المخرج الموهوب هو الذي يجد الحلول لكل معضلة تواجهه أثناء العمل على فيلمه، يُكيّفها حسب المقتضى الشكلي، أو القصصي، لتخدم رؤيته العامة في العمل، ولديه البديهة والسرعة الكافيتان للتعامل بشكل ذكي مع المفاجآت التي تحدث أثناء التصوير، وما أكثرها؛ ولا ينتظر المساعدة، وزيادة تكاليف الإنتاج، أو التأجيل والتسويف، وهي الأشياء التي تزرع روح الانهزام في الفريق، وبالتالي سيؤثر بشكل ما على تفصيل، أو تفاصيل، الفيلم الذي سيأتي بنتائج لا تحقق الغاية الفنية المرسومة. لكن هذه المعطيات السلبية لا تحدث إذا كان المخرج موهوبًا، وصاحب منطلق إبداعي وفني، ومتمكن من أدواته ومرجعياته. أما المخرج الأكثر موهبة، فهو الذي يبتكر أشكالًا سردية جديدة تخدم متن فيلمه وتعزّز مكانته الفكرية، ليصنع من خلالها
بصمة يُغرّد بها خارج السرد والشكل المألوفين، ويحفر بأدواته في صخر الاختلاف العصي على النحت، ويبني لنفسه عالمًا استثنائيًا، بما يحققه من أعمال يضمن بها البقاء والخلود، ويُسطّر لنفسه مجدًا سينمائيًا لا يفل ولا ينسى. كديدن أكيرا كوروساوا (1910 ـ 1998)، وإنغمار برغمان (1918 ـ 2007)، وأندريه تاركوفسكي (1932 ـ 1986)، وفيديركو فيلليني (1920 ـ 1993)، وألفريد هيتشكوك (1899 ـ 1980)، وستانلي كوبريك (1928 ـ 1999)، وأورسن ويلز (1915 ـ 1985)، وغيرهم من نجوم السينما الذين لمعت أسماؤهم ولا تزال في سماء الإخراج الفسيحة، لأن لكل واحد منهم قصة، أو قصصا، حدثت أثناء عملهم، أو خلال ما زرعوه في أفلامهم، لتصبح في ما بعد علامة خاصة بهم، سواء في اشتغالهم على مستوى الخيارات السردية، أو في خلق الأبعاد الشكلية التي تغزل خيوط الحكي، وتصحح مساراته وفوضاه، ليصبح سهل الفهم والتلقي.
البحث عن النوع لتوليد الدلالة
استطاعت السينما الجزائرية في عقودها الثلاثة الأولى، بعد التأسيس، أن تصنع لنفسها مجدًا فنيًا، رغم قصر التجربة ومحدوديتها. وكتتويج لهذه المسار، افتّكت جوائز ومشاركات مهمة في أعرق وأكبر المهرجانات العالمية، من بينها الكاميرا الذهبية من مهرجان "كان" السينمائي لمحمد لخضر حمينة، عن فيلم "ريح الأوراس" سنة 1966، والسعفة الذهبية للمخرج نفسه في المهرجان ذاته سنة 1975 عن الفيلم الخالد "وقائع سنوات الجمر"، والأوسكار عن أحسن فيلم أجنبي عن فيلم "زد" للمخرج كوستا غافراس سنة 1970، وفيلم "معركة الجزائر" لجوليو بنتيكورفو، الذي حصد هو الآخر جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا سنة 1967، إضافة إلى مشاركات وجوائز أخرى كثيرة ومتنوعة.
رغم أهمية هذه الجوائز في المشهد السينمائي العالمي، غير أن التجربة الحقيقية والتنوع العميق في السينما الجزائرية جاء بعيدًا عن الأضواء والزخم الإعلامي، من طرف مخرجين شباب آمنوا بالتغيير والاختلاف والتجديد والقطيعة مع الماضي والقواعد الكلاسيكية التي تبني الفيلم وتؤسس لأبعاده ورؤاه، لهذا اختار كل مخرج الطريقة التي تناسب مرجعيته الثقافية وتخصصه الفني الذي بنى عليه رؤيته، واختار على أساسها الأدوات المناسبة التي استعملها لتحقيق تلك
الروح الفنية الجديدة في أفلامه.
