}

فيلم "منزله".. عن كوارث الحرب الأهلية في جنوب السودان

أريج جمال 21 يناير 2021
سينما فيلم "منزله".. عن كوارث الحرب الأهلية في جنوب السودان
يرسم الفيلم على مدار الأحداث الألفة بين الزوجين

في كانون الأول/ ديسمبر 2013، نشب صراع على السلطة بين رئيس دولة جنوب السودان سيلفا كير، وبين نائبه رياك مشار، أخذ معه البلاد وسقط في حرب أهلية لم تتوقف حتى اليوم، رغم محاولات الوساطة الدولية. أدى التناحر بين القبيلتين؛ "الدينكا" التي ينتمي إليها الرئيس، و"نوير" الموالية لنائبه، إلى أعداد لم يتوقف بعد حسابها من القتلى، إضافة إلى المشردين والنازحين، وقد فضّل البعض عبور يَمّ الأبيض المتوسط عبر قوارب صغيرة، في سعي أخير إما للنجاة وإما إلى الموت.
لا شك في أن الفن يستطيع أن ينفخ الروح في السطور السابقة، فينزع منها الأرقام، ويستبدلها بأنفاسْ الحياة الحقيقية. ويرفَل His House أو "منزله" في نعمة السينما، فيُترجم بأسلوب جمالي خالص مأساة الحروب الأهلية، والاضطرار إلى الفرار، انتهاءً بالنجاة النسبيّة؛ فليس ثمة نجاة كاملة.
"منزله" هو أحد إنتاجات "BBC" الإنكليزية، يُعرض الآن على شبكة "نتفليكس"، من تأليف وإخراج ريمي ويكس، في أول فيلم طويل له، كتب قصته فيلسيتي إيفانس وتوبي فينابلس، بعد بحث طويل في قصص اللاجئين. صُوّر الفيلم في إنكلترا، ويُعتبر أحد أفلام المكان الواحد، لأنه يدور بالكامل داخل منزل هو مركز الرعب، الذي يُحيل إليه عنوان الفيلم، مع مشاهد قليلة خارجية، وفي ستوديو آخر، نُفذت مشاهد القوارب وغرق المهاجرين ليلًا فيما يُفترض أنه البحر غير الرحيم.


مزج الأنواع

يمزج الفيلم بين عدة أنواع سينمائية، وفقًا للتصنيف الأميركي. فهو أولًا ينتمي لسينما الرعب، لأنه في مستوى من الحكاية يُقدم رحلة مُطاردة القوى الشريرة لبطلي الفيلم الزوجين: بول ويُؤدي دوره الممثل سوب ديريزو، والزوجة رِيال تؤدي دورها وُنمي موزاكا. هذه القوى باطشة وأيضًا عالِمة بمواطن ضعف الأبطال، كعادة أفلام الرعب، ونحن في البداية مثل البطلين لا نعرف مَنْ الذي استدعاها، ولا يكون من سبيل سوى إنكار وجودها، كعادة أفلام الرعب أيضًا، على الأقل من ناحية الزوج بول الذي يُجاهد باستمرار كي يُصدق أنه على أرض جديدة مُحصنة ضد الموت المجاني. بالإضافة إلى هذا التصنيف الأساسي، الذي تُركز إعلانات الفيلم عليه، وتروّج له منصة "نتفليكس"، يُعتبر "منزله" فيلما دراميا، لا يغرق في رواية أسباب الصراع، لكنه يصدمنا بنتائجها الدامية، ولا يذكر مرة واحدة صراحة جنوب السودان ما يجعله صالحًا للتطبيق على حال دول أفريقية عديدة، ما زال يحكمها النظام القبلي.
نحن نتعرف على شيء من هذه التراجيديا في المشاهد الأولى، التي تقدم لنا أبًا وطفلة وأمًا، يجدون بصعوبة مكانًا على متن سيارة نصف نقل، تأخذهم مع آخرين إلى البحر المتوسط، تعبره الأسرة، ثلاثة أفراد، لنلقاها في العام التالي في مركز إيواء وقد صارت فردين فقط، هما الأب والأم، طالبي اللجوء.

هنا نعيش الأماكن من وجهة نظر بطليها، أو من خلال التجربة الشعورية التي
يمران بها. أوسع اللقطات وأكثرها امتلاءً بالألوان، هي التي تدور
أحداثها في جنوب السودان، أي في الذاكرة.



