}

في صور الفوتوغرافي عمر صناديقي.. الأيدي عيونٌ تحدّق بالكاميرا

مناهل السهوي 4 أغسطس 2020
فوتوغراف في صور الفوتوغرافي عمر صناديقي.. الأيدي عيونٌ تحدّق بالكاميرا
بيوت مدمَّرة وأيدٍ عاجزة (عمر صناديقي)
البشر متشابهون في طريقة تفاعل أجسادهم مع الخارج بطريقةٍ لم يعودوا يلحظون فيها ذلك، يضعون أيديهم على وجوههم حين الخوف، يرفعون قدمًا على قدم واثقين، أو يحكّون أنوفهم حين يكذبون، إنّها حركات تجمعهم رغمًا عنهم، فأجسادهم محصورة داخل نفسها، ولا طرق أكثر للتفاعل مع العالم الخارجي، من هنا تعتبر حركة ضمّ الأيدي خلف الظهر واحدة من أكثر الحركات شيوعًا، التي بنى عليها المصور السوريّ، عمر صناديقي، أعماله التي ضمّها معرضه الأخير. لكن كيف يمكن صنع معرض من حركة مألوفة لهذا الحد؟ يكمن السرّ في عين المصور، وفي قدرته على تسخير المكان والحدث ليجعل من تلك الحركة البسيطة أداة للتواصل والتعبير عن الذات في أكثر الظروف صعوبة.

قيد المكان والفكرة
في معرضه الأول بعنوان "بلا قيد، بلا عنوان"، الذي أقيم في غاليري قزح – دمشق، خرج صناديقي من صورته الشهيرة للرضيع النائم في حقيبة السفر أثناء نزوح عائلته من دون أن يحيد عن موضوع الحرب، لكن بشمولية أكبر، ليقول إنّه الإنسان السوري أيًّا كان، وكيفما بدا، إنّه العجوز والعامل والثائر والمقاتل والجندي والطفل والمرأة، اجتمع كلّ السوريين في صور عمر من دون النظر في توجهاتهم السياسية، ومن دون أي تصوّر مسبق لهم، ستحكي لنا ظهورهم وأيديهم المتشابكة للخلف حكاية تسع سنوات قاسية.

النزوح من غوطة دمشق (عمر صناديقي)            

يبدو أن العنوان أيضًا هو خارج المتوقع: "بلا قيد"، رغم أن الأيدي المعقودة للخلف تذكرنا بالمعتقلين والمخطوفين، حتى أولئك الذين أُعدموا من قبل تنظيم الدولة (داعش) بلباسهم البرتقالي وأيديهم المربوطة إلى الخلف. إذًا، في العنوان يودُّ صناديقي أن يقول لا قيد واضحًا، لكننا نستطيع أن نقيد أنفسنا، وأن يقيدنا المكان والخارج واللحظة، قيدٌ لا عنوانَ له، ولا كلابشات، أو حتّى حبل، إنّها الأصابع وحسب، في صورتها الخارجية، أمّا القيد الداخلي فهو

الفكرة، والخوف، والأمل، إن الإنسان أكثر مما يتوقع من نفسه، وكلّ حركة هي طريقة ما يتفاعل بها مع الخارج المريب الذي يقدم نفسه في أغلب الأعمال على شكل حربٍ، حيث جعلت الحرب السوريّة طرق التعبير أكثر تعقيدًا من جهة، وخلقت طرقًا جديدة من جهة أخرى، كحمل السلاح، أو الهتاف، أو حتى مساعدة الآخرين، كما نجد صورًا يعود تاريخها إلى ما قبل الحرب، وهي صور التقطها عمر من دون دراية منه أنها ستكون لوحات لمعرض لاحق، لكن يبدو أن السنوات السابقة جعلت عقد اليدين إلى الخلف عادة أكثر تجذرًا في حياة السوريين التي تعتمد على الانتظار الطويل، وتأمل الأحوال، حتى باتت تشير إلى علاقة الفرد مع وطنه، فصورة العجوز الماشي نحو الخراب ويديه خلفه، تمنحنا شعورًا بالقدرة على التماسك المرتبط بالهشاشة والخسارة.
من المثير في المعرض عدم وجود صور لأطفال يشبكون أيديهم، عدا صورةٍ واحدة نلاحظ فيها طفلًا يقف وسط عائلة لا أبَّ لها، وهذا يحيلنا إلى أنّه المسؤول عن عائلته في غياب والده، فقد غيّرت الحرب دور هذا الطفل ليغدو الشخص الكبير في العائلة. تشابك اليدين يخصُّ الكبار فقط الذين تركوا الطفولة خلفهم ليحملوا عبء الحياة والحرب، إنه الطفل الكبير الوحيد في المعرض، أمّا بقية الأطفال فلا يكترثون للحدث، لا بل ينظرون إلى الكاميرا مباشرة بعيونهم المفتوحة على الدهشة.