الملاحظ الجيد للأفلام الجزائرية لا بد أن يستخرج منها العديد من السمات المشتركة، وكل سمة تحمل شحنة فنية وفلسفية مهمة، تزرع في الفيلم قيمًا فكرية وجمالية تتشابك مع المتلقي، وتحرّضه على طرح الأسئلة الجوهرية التي تعنى بالإنسان وقضاياه الواقعية والوجودية، والصفة الأخيرة هي الغالبة عليها، لأنها تخلق نوعًا من القلق لدى الإنسان الذي يبحث عن إجابة، أو يريد أن يتشابك معها فكريًا من خلال الصورة وتأويلاتها المتعددة على ضوء أبواب السيميولوجيا، وكل هذه المعطيات تأتي في قالب سردي وشكلي جديد ومغاير عن السائد، وكأنّ القواعد والنظريات الكلاسيكية في نظر السينما الجزائرية لم تعد تكفي لخلق سينما مختلفة ذات أبعاد عميقة تقدم للجمهور باقة جمالية وفلسفية يمكن أن تزرع فيه نوعا من الأسئلة التي تساعد في بناء مرجعيته، وبالتالي تتحول تلك الأفلام إلى أدوات لصناعة فكر مغاير بآليات سردية مختلفة. ومن بين هذه الأشياء التي اعتمدت عليها السينما الجزائرية، وجسدتها في كثير من الأفلام، خلق وتجسيد شخصية "الدرويش"، التي تم استغلالها بطريقة جيدة في كثير من الأعمال.
الدرويش كمساند للفعل السردي
تختلف تعريفات "الدرويش" من منطقة لأخرى، لكنها تجتمع في معطيات مشتركة تفيد بأنه شخص ذو رؤيا وحكمة؛ صوفي نذر نفسه ليكون رباّنيًا زاهدًا عن الدنيا وملذاتها، فلا يأخذ منها سوى ما يبقيه على قيد المشي والتفكير، وعادة ما يكون في كل مدينة، أو شارع، شخص
تنطبق عليه هذه المواصفات، يتم التعامل معه بشيء من الاحترام والقدسية، خاصة أنه حمّال حكمة ونبوءة، كلامه مسجع، ويحمل معاني رؤيوية، لهذا يُنظر لما يقوله، أو يتلفظ به، سواء من العامة وحتى الخاصة، لهذا مدَّ جسر تواصل بينه وبين المتلقي.
تلقّف العديد من المخرجين الجزائريين هذا النموذج، ووظفوه بطرق مختلفة في أفلامهم، وولّدوا به مشاهد درامية قوية ساعدت بشكل كبير في إعانة فكرة الفيلم ودعمها، ومن الناحية الشكلية من الممكن الاستغناء عن تلك الشخصية وشطحاتها الصوفية في معظم تلك الأعمال، ولا يمكن أن تحس بها، لكن وجودها يضمن جرعة زائدة من الفنية وتثبيت الرؤى، بمعنى أن توظيف الدرويش جاء ليكون رافدًا للشكل السردي ومعينًا له، وفي كثير من الأحيان هو الخيط الذي يربطها ويدفعها إلى الأمام من خلال خلق شحنة عاطفية وإثارة تستدرج المتلقي لتتبع تفاصيل الحكاية، أو ما يود الفيلم قوله وإيصاله.
الرجل الذي فقد عقله لينير عقول الآخرين
وُظّف "الدرويش"، أو "الرجل الحكيم"، أو الشخص الذي فقد عقله ليضيء عقول الآخرين في العديد من الأفلام التي شكّلت منعرجات في مسار المخرجين الجزائريين، على رأسهم محمد زينات في فيلمه "تحيا يا ديدو" 1971، الذي أحدث من خلاله قطيعة حادة مع القواعد الكلاسيكية، وأذكى به جمرات تجديد أنارت دروب "السينما الأخرى" على مستوى الشكل وأساليب السرد والتجنيس، إذ بات من الصعب أن تُصنفه كفيلم روائي أو تسجيلي من دون أن تقع في مطب نقدي، وقد وظّف في عمله، وبذكاء نادر، صورة "الدرويش" الذي يتغنى بالحكمة والشعر الشعبي مادحًا المدينة وشوارعها، بحكم أن الفيلم ينتصر لروح المدينة وتفاصيلها، من خلال شخصية "مومو"، التي أداها الممثل حيمود براهيمي، ولأن المخرج محمد زينات حداثي، ومنفلت على السائد، لم يتمسك بصورة الدرويش الدي يتكئ على عصاه، صاحب العباءة والعمامة، بل جعله يرتدي تبّانًا "شورت"، ومن دون قميص، واختار له زاوية ما على رصيف البحر ليتغنى بالجزائر شعريًا، لتصبح مشاهده هي لازمة الفيلم وفواصله، تؤازر الموضوع وتدعمه، لهذا نجده يقول مثلًا:
يَا بَهْجَتِي قَالُوا لَكْ بَلْلِي أنْتِ مَبْنِيةْ فُوقْ الجْزِيرَهْ الْخَضْرَا؟
وَالْجْبَلْ مُولْ الْقَمْقُومْ الأبْيَضْ رَاهْ مْسَامِيكْ عْلَى الشَّفْرَهْ؟
قَالُوا لَكْ بَلْلِي مَعْدَنْ الْحَيَاةْ حَجْرَهْ نْفِيسَهْ عَنْدْ الْقَلْبْ الْلِي يَقْرَا؟
مَنْ قْرَاكْ قْرَا الْحْيَاةْ يَا بَهْجَتِي، وَالْلِي قْرَا الْحَيَاةْ مَنَّكْ مَا يَبْرَا.