ينتمي الفيلم بالمثل إلى الرعب النفسي psychological thriller، لأنه يطرح سؤالًا مُعقدًا هو: هل ينجو الأفراد الذين يمرون بأزمات تتجاوز وجودهم، وتمسّ عائلات كاملة وبلادا بحالها؟ وإلى أي درجة يمكن أن تتحقق هذه النجاة، إذا سلمنا بنسبيّتها، أبدرجة تكفي لمواصلة الحياة؟
بالمثل يُحاكي "منزله" الشق الفلسفي في القصة الشهيرة "فاوست" للكاتب الألماني جوته عن الرجل الذي يعقد صفقة مع الشيطان. فوق ذلك، يحمل الفيلم مضمونًا سياسيًا، عندما يقدم نظرة الغرب إلى المُهاجرين كأطفال عليهم دائمًا أن يتحلوا بالتهذيب وأن يتخلوا عن مشاعرهم وحكاياتهم القديمة، يمتثلون للأوامر ويعبدون الأوروبي "الذي يُلقي لهم بالفتات" حسب تعبير رِيال البطلة، كما يسلط الضوء على نظرة المُهاجر إلى فوقية الذين لم يمرّوا بالتجربة. يقول أحد طالبي اللجوء للبطلين: "لا ترفعوا سقف آمالكم، سوف يرسلونكم مجددًا للموت، كما يفعل الأوغاد عادة".
هذه الأنواع هي مجرد مفاتيح أوليّة، لقراءة فيلم يُقدم حكاية متعددة المستويات، وهو عمل إنساني أولًا وأخيرًا تظهر فيه الموهبة الاستثنائية للمخرج ريمي ويكس، وفلسفته السينمائية الخاصة، التي يمكن القول إنها تُربك المفاهيم القديمة عن سينما الرعب، وتصدمنا في الكثير من جوانبها، برعب آخر أقوى يكمن في الحياة العادية.


المكان
هنا نعيش الأماكن من وجهة نظر بطليها، أو من خلال التجربة الشعورية التي يمران بها. أوسع اللقطات وأكثرها امتلاءً بالألوان، هي التي تدور أحداثها في جنوب السودان، أي في الذاكرة. وهي مشاهد دراماتيكية، تقدم في معظمها الفصول الأخيرة من الحرب، وذبح الناس، التي يمر بها بول وريال، قبل أن يصعدا على متن القارب. مشاهد نُفذت بأسلوب يقارب التسجيلي، كالمشهد الذي يُبيّن مُسلحًا يطلق الرصاص على الفارّين وخلفه رجل يسير مُشتعلًا، لا ندري هل أشعل النار في نفسه، أم أشعلها به المُسلح.

يرفَل His House أو "منزله" في نعمة السينما، فيُترجم بأسلوب جمالي
خالص مأساة الحروب الأهلية، والاضطرار إلى الفرار، انتهاءً بالنجاة
النسبيّة؛ فليس ثمة نجاة كاملة.



ثم لاحقًا في البحر، يسود الظلام مع مسحة من اللون الأزرق، أجواء تُضيّق الشعور بالمكان. عندما يجلس بول ورِيال أمام الموظفين الإنكليز لفحص طلب لجوئهما، تتخذ الكاميرا مسافة مُحايدة من بطليها، بطريقة تماثل رؤية الموظفين لحالتيهما بعيدًا بعد انتزاعها من إنسانيتها. هناك يُسمح لهما أخيرًا بفرصة، وتمنحهما الحكومة منزلًا، لكن ضمن مجموعة من الشروط الغريبة "لا شموع، لا سجائر، لا أصدقاء...."، وتستمر القائمة. في رحلة تمتد من الليل حتى طلوع النهار، ينتقل بول ورِيال إلى حيّ "هاي ستريت" الشهير في لندن، وفي اللقطة الأولى من وصولهما ينظران إلى المكان من بعيد، فيبدو مثل متاهة من كُتل البنايات، متاهة توشك على ابتلاعهما.
يدخلان مع الموظف الذي يغبطهما على المكان الواسع إلى المنزل، ويقول لهما: "هذا المنزل أكبر من منزلي". تسيطر البرودة المُعتادة على المشهد في الخارج، ويتسرب بعض ضوء النهار الأزرق إلى داخل البيت الفارغ، ثم تتلوّن الموسيقى، لتُعبر عن الفرحة الخجولة لبول، وأمله في الاندماج أخيرًا في مجتمع سلميّ، هو الذي يقول للموظف: "أعمل في بنك"، ثم يستدرك: "أو كنتُ أعمل في بنك".
في المقابل يظهر عدم ارتياح رِيال لكل هذه الصفقة، وهي المتمردة بطريقتها من البداية وحتى النهاية، في مشهد الدخول الأول إلى المنزل، تتبادل كلمات من لغتها الأصلية مع زوجها، تصرّف يُضايق الموظف الإنكليزي، ويدفعه لتذكيرهما مُهددًا: "كونا شخصين صالحين!".


