غاليري 392 رميل 393 (الجميزة/ بيروت).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.