الحكواتي المجنون في "وقائع سنوات الجمر"
خلق المخرج محمد لخضر حمينة في فيلمه "وقائع سنوات الجمر" 1974، شخصية مولود، الذي يؤدي شخصية الدرويش ذات البعد الروحي، ووظفها في فيلمه، يزرع البهجة والخوف والترقب في تفاصيل الفيلم، وفي الوقت نفسه جعل من تجوله في المقابر، وعمله في دفن
الموتى، سبيلًا حتى يصل ما يقوله من حكمة وجنون إلى الناس بسهولة.
أدّى هذا الدور المعقد والصعب محمد لخضر حمينة، وكأنه رأى بأن "الدرويش الحكواتي" هو ما يبحث عنه ليعكس تفاصيله ورؤاه، وحتى جنونه فيه، ليرسم رؤى فلسفية وروحية تساعد في بناء العمل، والدفع به إلى الأمام، مع كسر الخط الذي رسمته الأحداث، ليكون النكهة المنشطة التي يجب أن يأخذها المتلقي ليبحر في تفاصيل العمل ووقائع.
قسّم المخرج محمد لخصر حمينة الفيلم إلى ستة فصول، وهي" سنوات الرماد، سنوات النار، سنة الغربة، سنوات الجمر، سنة الهجوم، سنوات النار، 11 نوفمبر 1954". وقد غطى هذا التقسيم الفترات الزمنية الممتدة من تاريخ اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 إلى غاية اندلاع الثورة الجزائرية 1954، أي طوال خمس عشرة سنة كاملة، وكأن حمينة من خلال هذا الفيلم يوجه رسالة إلى الطرفين الجزائري والفرنسي، ويقول لهم: هذه هي الأسباب التي اندلعت من أجلها الثورة الجزائرية. ولقد كان "الدرويش الحكواتي" هو من يغذيها بحكمته، وبنذيره ونفيره، من المستقبل الذي أماط اللثام على بعض تفاصيله وخباياه من خلال ما يقوله لهم.
كتب سيناريو العمل وفّصل شخصية الدرويش محمد لخضر حمينة بالتعاون مع توفيق فارس، أما الصّور البانورامية الرهيبة في الفيلم، فيقف خلفها المصور مارسيلو غاتي، بمرافقة موسيقى فيليب أرتوس، الذي سبق أن تعامل مع حمينة، ويعرف طبيعة عمله، أما البطولة فأدى أدوارها كل من العربي زكال، وشيخ نور الدين، وحسن الحسني، وسيد علي كويرات، وليلى شنه، وفرانسوا مايستر، وم. سيساني، وطه العامري، وعبدالحليم رايس، وكلثوم، وإبراهيم حجاج.
الإرث... حاجتنا للجنون لفهم الحقيقة
احتاج المخرج محمد بوعماري لصفة الخروج عن العقل، أو الجنون، حتى يؤسس لرؤاه، ويدافع عن ما يراه مناسبًا في فيلم "الإرث" (1974)، الذي أنتجه الديوان الوطني للسينما والصناعة السينماتوغرافية. ويروي الفيلم حسب ما جاء في ملخصّه أحداث "قرية قصفها الاستعمار الفرنسي وهدمها، واعتقل وعذب كثيرًا من أهلها، من بينهم معلم القرية بلقاسم، الذي عُذّب إلى أن دخل في حالة من الجنون. وبعد الاستقلال، عاد أصحاب القرية مع قيادات من الثورة من أجل إعادة البناء من جديد، وإزالة الألغام التي تركها المستعمر الفرنسي، وبلقاسم المجنون كان يراقب الوضع من بعيد، ليتم القبض عليه، وتتفاجأ الزوجة والسكان ببقائه حيًا، لتبدأ بعدها عملية البناء. لكن شيخ القرية وصاحب الزاوية يغش في صناعة طوب البناء المكوّن من الصلصال والتبن، وعندما تحتجّ زوجة بلقاسم عند شيخ القرية عبدالله، يقوم هذا الأخير بالصراخ في وجهها، ويأمرها بأن تصمت، لأن صوت المرأة لا يجب أن يعلو على الرجل، لترد عليه بأنه يجب للمرأة أن تتكلم، لأن المرأة شاركت الرجل في الثورة، ويجب أن تكمل المسيرة في الاستقلال".
