}

"نهاية حب".. اللغة بين المونولوج والصمت

رشا عمران رشا عمران 25 نوفمبر 2021
يفتح الباب فجأة، يدخل حاتم مسرعًا وغاضبًا، يذهب إلى أقصى يسار الخشبة، ثم تتبعه ناندا حزينة أكثر منها غاضبة، تضع حقيبة يدها على الأرض وتقف قبالة حاتم، في الطرف اليمين من الخشبة، ويبدأ حاتم في الكلام، نصف ساعة كاملة وهو يتكلم كما لو أنه يقدم عرض مونودراما، لولا أن صمت ناندا الواضح وانفعالات جسدها ووجهها، سوف يشدان انتباهك، سوف تستمع إلى مونولوج حاتم لكن عينيك ستراقبان ردود أفعال ناندا الصامتة، هكذا تمامًا أذناك مع حاتم وعيناك مع ناندا، وأنت عالق في المنتصف، لا تعرف كيف سينتهي هذا الفيض اللغوي الغاضب والسريع والمتعثر والمتدفق والحزين الذي يؤديه حاتم، ولا تعرف في أية لحظة سوف تتوقف ردود أفعال ناندا الصامتة، جسدها المتكور والثابت والشامخ والمنكسر والحزين والغاضب، ليتم تبادل الأدوار بينهما بعد نهاية النصف ساعة، حيث تنتقل ناندا إلى يسار الخشبة وحاتم قبالتها في اليمين، ثم تبدأ ناندا في مونولوجها لمدة نصف ساعة، بنفس التدفق اللغوي الغاضب والحزين والمتدفق والمتعثر، فيما يبقى حاتم صامتًا تمامًا، تاركًا لجسده وتعابير وجهه أن يتفاعلا مع لغة ناندا، ثم ينتهي الاثنان من اللغتين: الكلام والجسد، وتُطفأ الأضواء ليتقدم حاتم وناندا بانحناءة ثابتة أمام الجمهور، في العرض المسرحي (نهاية حب) الذي قدم أخيرًا على خشبة مسرح روابط للفنون المعاصرة في القاهرة، بإخراج المخرج والكاتب الفرنسي باسكال رامبرت.

حين سألت ناندا محمد (ممثلة سورية) عن المخرج بعد مشاهدتي للعرض، أخبرتني أنه غير موجود، وأن هذا العرض قدم للمرة الأولى في مهرجان أفينيون الفرنسي عام 2011، بنص وممثلين فرنسيين، فالنص الذي وضعه المخرج نفسه هو حكايته مع زوجته الأولى، أو لنقل هو نهاية تلك الحكاية، وبعد نجاح العرض، استطاع المخرج أن يقدمه بأكثر من عشرين لغة في دول مختلفة حول العالم، بممثلين من تلك الدول، بعد ترجمة النص الفرنسي إلى لغة الممثلين (ترجمه إلى المصرية المحكية شادي الحسيني)، واللطيف أنه في كل النسخ التي قدم بها العرض تحمل الشخصيتان المسرحيتان اسمي الممثلين نفسهما، في النسخة العربية ناندا وحاتم (السورية ناندا محمد والمصري محمد حاتم)، مما يضع المشاهد في صدمة مع بداية العرض، حيث الخشبة فارغة من أي ديكور، وحيث لا مؤثرات ضوئية، فالنور كما هو أبيض ساطع مثل أرضية المسرح المغطاة بقماش أبيض، ولا ممثلين يدخلون من الكواليس، بل من باب الجمهور نفسه، كما لو أن المخرج أراد أن يجعل من قصته قصة الجميع، كما لو أن زوجين ما كانا يتشاجران في الخارج ودخلا ليتابعا الشجار بعيدًا عن أعين الناس، لنكتشف، بعد قليل، أنهما يتشاجران في المسرح الذي يعملان فيه أصلًا، إذ أن شخصيتي العمل هما ممثلا مسرح، أو ممثلة ومخرج إن افترضنا أن رامبرت لم يضف أي تغيير درامي على قصته الحقيقية.

