}

كيف تقصفُ "كازابلانكا" مع أمبرتو إيكو؟

نجيب مبارك 8 يوليه 2020

قد يندهش البعض حين يعلم أنّ الكاتب والفيلسوف والباحث الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو (1932-2016) لا يتّفق مع الرّأي القائل بأنّ فيلم "كازابلانكا" هو أحد أفضل الأفلام التي مرّت في تاريخ السينما، حتّى صار معلمًا خالدًا وأسطورة تتوارثها الأجيال، منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، لأنه خلق عالمًا قائمًا بذاته يحجّ إليه عشاق الفن السابع من كلّ مكان. لكن رغم ذلك، هذا لم يشفع له لدى إيكو، الّذي يرى أنّه فيلمٌ متواضع للغاية من الناحية الفنية، واختُرع عن طريق الصدفة تقريبًا. بل إنّه أصدر عليه حكمًا نهائيًا وقاسيًا، حين اعتبر أنّه ليس فيلمًا أصلًا، وإنّما توليفة من الكليشّيهات المكرورة. وهو حكمٌ لم يأتِ على سبيل الدّعابة والسخرية، التي اشتهر بهما إيكو في محاضراته وحواراته، وإنّما جاء بعد بحث دؤوب وتأمُّل عميق دام سنوات طويلة.



"كازابلانكا": ولادة الآلهة الجديدة
تناول أمبرتو إيكو لأول مرة فيلم "كازابلانكا" في مقال بعنوان: "كازابلانكا، أو ولادة الآلهة الجديدة"، وصدر في مجلة "إسبريسو" الإيطالية خلال عام 1975. وتُرجم بعد ذلك إلى الإنكليزية، وصدر ضمن كتاب "رحلات في الواقع المُفرط" عام 1984، بعنوان "كازابلانكا، أو الكليشيهات تستحوذ على اللّعب"، وأُعيد نشره ضمن كتاب "علامات الحياة في الولايات المتحدة: قراءات في الثقافة الشعبية لفائدة الكتّاب"، الذي نشرته سونيا ماسيك وجاك سولومون، وصدر عن دار بيدفورد بوكس عام 1994. وهو يحضر أيضًا كمرجع في كتاب "الفلسفة السياسية تدخل مقهى ريكس: "كازابلانكا" والثقافة الأميركية المدنية" الصادر عام 2005. لكن هذا المقال يظلُّ، بحسب ما توفّر لدينا من معلومات، هو البحث الأساسي الّذي خصّصه إيكو بالكامل لفيلم "كازابلانكا"، رغم اشتغاله على السينما في كثير من أبحاثه ومؤلفاته العديدة، يُضاف إليه بحث آخر لاحق بعنوان "كازابلانكا: الأفلام الأكثر شعبية وكولاج التناص"، نشرته مجلة "سابستانس"، في عددها الثاني من المجلّد 14، ويمكن اعتباره تتمّةً للمقال الأوّل إلى حدّ ما، لكنّه هذه المرّة استفاض في تحليل ظاهرة الأفلام المعشوقة والأكثر شعبية من خلال نموذج فيلم "كازابلانكا" الشهير.
منذ السطور الأولى للمقال، يطلق إيكو هذا الحكم القاطع بلا رحمة على "كازابلانكا": "إنّه فيلمٌ متواضع للغاية من الناحية الجمالية (أي من وجهة النظر النّقدية)". هو في رأيه مجرّد رواية- صور، أو ميلودراما، حيث المعقولية النّفسية للشخوص ضعيفة للغاية، بينما تتوالى الحركات المسرحية من دون أسباب معقولة. ونحن نعرف السبب: تمّ صُنع الفيلم أو "اختراعه" تدريجيًّا بالموازاة مع مراحل تصويره، وحتى آخر لحظة لم يكن لا المخرج ولا كتّاب السيناريو يعرفون هل ستغادر البطلة مع فيكتور أو مع ريك. لذلك، ما بدا أنّها لقاءاتٌ مخدومة، متقنة ومثيرة للحماس، وتكشف جرأة البطلين غير المتوقّعة، هي في الواقع قراراتٌ اتُّخذت تحت وطأة اليأس التامّ من العثور على مخرج. والسؤال هو: كيف أمكن لفيلم أن يولد من سلسلة خطواتٍ غير متوقّعة، بينما هو فيلم لا يزال حتّى اليوم ينتزع التصفيق والإعجاب من طرف من يشاهده لأوّل مرة، لأنه يثير فيه حماسة الاكتشاف الجديد، أو من يعيد مشاهدته للمرّة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، لأنّه يقدّم له صورًا من الشجاعة لا يملّ من تكرارها أمام ناظريه إلى الأبد؟ لكن قبل البحث عن جوابٍ شاف، لا بدّ من الاعتراف أنّ طاقم التمثيل كان يضمُّ ممثلين خارقين للعادة، في مقدمتهم الرَّهيب هومفري بوغارت والرائعة إنغريد بيرغمان. ولكن هذا لا يكفي لشرح كلّ شيء.




