}

النافذة في الفنون: عزلة أم عالم أجمل في الخارج؟

تغريد عبد العال 13 يناير 2021
تشكيل النافذة في الفنون: عزلة أم عالم أجمل في الخارج؟
هل صورت الفنون النافذة بطريقة أخرى؟

لماذا تكون النافذة دائما هي ذلك المكان الذي يعطينا نظرة على الخارج وهل صوّرتها الفنون بطريقة أخرى؟ يدعوني هذا السؤال للنظر داخل اللوحات التي رسمها فنانون كثر، ومن هنا ربما أجد معنى آخر لها يختلف عما أقرأه أيضا في الأدب والشعر. فكيف رسم الفنانون النافذة وهل اقتصر معناها على العزلة والرؤية والتأمل، أم هي مجرد مكان يفصل بين الداخل والخارج؟


نافذة رينيه مارغريت الوهمية

"الحالة الإنسانية" لـ رينيه مارغريت  
















تختلف النافذة التي رسمها الفنان البلجيكي السريالي رينيه مارغريت في لوحته الشهيرة "الحالة الإنسانية" 1933 عن النافذة المفتوحة التي رسمها الفنان الفرنسي ماتيس في عام 1905. ففي نافذة ماتيس يبدو العالم الخارجي مفتوحًا على التأمل، وكأنها دعوة لتأمل هذا الخارج الملقى على أطراف النافذة. ولكن يبدو أن الفنان السريالي مارغريت يتخذ من النافذة رمزا ليقول أشياء أخرى عن الرؤية الحقيقية للعالم وللفن. ففي لوحته "الحالة الإنسانية" نرى اللوحة على مرسم والنافذة في الخارج تطل على المشهد نفسه الذي في اللوحة. للوهلة الأولى نعتقد أنه مشهد يظهر من خلف النافذة، لكننا ننتبه للمرسم، وندرك أنه يحاكي المشهد الحقيقي. وكأنه يقول لنا بلغة أخرى أن الفن لا يمكن أن يكون هو الحقيقة ولو كان يحاكيها، انه ليس نافذة على الحياة، بل هو شيء ما يشبهها. إنها عن الوهم الذي يضعنا الفن أمامه فلا نصدق أنه نسخة عن الحياة بل كذبة جميلة عنها.
وهكذا يمكننا أن نرى أعمال أخرى لمارغريت ونتذكر أننا سنقع على مرآة أو عين أو نافذة، ففي لوحة أخرى بعنوان "لا يمكن إعادة إنتاجه" يرسم مارغريت رجلا يقف أمام مرآة، فلا نرى إلا صورته طبق الأصل حيث ينظر إلى الأمام وليس إلينا. وهنا تبدو المرآة أيضا مختلفة عما هي في الواقع فهل هي مرآة أم صورة أم أن العين هي أيضا نافذة وهمية حيث توهمنا أنها تعكس الصورة لكنها ليست أكثر من صورة وهمية. وكأنه يقول إن ادراكنا عن أنفسنا ليس هو الصورة التي يراها الناس، انما هي التي نعرفها داخلنا.



نافذة هوبر المطلة على العزلة

 "نوافذ الليل" لــ إدوارد هوبر 









رسم الفنان الأميركي الواقعي إدوارد هوبر حياة المدينة واستطاع أن يلتقط تفاصيل الغربة والعزلة التي يعيشها الإنسان الحديث في العصر الحديث، فقد عايش هوبر التحول الكبير الذي حدث لأميركا في القرن العشرين فتأتي لوحاته كانتقاد للمجتمع الأميركي. في لوحات هوبر ندرك أن تكون وحيدا في جماعة، فيبدو الإنسان منعزلا بذاته، وأما النوافذ فلها معنى آخر في لوحاته.
ففي "نوافذ الليل" (1928)، يرسم هوبر ثلاث نوافذ تطل على شقة داخلية، حيث يسمح لنا بالنظر من الخارج إلى الداخل حيث تظهر امرأة تبدو غير مكترثة بنظراتنا. إنها نافذة على عزلة تلك المرأة المخترقة بنظرة المشاهد. وتغطي العتمة الخارج بينما في الداخل يعطي الضوء أهمية للحياة الحميمية المنكشفة. تبدو اللوحة كلقطة من فيلم ويبدو شغف الفنان بالسينما واضحا. نافذتان مفتوحتان، بينما نافذة واحدة مغلقة، وهناك ستارة تتراقص مع نسيم الليل. في لوحة أخرى، بعنوان "شمس الصباح" (1952)، تظهر فتاة في داخل البيت أيضا تجلس على السرير وتنظر إلى النافذة التي يدخل من خلالها ضوء الشمس. مرة أخرى تبدو نافذة هوبر مفتوحة على الداخل، على الحميمي والخاص. فالفتاة لا تنظر إلى الخارج فقط، انما هي تتأمل شيئا ما داخلها، وتستمتع بنور الصباح. يرسم الضوء نافذة أخرى على الجدار. العزلة هي أن تكون وحيدا مع الضوء، والنافذة ما هي إلا فتحة لعبور الضوء، هكذا يقول هوبر في لوحاته، التي نستطيع أن نلمس فيها أيضا الحرارة في الخارج والبرد في الداخل، حيث تعطي الشمس دفئا ما لجسد المرأة فنشعر أنها تفتح النافذة لهذا السبب.