حاول بوعماري من خلال شخصية "المجنون" بلقاسم أن يرسم صورة قاتمة عن همجية الاستعمار الفرنسي وقسوته، من خلال التعذيب الذي تلقاه وأذهب عقله. وكان الجنون سببًا قويًا للبحث في تفاصيل هذه الحادثة، والتأسيس عليها، مع بناء دراما تطرح الأسئلة المهمة، وتقف عن الإرث السلبي الذي يحمله بلقاسم وزوجته التي بدأت هي الأخرى تعاني بعد الاستقلال من مجتمع ذكوري تناسى كليًا دورها المحوري أثناء الثورة التحريرية، ليكون الجنون محرضًا أساسيًا على توليد الحكاية وصنع تفاصيلها، ومرآة صافية لعكس روح الإنسان وهي تتحرك بين العديد من الأحداث السيئة والغامضة.
"زيتونة بولهيلات" و"أسطورة النائم السابع"
تجسدت صورة الدرويش في فيلم "زيتونة بولهيلات" 1978 لنذير محمد عزيزي بشكل عميق محوري، إذ لم يكن عنصر إسناد، أو دعما لآليات السرد، بل هو من ولّد الدراما، وتفرعت منه الحكايا والإثارة، وقدّم صورته بشكلها الحقيقي والمتداول بين الناس، إذ كان
يرتدي عمامته وعباءته، ويحمل عصا غليضة، ويصيح فيهم بشيرًا ونذيرًا، يبشر بالماء والساقية، وينذر كل من يقتلع شجرة الزيتون، حيث ستحل اللعنة على القرية.
تدور أحداث العمل في قرية نائية في الصحراء الجزائرية، يعاني سكانها من البطالة والعزلة بسبب النقص الكبير في الماء، مما انعكس سلبًا على حياتهم وأرزاقهم وماشيتهم التي لم تجد ما تشربه، أو فضاءات لترعى فيها، بحكم أن كل الأراضي المحيطة بالقرية أصابها الجفاف الحاد، فلم تعد تصلح للزراعة والفلاحة، لكن الدرويش (بوعشه)، الذي يسكن في أطراف القرية بشّر بلقاسم بالماء والساقية، وهو الشخص الوحيد الذي يكلمه ويتواصل معه، وبعد وفاته تحوّل الأمر إلى هاجس لبلقاسم، وتتبع نصيحته، رغم أن كل معارفه اتهموه بالجنون، بحجة أن الأرض قاحلة، ومن المستحيل أن يكون فيها الماء، لكنه اتبع حسه، وبدأ يحفر في كل الجهات، إلى أن عثر على المنبع، لكن في الأخير بدأت المشاكل تتراكم بعد أن تم نزع زيتونة بلهيلات، وقد سبق للدرويش أن أنذر بلقاسم بخراب القرية في هكذا حالة، لتكون البداية بزواج حبيبة بلقاسم من شخص آخر، ما دفعه إلى محاولة قتله، ليلبس في الأخير عباءة الدرويش، ويحمل عصاه ويدخل هو الآخر في عالم الدراويش ورؤاهم، واتخذ طريق المجهول ورحل.
أدى دور الدرويش الممثل حيمود براهمي، الذي سبق أن لعب دورًا مماثلًا في فيلم "تحيا يا ديدو"، لمحمد زينات. أما شخصية بلقاسم فأدّها المسرحي الجزائري الذي قتل على يد الجماعات الإرهابية، عز الدين مجوبي، فيما لعبت دور حبيبته الفنانة والمغنية الجزائرية المعروفة زليخة.
في السياق نفسه، استغل المخرج محمد شويخ منطلق خاصية "الجنون" نفسها في فيلمه "يوسف أسطورة النائم السابع" 1993، من أجل أن يظهر أساليب التعذيب التي كان يستعملها الاستعمار الفرنسي، حيث استطاع أن يفتح مقارنة بين فترتين مهمتين من تاريخ الجزائر، وهي فترة ما بعد الاستقلال وقبله، عن طريق الثوري الذي أصابه الجنون سنة 1960، وأدخل إلى مصحة عقلية، ولكنه عندما بدأ يعود إلى وعيه بعد الاستقلال ظن بأنه لا يزال معتقلًا عند الفرنسيين، لهذا بدأ يبحث عن زملائه الثوار، ويحذرهم من الجيش الفرنسي، وفي الوقت نفسه يكتشف الجزائر الجديدة، التي لم تعجبه فيها كثير من التفاصيل، ليتواصل تجسيد شخصية الدرويش من طرف العديد من المخرجين، من بينهم بلقاسم حجاج في فيلمه "ماشاهو" 1995، وهذا ما فعله أيضًا المخرج أحمد راشدي في فيلمه "لطفي" 2015.
*ناقد سينمائي من الجزائر.