حبكة من النماذج الأصلية
ينطلق إيكو في تحليله لفيلم "كازابلانكا" من خطاطة قراءةٍ نقدية كان قد أنجزها ت. س. إليوت لمسرحية "هاملت". في الواقع، رأى إليوت أنّ مصدر سحر هذه المسرحية، التي اعتبرها شخصيًّا واحدةً من أعمال شكسبير الأقلّ إبداعًا، هو أنّها خلاصة دمج نسختين فاشلتين من "هاملت"، سابقتين على النصّ النهائي، حيث كان موضوع إحدى هذه النسخ هو الانتقام (مع حيلة ادّعاء الجنون)، بينما موضوع النسخة الأخرى هو الأزمة التي تسبّب فيها خطأُ الأم، فنتج عن ذلك عدم تناسبٍ بين توتُّر هاملت وغموض جريمة الأمّ وعدم اتّساقها. يعلّق إيكو ساخرًا على هذا الوضع الملتبس: "رأى النقّاد والجمهور أنّه عملٌ جميل لأنّه مثير للاهتمام، وبالدرجة نفسها اعتقدوا أنّه عملٌ مثير للاهتمام لأنّه جميل!". لقد حدث الشيء نفسه تمامًا مع فيلم "كازابلانكا": كان المؤلّفون مطالبين باختراع حبكة الفيلم يومًا بيوم، مع تقدُّم مشاهد التصوير، لهذا وضعوا بسرعةٍ كلَّ شيء بداخل السيناريو.  ومن أجل تحقيق ذلك، بحثوا في الريبرتوار عن بعض الأعمال الناجحة في الماضي. وحتى لو افترضنا أنّ الاختيار بين هذه الأعمال التي أحبَّها الجمهور كان محدودًا للغاية، فقد كان عليهم أن ينتقوا بضعة أفلام، ومسلسلات، أو حتّى بعض أفلام الكيتش. لكنّهم، في الحقيقة، لم يعمدوا إلى الانتقاء، وإنّما استلهموا فعلًا كلّ تلك الأعمال الناجحة بلا استثناء، فكانت النتيجة بنايةٌ فخمة ومهيبة، شبيهة بساغرادا فاميليا (كنيسة العائلة المقدسة) في برشلونة، وهي من تصميم المعماري العالمي أنطونيو غاودي (1852-1926).

إنّها بناية مذهلة حقًّا، تصل إلى حدود العبقرية.
لم يتوقّف إيكو طويلًا عند الطريقة التي صُنع بها هذا الفيلم "الأسطوري"، لأنّه سرعان ما انتقل مباشرة لدراسة محتوى العمل من الدّاخل. وهنا لاحظ أنّ الفيلم يُفتتح في البداية على مكانٍ سحريّ في ذاته، هو المغرب خلال فترة الحماية الفرنسية، إذ تطلُّ "الإكزوتيكية" مع بعض النغمات العربية، قبل أن تنصهر في النشيد الفرنسي "لامارسييز". وما إن ندخل إلى مقهى ريكس، وهو مكان سحريّ آخر يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء (الحب، الموت، المطاردة، الجاسوسية، الوطنية وغيرها)، حتّى نسمع كلمات مثل: غيرشوين، أفريقيا، فرنسا، الولايات المتحدة.. هذه المشاهد تحيل في الواقع على حبكة من النماذج الأصليّة والأبدية، وهي حالات تسبق الحكاية في كلّ العصور. يرى إيكو أنّه لسرد حكايةٍ جيّدة، كان يمكن الاكتفاء بحالة نموذجية أصليّة واحدة، وهذا في حدّ ذاته أكثر من اللّازم. مثلًا: إمّا الحب اليائس، أو الهروب. لكن فيلم "كازابلانكا" لم يكتف بأحدهما، وإنّما استولى عليهما معًا. نكتشف أنّ هذه المدينة ما هي إلّا ممرّ للعبور نحو الأرض الموعودة (أو نحو الشمال الغربي، بصيغة أخرى)، ومن أجل العبور إلى هناك لا بدّ للمرء من اجتياز المحنة والانتظار ("إنّهم ينتظرون، ينتظرون، ينتظرون"، يردّد صوت المعلّق في مفتتح الفيلم)، وهذا العبور يتطلّب مفتاحًا سحريًّا هو التّأشيرة. وفي طريق البحث عن هذا المفتاح/ التأشيرة تتأجّج العواطف وتتصادم. أحيانًا، يبدو الحصول عليها متاحًا بواسطة المال (الّذي يظهر مرارًا خلال جولات اللّعب القاتل، أو الروليت)، لكن في النهاية، نكتشف أنّ التأشيرة يمكن الحصول عليها فقط من خلال التبرُّع (لكنه أيضًا تبرُّع يقدّمه ريك بمحضِ رغبته، مضحِيًّا بذاته).



