}

اللوحة والأيقونة.. روحانيات لونية من صابور إلى ماليفيتش

أسعد عرابي 19 أغسطس 2020
تشكيل اللوحة والأيقونة.. روحانيات لونية من صابور إلى ماليفيتش
نزار صابور والمدن الأيقونية
قادتني إلى هذا العنوان التوليفي مصادفات حدثية، ومناسبات متتابعة، تؤكد ملاحظة إهمال مرجعية الأيقونات المسيحية (بثراء تياراتها وأساليبها وشجرتها التراثية الحبلى بدرر آلاف النماذج) في شتى بقاع العالم المسيحي بما فيه بعض البلدان العربية (وهي الأصل الآرامي للمسيح اليسوع ولغته ورسالته الإنجيلية)، ومدى تأثير موروثه الروحي والبصري وتقاليده الصناعية الصريحة والمختزلة الزاهدة، وأفانين نحت لوحاتها بالخامات والسطوعات النورانية الخصبة. أقول تأثيرها على مساحة لا يستهان بها من فنون الحداثة والمعاصرة، وأقول إن هناك إهمالًا نسبيًا في الدراسات والاستلهامات المخبرية، مقارنة بالاحتفاء بفنون وتأثيرات الاستامب الياباني (ما بين رمزه الجسر المعروف في حديقة كلود مونيه في جفرني وبرفانات بيير بونارد في متحفه) ثم الروحانيات اللونية المتوسطية لحرائق الشمس في الفنون الإسلامية من تصاوير شعبية أو نخبوية (مخطوطات) أو سيراميك وزيلليج وسجاجيد وغيرها. ناهيك عن الترحاب المتصاعد بالفنون السحرية بما فيها الأقنعة في أفريقيا وجزر المحيط الهادي وانتمائها إلى "الفنون الأولى" مثل الأنكا والأزتيك وشامانية الألسكا.. إهمال يثير الدهشة لما يملكه هذا التراث من تأسيسه للأنواع الأساسية من تقنيات اللوحة الغربية وطراز لوحة الحامل (أو المسند) بالذات في محترفات العالم المعاصر. يقع قياس الأيقونة بين قزمية المحفورة وعملقة الفريسك.

 
 بولياكوف يلخص تجريد الأيقونة 




















الثقافة السلافية - البيزنطية
لم تستطع الهيجانات العارمة للثورة البلشفية 1917 م أن تبتلع في هديرها الشعبي الثقافة النخبوية الأرثوذكسية، واستمرت تقاليدها الموسيقية الكورالية الإنشادية مع موسيقى العباقرة المهاجرين بأعظم عازف ومؤلف بيانو في تاريخ الموسيقى المعاصرة: رحمانينوف، استعار اللحن الأساسي في أشهر سيمفونياته الراقصة (Symphoniq Dans). كما اعتمد إيغور سترافنسكي في سيمفونيته المهاجرة Symphony of psalms نفس بناء التلحين وفرقة الإنشاد والترتيل الأرثوذكسي. أما في التصوير فالتمسك بأهداب تراث الأيقونات أشد مناعةً، حمله مارك شاغال بخصوصيته العبرية إلى "مدرسة باريس" من أوكرانيا، برمزه الأثير الموسيقي أو عازف الكمان (التروبادور) الجوال أو الهائم على وجهه في أرض الله الواسعة.
ورغم القمع الثقافي الماركسي للاتجاهات التجريدية فلم تخبُ شمعة أشد التيارات توقدًا: ماليفيتش في التصعيدية ولاريونوف في الإشعاعية في موسكو. أما التجريدي الروسي بولياكوف، أحد مؤسسي التجريد الغنائي في باريس في القرن العشرين، فهو الرمز الأساسي لحداثة الأيقونة المختزلة الزاهدة إلى تكوين حلزوني تحلق حول بؤرته تحولات لا نهائية من شظايا مساحات ذاكرة الأيقونة الأرثوذكسية. توازت هذه الحركة مع نبش معلمي باريس لتراث الأيقونة الغوطية، وتصاوير زجاجها المعشّق، وعلى رأسهم جورج روو ثم دوبوفي وليون زاك وبيسيير ومونسييه وجان بازين، فاختلط في نشاطهم الميدانين: عملقة نورانية الزجاج المعشّق (التي تقود النور الإلهي إلى داخل الكاتدرائية)، ومتوسطية حميمية قياس الأيقونة الخشبية. تصدر نورانية الأيقونة ليس فقط من موضوعاتها القدسية (الثالوث المقدس وسيرة يسوع ومريم والقديسين) وإنما من تقنية توهج الأهلة الدائرية (التي تسربت إلى التصاوير الإسلامية وشخوصها في الفترة العباسية)، وبعض الأيقونات الشرقية تقص حدودها في الأعلى وفق دائرة الأهلة المركزية.

 من مجموعة المدن لماليڤيتش وتأثيرها على صابور 


















***

إن الحدث الأول الذي أثار لديّ هذا الموضوع يتمثل بالمعرض البانورامي للأيقونات الأرثوذكسية المعاصرة في روسيا وأوكرانيا (وبعض الأمثلة من اليونان). يقام لأول مرة في قلب العاصمة الفرنسية، على كثب من "معهد العالم العربي" وعلى ضفة نهر السين، عانق درره "المعهد العالي للعلوم الدينية" واستمر خلال عدة أشهر ثم أغلق منذ فترة قريبة تحت عنوان "أرثوذكسية" (Orthodoxie). كانت مؤتمراته والدراسات الجديّة التي رافقته فرصة لتأمل خصائص موضوعاته حول سيرة المسيح ومريم والقديسين ضمن التقاليد السلافية - البيزنطية. تتميز الأيقونة الأرثوذكسية عن نظيراتها الغوطية بالعناية بالإطار الخشبي أو المرآتي أو الفسيفسائي، وبروزه النحتي كجزء أساسي من البناء البصري القابل للتجريد في تأثيره المعاصر. أما تقنيتها بشكل عام فتعتمد على التصوير بـ"التامبيرا" على صفائح خشبية، هو ما قاد إلى لوحة الحامل القماشية التي شاعت منذ عصر النهضة الإيطالي. تتظاهر صفائح الخشب الأرضية بشتى أنواعه (المذهبة أهلتها أحيانًا) وكأنها ملصقات تكعيبية حديثة.