لقطتان من العمل



كل ما يحيط بالعرض حيادي تمامًا، بياض كامل بدءًا من الضوء حتى لون الخشبة، ثياب الممثلين هي ثيابهما اليومية، لا شيء ملفتًا فيها، لا تعطي أي انطباع عن أي شيء، لا في نمطها ولا في ألوانها، كله محايد، ليخدم المنولوجين المقدمين والصمت المقابل لهما، لا شيء سوف يشتت انتباه المشاهد، هو أمام زوجين يتشاجران، أو لنقل إنهما يتكاشفان في نهاية علاقتهما الزوجية (يفرغان مكنونات قلبيهما)، هل هذا التعبير مناسب أكثر من الشجار؟ لعرض كعرض (نهاية حب) يرتكز أساسًا على اللغة، يبدو توصيف (شجار) أو (مكاشفة) هزيلًا أو غير معبر عما يحدث، فأنت (المشاهد) أمام لغة عالية جدًا، خصوصًا في مونولوج حاتم، حيث اللغة المستخدمة يختلط فيها الحب مع الفلسفة مع التنظير مع الشعر مع الاستعراض مع المسؤولية، بحيث تبدو الحياة التي يعيشها حاتم (الزوج) هي مجرد مشهد من عرض مسرحي يقدمه (حاتم) المخرج والممثل على خشبة مسرح، حيث الأفكار والقلب والغضب والحب هو اللغة، (في البدء كان الكلمة)، وفي البدء كانت اللغة، بداية كل شيء ونهاية كل شيء، الخلق لغة والموت لغة، اللغة هي وسيلة الإدراك التي نملكها، وعبرها نختبر مكابدات حياتنا وانفعالاتها، عبرها أيضًا يصبح جسدنا وجسد الآخر مفهومًا ومحبوبًا ومذمومًا، الجسد من حيث هو وسيلة خلق أخرى، جسد المرأة بالنسبة للرجل هو الشهوة، لكنها الشهوة المحمولة على وعي مختلف، أو على الأقل هذا ما يقترحه باسكال رامبرت في المونولوج الخاص به على لسان حاتم، الشهوة هنا ليست نحو الجسد فقط، بل نحو ما يحتويه هذا الجسد، نحو الموهبة والحضور والثبات والقوة التي تتمتع بها ناندا (الزوجة والممثلة) في النص. يضعنا رامبرت عبر حاتم أمام أفكار كبيرة وأمام تداع ثقافي متنوع، لا أمام مكاشفة لزوج لم يعد يمتلك مشاعر تمكنه من الاستمرار مع زوجة ما زال يراها فاتنة، وكأن الرجل هنا يهرب من الاعتراف بما يشعر به عبر اللغة المحملة بالأفكار، عبر التنظير عن علاقة الجسد بالثقافة والمسرح بالزواج، عبر خلط هذه المفاهيم للهروب من الحقيقة التي يقولها في المونولوج دون تركيز عليها: حضور الزوجة القوي كممثلة يتفوق على حضورها كزوجة ويتفوق على حضوره كممثل أو مخرج، المعادلة هنا صعبة، والاعتراف بهذا يبدو صعبًا أيضًا، فلتكن اللغة المحشوة بأفكار عظيمة هي الملجأ من خطر الاعتراف بالسبب الحقيقي لقرار الانفصال، في مقابل هذا المونولوج اللغوي يبدو صمت ناندا ثقيلًا قويًا حاضرًا كما لو أنه يؤكد أن اللغة التي يصفها بها الزوج تليق بها حتى في الصمت.

غير أن المرأة التي تعيد الأشياء إلى أصلها دائمًا، تمسك بلغة الرجل وتفككها لترجعها إلى عاديتها حين ينتهي حاتم من مونولوجه الطويل ويتبادل الأمكنة والصمت مع ناندا، تسترجع ناندا لغة حاتم وترددها قبل أن تحولها إلى كلام وتفاصيل معاشة، الزوجة تفهم لعبة الزوج الذهنية وهو يعلن انفصاله عنها، فتأخذ باللغة من التنظير إلى الأرض، يعود جسد الزوجة معها جسدًا أنثويًا، مشتهى لذاته لا لكونه جسدًا ثقافيًا، تفاصيله معروفة وواضحة لا تهويمات فيها، تفاصيله كصدر وعنق وبطن وساقين وذراعين، تفاصيله كمانح ومتلق للشهوة المتبادلة، ويعود الخلاف إلى أصله: انتهاء الحب أو الملل أو الشعور بالنقص أمام الحضور القوي للزوجة الممثلة، هكذا تبدو اللغة مع مونولوج ناندا لغة خلاف زوجين، مطلق زوجين، فبينما تشعرك اللغة مع حاتم (الرجل) أنك أمام عرض عن عرض مسرحي، تعيدك لغة ناندا (المرأة) إلى الواقع: أنت تشاهد عرضًا يحكي عن آخر لقاء بين زوجين ينفصلان، وبينما كان صمت ناندا أثناء مونولوج حاتم صامتًا قويًا وحاضرًا كلغة المونولوج، يبدو صمت حاتم أثناء مونولوج ناندا صمتًا هشًا يوضح النقطة الأساسية للخلاف ورغبته بالانفصال، وضوحها في اللغة ووضوحها في سرد أسباب الخلاف، قوة شخصيتها، موهبتها الفذة كممثلة لم يستطع أن يجاريها وهما يعملان معًا، بيد أن ثمة خلافات عادية أخرى بينهما كزوجين، ناندا الزوجة تضع يدها عليها وتحددها، بينما حاتم يصر على رؤيتها والحديث عنها كممثل أو مخرج لا كزوج.


(نهاية حب)، يمكنه أن يكون عرضًا عن الرجل والمرأة معًا، عن مشاكل الحياة ومكابداتها، يمكن لأي منا، نحن المشاهدين، أن يرى انعكاس خلافاته مع شريكه فيه، يمكنه أن يكون تشريحًا لعلاقة الزوجين أو الحبيبين، وتفكيكًا لسيكولوجية كل منهما، غير أنني شخصيًا، وربما بسبب كوني شاعرة، لفتتني اللغة المستخدمة في كلا المونولوجين، لفتني الفرق بين الأفكار والواقع في الخطابين، بين مراوغة اللغة وبين وضوحها، رغم أن الخطابين مثقلان بالأفكار إلا أن خطاب الزوجة مباشر وواضح وقطعي يشرّح العلاقة بسكين ذات نصل حاد وقاطع، بينما خطاب الزوج مراوغ ومشتت ومتداخل الأفكار ويشرّح العلاقة بنصل سكين مثلوم. وأظن، كأنثى، أن هذه واحدة من المشاكل الأزلية في علاقة الحب بين الرجل والمرأة:  فرق الوضوح والمراوغة بين الخطابين.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.