النقاء، التضحية والحب التعيس
الفيلم أيضًا يحكي عن صراع رغباتٍ غير متحقّقة، باستثناء رغبات فيكتور لازلو، وهو بطل خالص للغاية، ورغبات الزّوجين البلغاريين. أمّا أولئك الذين تسكنهم رغبات "غير نقيّة" فمصيرهم الفشل. لهذا، يضيف إيكو نموذجًا أصليًّا جديدًا إلى النماذج السابقة، هو انتصارُ النّقاء. حيث لا يلجُ غير الأنقياء "الأرض الموعودة"، وإنّما يختفون قبل بلوغها، ومع ذلك يحقّقون هذا "النقاء" من خلال "التضحية"، وهنا يتجسّد معنى الفداء. ريك يعوِّض نفسه، مثلما يعوِّض قائدُ الشرطة الفرنسية نفسه. إذ يُلاحَظ أنّ هناك أرضين موعودتين: إحداهما أميركا، وهي بالنسبة للكثيرين مسعى خاطئ، بينما الأرض الأخرى هي "المقاومة" ضد النازية، أي الحرب المقدّسة.
في خضمّ كلّ هذه النماذج الأصليّة المتمحوِرة فقط حول التضحية، يتمّ إدراج ثيمة الحبّ التعيس. إنّه تعيس بالنّسبة للبطل ريك الذي يحبّ إلسا ولا يستطيع امتلاكها، وتعيس بالنسبة لإلسا التي تحبّ ريك ولا تستطيع الرّحيل معه، وهو تعيس أيضًا بالنسبة لفيكتور، الذي يقتنع أنّه لم يحافظ على إلسا. إنّ لعبة الحب التعيس هذه تخلقُ بمهارةٍ تقاطعاتٍ مختلفة: في البداية، يكون ريك تعيسًا لأنّه لا يفهم لماذا تهرب منه إلسا، ثمّ يصير فيكتور تعيسًا لأنّه لا يفهم سرّ انجذاب إلسا نحو ريك، وفي الأخير تصير إلسا تعيسة لأنّها لا تفهم لماذا أجبرها ريك على الرحيل مع زوجها. إنّ القصص الثلاث لهذا الحب التعيس (أو المستحيل) تشكّل ثالوثًا غراميًّا. إنّ النموذج الأصلي للثالوث يستحضر بالضرورة "الزّوج المخدوع" إلى جانب "العاشق المظفَّر". لكن، في هذا الفيلم، يحدث العكس، الرجلان يخسران ويتعرّضان للخيانة، بينما يلعب كلّ واحد منهما دور الضحية لإرضاء الآخر. وفي جميع الحالات، كما في "اعترافات روسو"، تقف المرأة وسيطةً بين الرجلين. بمعنى أنّ هذه المرأة لا تحمل قيّمًا إيجابية، بينما الرجلان لوحدهما يحملان هذه القيّم.







ليس فيلمًا، أنتولوجيا أفلام 
في النهاية، يخلص إيكو إلى أنّ "كازابلانكا" ليس فيلمًا، وإنما هو أفلامٌ كثيرة في فيلم واحد، أو مجرّد "أنتولوجيا" بحسب تعبيره. فيلمٌ أُنجز عن طريق الصّدفة تقريبًا، ومن المحتمل أن يكون اخترَع نفسَه بنفسه، وإن لم يكن كذلك، فقد صُنِع ضدّ إرادة مُؤلِّفيه وممثِّليه. لهذا السبب، فهو يشتغل بمنأى عن النّظريات الجمالية والسينمائية، لأنّ بداخله تسري "قدراتُ السرد" بقوّةٍ شبه أرضيّة، ما زالت في حالتها المتوحِّشة، لم يتدخّل الفنّ لتهذيبها بعد. لكن، في مثل هذه الظّروف، يمكن أن نتقبَّل أن تُغيِّر الشّخصياتُ مزاجها وأخلاقها ونفسيتها من لحظة إلى أخرى. ذلك أنّ النماذج الأصليّة، حين تندفع بقوة وبلا خجل، يمكن أن تصل إلى أعماقٍ هوميريّة. إنّه فيلمٌ يستشهد بآلافِ الأفلام الأخرى الّتي سبقته، من خلال عمليات تّناصٍّ تلقى صدى لدى المشاهد، بينما يلعبُ الممثّل فيه دورًا سبق أن لعبَه وأتقنه مرّاتٍ عدّة. على ضوء كلِّ ما سبق، يمكن فهمُ ما ختم به إيكو مقاله: "إذا كان لدينا كليشّيهان اثنان، فسيثيران الضحك حتمًا. لكن إذا وضعنا مائة كليشّيه دفعةً واحدة، فهذا سيثير العواطف. لأنّنا نحسُّ بشكلٍ غامض أنّ هذه الكليشيهات تتحدَّث فيما بينها وتقيمُ حفلًا للتجدُّد. مثلما تلتقي ذروةُ الألم بالشبق، أو يُزهر فسادُ الروح طاقةً صوفيّة، أو تسمحُ التفاهة القصوى بمرور بصيصٍ من الجلال. هناك شيءٌ يتحدَّث بدلًا من المُخرِج. وهذه ظاهرةٌ تستحقُّ التَّبجيل".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.