 

نزار صابور والأيقونة السوريانية - البيزنطية
الحدث الثاني الذي شكل مناسبة لاقتناص العلاقة الحميمة بين حداثة اللوحة العربية، وحداثة الأيقونة العربية، هو سطوع نجم كثافة معارض وتصاوير أحد أعمدة التعبيرية السورية من الجيل الثالث بعد فاتح المدرس ونشأت الزعبي، وهو نزار صابور (من مواليد اللاذقية 1958 م)  ابتدأ دراسته الفنية في كلية فنون دمشق (حتى عام 1981 م) ثم تابع دراسته العليا في جامعة موسكو، تعرف هناك على الأيقونة الأرثوذكسية وتناسلها الحداثي لدى المعلم ماليفيتش وسواه. (هو أحد أبرز المدرسين في كلية فنون جامعة دمشق، رئيس قسم التصوير ما بين 2005 و2008).


 نزار صابور والإيقونة الشعبية السوريانية 


























ينتمي فناننا الأشد خصوبة نوعية وكمية في إنتاجه إلى جيل الرهافة اللونية (على مثال جماعة حمص) والعديد من هؤلاء استثمروا موروث الأيقونة السوريانية المحلية أي الآرامية (لغة المسيح) وتدعى بالأيقونة العربية ما بين مدرسة حلب ومدرسة فلسطين، من هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر معتوق وإدوار شهدا وفادي يازجي ويوسف عبدلكي. خضع هؤلاء إلى تأثير المعلم إلياس الزيات، المختص الأول في الوطن العربي في ترميم الأيقونة المحلية ومعرفة تاريخها وتقنيتها وتحديث التأثر بها. ولا شك بأن نزار صابور استعار الكثير من الصناعة الخشبية للفنان الزيات المنطلقة من مصراعي المرايا الشعبية في دمشق، ولكنه تأثر أكثر ببنائيه التكوين (وأبديته) لدى فاتح المدرس، ناهيك عن مختبره المادي (والموادي) الخصب ذي الماهية العدمية: مثل الرمال والرذاذ والسخام والرماد والطين.
سمحت دراسة نزار صابور المديدة في موسكو بالتعرف على المناخات الطقوسية للكنائس الأرثوذكسية، ليقيم أسلوبيًا توليفًا روحيًا في مدنه (الأفلاطونية - الفارابية) مع أيقونات الأديرة المحلية واكسسواراتها المستقلة اللونية، يتعامل مع تقاليدها الصناعية من خلال تصاميم إنشائية مجهزة، تنتمي إلى تجارب ما بعد الحداثة في أوروبا؛ معرجًا على الأبواب وقطع الأثاث الدمشقية العريقة احتفاء بزواج النحت الخشبي مع التصوير الشعبي.

  ماليڤيتش يصور نفسه على طريقة الأيقونة 




















تبدو جعبته التراثية أشد ثراء وخصوبة في زادها الشعبي من المحمول الروسي - الأوكراني، ابتداءً من استحضار تكويناته للفروسيات الحماسية لموروث أبو صبحي التيناوي (التصوير على الزجاج من الخلف) مترصدًا مثله سيرة عنترة العبسي وعبلة ثم ابن المهلل والزير سالم وسواهم. ناهيك عن حشود الإشارات التعويذية المسجلة في طباعة الأقمشة والبسط وسواها. يطفح معينه من الأرشيف الميثولوجي دون أن ينضب، خاصة من خلال مستقبلية تأويله ما بعد الحداثي الذي مر معنا. لعل أبلغ أمثلته علاقته الرؤيوية الأصلية بماليفيتش، نعثر لدى نزار صابور على صورة وجهه داخل أيقونة ذات منهج أرثوذكسي، ونشهد نفس الأوتوبورتيريه لدى ماليفيتش داخل الأيقونة أيضًا. من الضروري في هذا المقام استدراك أن ما يسميه ماليفيتش بالتصعيدية يعتمد على التبسيط الهندسي، توصل مع آخر لوحة: "مربع أبيض على أرضية بيضاء" إلى طريق مسدود، فاتجه مرغمًا للتزود من أصالة الأيقونة المحلية، لذلك فإن صابور اهتم حصرًا بالمرحلة الأيقونية لماليفيتش.
لن نجد نظيرًا لهذا الاستلهام الأيقوني في المحترفات العربية الأخرى ما عدا مصر، خاصة ما خلفته أصالة المرحلة الرومانية المسيحية المعروفة باسم "بورتريهات الفيوم"، هي التي أثرت على وجوه جورج البهجوري، كما أن تصاوير آدم حنين (بعكس نحته) متأثرة بتلخيصات بولياكوف الأيقونية.
لا شك بأن تغييب تأثير الأيقونة على اللوحة يثير العجب! بسبب أهميته ما بعد الحداثية وشموليته الروحية. 

  نزار صابور واللوحة الأيقونة 












الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.