العزلة
تُعبر لقطة متاهة الأبنية في الحيّ، عن متاهة أخرى داخلية يعيشها بول وريال، كلا على حدة، منذ لحظة حلولهما على المكان. على الرغم من قدرتهما على تحدث الإنكليزية بطلاقة، فإنهما لا يستطيعان طوال أحداث الفيلم عقد علاقة صداقة واحدة مع أي فرد في المجتمع المُحيط، وحتى الجارّة في المنزل القريب، تبدو متلصصة وتوحي ملامحها بالاضطراب العقلي أو النفسيّ، ناهيك عن اضطراب "الزينوفوبيا" أو كراهية الغرباء، حين تقول لهما: "لماذا لا تغادران؟ سيطردكما في كل الأحوال". يذهب بول لقصّ شعره، للتسوق، يبدأ في الغناء بُصحبة مجموعة من مُشجعي الدوري الإنكليزي، ليشعر بانتماء ما ولو بشكل مؤقت. على النقيض منه تتحرك رِيال بإيقاع بطيء، تدور في متاهة ثالثة، عندما تأخذ ورقة صغيرة وتحاول الوصول إلى شارع الكنيسة "تشيرش ستريت"، فتتعرض لها مجموعة من الشباب سُمر البشرة، يضللونها ولا تصل أبدًا إلى مقصدها.
تتكثف حالة العزلة هذه والانفصال، على سطح جدار في إحدى غرف المنزل، إذ يسقط الدهان فجأة، وتُسمع بوضوح وقع أقدام تجري في الجانب الآخر. يحاول بول في البداية أن يتحدى هواجسه، فينزع بقية الطلاء عن الجدار، باحثًا عن مصدر الصوت. لكن هذه القوى الشريرة تبدأ في إثبات حضورها، فتلقي بين يديه أشياء قديمة كان قد تخلص منها، كدمية طفلتهما الراحلة. كما تبدأ هذه القوى في التجسُّد أمام رِيال، التي لا تجادل في قلبها مثل زوجها، وسرعان ما تفهم أن للأمر علاقة بالطفلة الصغيرة نياغاك.
تواجه ريال زوجها بما يحدث، لكنه يقاوم بعنف، ويطالبها بالخروج للحياة، والتعرف على الناس. يندفع في الهجوم عليها عندما تتحدث معه بلسانها الأصلي- وهي مقاطع لا يُترجمها لنا صُناع الفيلم إمعانًا في تغريب الثقافة الأم وفي عزل البطلين- يُطالبها باستخدام الإنكليزية، والاعتراف لنفسها أنهما لن يعودا ثانية. إنه أيضًا يُريد طمأنة نفسه، لكن رِيال تُباغته بحكاية الساحر.


الساحر
تروي رِيال: "يُحكى عن رجل كان يود أن يبني لنفسه بيتًا، لكن لأنه فقير جدًا، لم يجد طريقة لذلك سوى السرقة، وذات يوم، سرق الرجل من ساحر المدينة، وعندما انتهى من بناء بيته، وجد أن الساحر قد صار شريكه في منزله".
تُضيف رِيال لبول: "أعتقد أن الساحر قد تبعنا من المحيط إلى هنا، لأننا مَدينون له، ينبغي أن نعود لنُسدد ديوننا". بالطبع، تبدو فكرة العودة مجنونة تمامًا، فإلى ماذا سيعودان، ومشاهد الحرب في كل مكان من الذاكرة. يرفض بول، يصرخ ويُنكر، إن زوجته الآن تُدمر حلمه بالحياة الجديدة، غير أنه لا يستطيع حتى أن يواصل هذا الرفض، فالكوابيس تغزوه في نومه، نومه الاضطراري الذي يؤخذ إليه عنوة، وهناك تحاصره صور القتلى في المحيط ليلًا، إن جثثهم في كل مكان، وأشباحهم، وبالأخص شبح الصغيرة نياغاك.

بطريقة غير مباشرة، كان يرسم الفيلم على مدار الأحداث الألفة بين الزوجين، ولا يتضح عمق هذه العلاقة سوى قرب النهاية. إنهما مواطنان لنفس البلد. وشريكان في النجاة. لكنهما قبل ذلك حبيب وحبيبة. ولا بد للحبيبة من أن ترد الجميل لحبيبها.