 

الأيدي تتكلم
اهتدى صناديقي إلى فكرته التي تبدو خارجيًا بسيطة من دون جعلها مبتذلة، صانعًا من حركة باتت أمرًا لا نلحظه فكرة تمثل حضور الإنسان بكامله. هذه فكرة المعرض ببساطة، نحن أمام

أعمال لأشخاص يديرون ظهورهم لنا مشابكين أيديهم، بعضهم خائف وبعضهم ينتظر، وبعضهم يحمل سلاحه، في كلّ مكان في سورية، في الأماكن المحاصرة، وفي المدن المنكوبة، وفي الحقول، سنلاحظ أن لكلّ شخص تشابك يدين خاصًا به، وكأنّ الأيدي هي التي تصنع هوية الأشخاص. هكذا يوصل مشاعر معقدة ترتبط بالفقدان العميق والخسارة والانكسار، مع كلّ صورة نراها في المعرض نكتشف الهويّات المختلفة للأيدي، الرسائل التي تودُّ إيصالها، وحتى العلامات المميزة لها، وسط كادر مكاني مختلف ومستقل يقدم كذلك تصورًا للشعور والحدث، فالأشخاص ليسوا في معزل عن أمكنتهم التي تقول إنهم منتصرون، مهزومون وثائرون، هكذا يغدو المكان جزءًا من تكوين الشخصيات وتطورها النفسيّ والإنسانيّ.

أيدي المقاتلين قبل النزوح من غوطة دمشق (عمر صناديقي)             

ما يقدمه صناديقي في معرضه الأول هو انتقال من جعل الوجوه تتكلم إلى جعل الأيدي وجوهًا مقلوبة، والأيدي هنا هي الإنسان، وهي ما يودُّ التحدث عنه، تحكي هذه الأعمال خيارات

الإنسان السوريّ الصعبة، وتدخل في عمق ثورته، ليس من خلال الأيدي فحسب، ففي صورة لأحد مقاتلي المعارضة، بعد إحدى التسويات، نراه ما يزال يحمل سلاحه واضعًا يديه بطريقة مرتبكة خلف سلاحه، أمامه جندي، يبدو هذا المقاتل تائهًا، ينظر إلى المستقبل المريب، ومن خلفه ذاكرة الثورة، مترددًا في خياراته، فهو الآن يعود إلى البداية.
تقول سوزان سونتاغ عن أعمال البورتريه: إن مواجهة الكاميرا هي تعبير عن الرصانة، والصراحة والكشف عن جوهر الموضوع، وهي البلاغة العادية للغة البورتريه المنمقة.
في عمل صناديقي، نرى معكوس رؤية سونتاغ في ما يخص البورتريه، فالبورتريه الذي هو عبارة عن وجه الشخص بات عند صناديقي مأخوذًا من الخلف، من حيث لا يرتبك الشخص، ولا تتغير ملامحه، لكن هل يمكن اعتبار هذه الأعمال بورتريهات مقلوبة، وهل يمكن كسر قاعدة البورتريه بطريقة صناديقي؟ نعم يمكن ذلك، حيث لا يمكن تجاهل المشاعر التي توصلها الأيدي لنا، وكأنها عيونٌ تحدق بالكاميرا.

حتى أيدي الأطفال تتكلم عن عجزها في صورة لعمر صناديقي       

منذ بدء الحرب في سورية، اتخذ المصور السوري، عمر صناديقي، زاوية رؤية مختلفة، ساعده على تدعيمها عمله في وكالة رويترز من جهة، وتركيبته المغامرة والعارفة كمصور، فالحدود التي تبدو للرائي، أو حتى للمصور ذاته، يذهب عمر خلفها، ويرى الأشياء بالطريقة المعكوسة، فنبدو جميعًا في صورة فوتوغرافية لا تنتهي بالنسبة له، أن يغدو العالم صورة ضخمة لعمر دفعه للبحث دومًا في النفس البشرية، وظهورها في الواقع والأشكال التي تتخذها خارجًا، فأدرك أن لهذه النفس مستويات وطبقات، وفي كلّ مرة يذهب نحو إحدى هذه الطبقات يعود ليدهشنا ويقول مرة أخرى إن الفوتوغراف هو شكل الإنسان الحديث، وهو الأداة الأقوى لتخليصه من قيد الزمن المتسارع، ومنحه لحظة تُظهِر فيها صراعاته وإنسانيته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.