نافذة شاغال كعالم منفصل

" باريس من النافذة " لـ شاغال 











أما الفنان الروسي شاغال، الذي حصل على الجنسية الفرنسية عام 1937، فتبدو النافذة في لوحته " باريس من النافذة " 1913، كإطلالة على ذاكرته ومكانه الأول في روسيا مع باريس، مكانه الجديد. فالشخص الذي ينظر من خلال النافذة، ربما يكون الفنان نفسه وهو في حالة تأمل بين الذاكرة والواقع، فيتداخل المكانان وتكون النافذة هي المعبر إلى الذاكرة. فيبدو هو الآخر بوجهين، وجه ينظر إلى الشرق والآخر إلى الغرب. وهناك امرأة ورجل في حالة تباعد وانفصال وكأنها إشارة إلى أن هناك مكانين يتباعدان. نافذة شاغال مشغولة بالحلم ومفتوحة على الذاكرة. شاغال الذي يصعب تصنيفه بين السريالية والواقعية، كانت دائما الوجوه المنفصلة والتعاكس بين الألوان موضوعا للوحاته. ولكن هناك لوحة أخرى لشاغال بعنوان "نافذة" حيث تظهر النافذة كمكان وحيد بدون شخص ينظر من خلالها، ولكن نرى هناك وجوهًا كثيرة بقربها تتصاعد وكأنها جزء من عالمها فتتحول النافذة إلى عالم بحد ذاته بمعزل عن كونه يفصل الأمكنة وهذا يأخذنا الى لوحات فنانين آخرين صوروا النافذة كعالم مكتمل بحد ذاته.


النافذة كطبيعة صامتة

"نافذة الشتاء" لـ تاتيانا يابلونسكا 
















بعيدا عن كونها تطل على الخارج، فهي عالم خاص، هكذا تقول لوحة الأوكرانية تاتيانا يابلونسكا "نافذة الشتاء" 2004. ففي اللوحة تظهر انعكاسات الزجاج وكأن جماليتها أيضا في كونها مكانا شفافا بغض النظر عما تجعلنا نرى من خلاله. وترسم الفنانة أيضا طيرا على الزجاج وخمس حبات تفاح صفراء، لا نميز فيما إذا الصورة تظهر في الداخل أم الخارج ولكن نرى هناك درجا في الخارج لكنه يظهر وكأنه في الداخل. وهنا نقدّر كون النافذة هي وجود جمالي ليس أكثر. ويظهر ذلك أيضا في جمال النافذة التي رسمها الفنان الروماني آرثر سيغال (طبيعة صامتة مع النافذة) التي تظهر فيها بعض الأكواب مع النافذة فنشعر أن النافذة هي جزء من هذه الطبيعة التي لا تتكلم إلا عن وجودها الخاص.


نافذة ماتيس الزرقاء

"النافذة الزرقاء" لـ  ماتيس 
















تبدو "النافذة الزرقاء" 1913 التي رسمها الفنان الفرنسي ماتيس كعالم واحد متآلف بين الداخل والخارج، فاللون الأزرق يغطي كامل اللوحة وتبدو الأشياء الموضوعة أمام النافذة والمشهد وراءها وكأنهما مشهد واحد. وهنا نرى النافذة بمعنى آخر: إنها ذاك التناغم بين الداخل والخارج وليس الانفصال بينهما. تشبه النافذة هنا لوحة ما موضوعة قرب الأشياء الكثيرة على الطاولة.
وللنافذة أيضا معانيها وتأملاتها في الشعر، وأتذكر هنا قصيدة ريلكه "النوافذ" التي قارب الشاعر العراقي شاكر لعيبي في كتابه "شعرية التنافذ" الصادر عن دار أزمنة للنشر عام 2004، بينها وبين قصيدة بدر شاكر السياب "شباك وفيقة" وتتبع نقاط الالتقاء بين القصيدتين. يقول ريلكه في قصيدة النوافذ: أيتها النافذة، أنت، يا مقياس انتظارنا/ تملئين مرات ومرات/ حين تنسكب حياة لهفانة/ باتجاه حياة أخرى. أنت من يفصل ومن يثير/ متغيرة كالبحر/ مرآة حيث فجأة ينعكس وجهنا/ ممزوجا بما نرى عبرك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.