يعجز بول عن إعادة تعريف روابطه بالعالم القديم، مأساة المُهاجر، التي تُجلّيها الصور البشعة التي يراها في المنام. نُحس أن النجاة، كانت عبئًا عليه بطريقة ما، لقد نجا هو، لكن الطفلة الصغيرة لم تنج، وكذلك الآخرون. وربما تضغط رِيال على هذا الشعور بالذنب، بإصرارها على فكرة العودة، التي لا تعني بالتأكيد سوى الموت.


الأنوثة والذكورة
يُصبح الصراع مُعلنًا بين بول والقوى الشريرة، أو ذلك الساحر، ومن خلال هذا الصراع والمواجهات التي تحدث في المنام، نتعرف على ما حدث في الماضي، في جنوب السودان، هناك نلمس الحُب الكبير الذي جَمع بين رِيال وبول، فهو الذي بحث عنها في الساحات، وقد كانت مُختبئة في خزانة، وجدها بين أفراد عائلتها الناجية الوحيدة من المذبحة، ولولاه لكانت جُنّت أو تُركت لنفس المصير. أنقذ بول رِيال للمرة الثانية، حين انقلب القارب في عرض البحر، قبل أن تصل المساعدات، لكن إنقاذه لها تلك المرة، كان يعني أن يترك شخصًا آخر للموت، والضحية هنا كانت الطفلة نياغاك.
يُقدم الفيلم رؤية ناضجة ونبيلة للعلاقة بين الأنوثة والذكورة، فبول هو الرجل الذي قدم الحماية لزوجته، دون تفكير، وفي مساومته الأخيرة مع الساحر، الذي يطلب منه أن يبقر بطنه، مقابل أن يُعيد نياغاك، يوافق بول، رغم كل الرعب التي تتضمنه هذه الموافقة، ليسمح لرِيال ببدء حياة جديدة.

ينتمي الفيلم بالمثل إلى الرعب النفسي psychological thriller، لأنه
يطرح سؤالًا مُعقدًا هو: هل ينجو الأفراد الذين يمرون بأزمات تتجاوز
وجودهم، وتمسّ عائلات كاملة وبلادا بحالها؟



بطريقة غير مباشرة، كان يرسم الفيلم على مدار الأحداث الألفة بين الزوجين، ولا يتضح عمق هذه العلاقة سوى قرب النهاية. إنهما مواطنان لنفس البلد. وشريكان في النجاة. لكنهما قبل ذلك حبيب وحبيبة. ولا بد للحبيبة من أن ترد الجميل لحبيبها.
في مشهد جميل وحزين، تهرب رِيال من المنزل، لتسقط في الساحات الواسعة لبلدها البعيد، تواسيها نساء قبيلتها، بحنانهن، وحضورهن الجسدي الذي يبدو كالجنة لرِيال، يُطبطبن عليها، ويُذكرانها بالحقيقة التي أنكرتها، من شدة الصدمة، حقيقة علاقتها بالصغيرة نياغاك وهي النقطة السوداء التي يتسلل منها هذا الساحر إلى حياة الزوجين. إن نياغاك لم تكن ابنة الزوجين، لكنها "شيء" سرقاه، لينجوا به، حين لم يكن مسموحًا بالصعود في الحافلة الذاهبة باتجاه البحر بعيدًا، سوى للأسر التي تضم أطفالًا. مأساة جديدة تُضاف إلى قائمة المآسي التي تقتضي أن يطلب الأبطال السماح عليها، ليس من الآخرين، لكن من أنفسهم.
على ضوء الحقائق كلها، بما في ذلك الأكثر إيلامًا منها، يستطيع البطلان أن يتخذا قرارهما الصحيح: لامبالاة الآخر الغربي، وقسوة أشباح الماضي، والذنوب التي ارتُكبت في سبيل النجاة. يقول بول، بعد أن يُصحح أخيرًا صورته أمام الموظف الإنكليزي: "أشباحك تُلاحقك، لا تتركك، تعيش معك، بدأت أتقبل نفسي، عندما سمحتُ لها بالدخول".
الآن فقط يمكن للجميع أن يرتاح، بما في ذلك أشباح أولئك الذين قُتلوا بلا جريرة، وقد أحاطوا بالبطلين في المشهد الأخير، وفي أفيشات الفيلم، إنهم الأعداد التي يحصونها في نشرات الأخبار، لكن بعد أن بُعثت من الموت وصارت لها ملامح وحكايات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.