}

مسرحية "كلب السفير" والفساد في المسرح السوري

أنور محمد 8 نوفمبر 2021
مسرح مسرحية "كلب السفير" والفساد في المسرح السوري
مشهد من مسرحية "كلب السفير"



يُعرض نص مسرحية "كلب السفير" للشاعر والكاتب المسرحي ممدوح عدوان (1941- 2004) على خشبة مسرح دار الثقافة باللاذقية، من تمثيل فايز صبوح، مصطفى جانودي، ريم نبيعة، خالد حمادة، أشرف خضور، نور خضور، حمزة صبوح، مجد عمران. وهو نصّ من قراءته وليس من تمثيله، يُقيم تفاعلًا بينه وبين القارئ. ففي أثناء القراءة يُحيلك إلى خشبةٍ مُتخَيَّلة، ودون ديكور- تصميم وتنفيذ ماهر علاء الدين، الذي كان تقليديًا، بل ومُشوِّهًا ومزيِّفًا لمنظر أيِّ حديقة في اللاذقية، وليس التي في لندن أو نيويورك. فالنص عن صراعٍ عقلاني يوازن بين الواقع وبين نقد دولةٍ فوق الواقع، يموت فيها مرافق الكلب الذي من الدولة الصُغرى؛ الكلب الذي للسفارة؛ سفارة الدولة العُظمى، وهو مسرورٌ وسعيدٌ وفَرِحٌ بأنَّ الذي أكل اللحمة المُسمَّمة؛ التي سمَّمها حارس الحديقة أبو سمعان- أدَّى دوره المُخرج فايز صبوح، هُوَ المواطنُ- أدَّى دوره مصطفى جانودي، وليس الكلب؛ كلب الدولة العُظمى. ما هذه التضحية والفدائية، وَمَنْ دجَّن هذا المواطن؟ ثمَّ كيف لَوْ كان المغدورُ إنسانًا عظماويًا وليس الكلب العظماوي؟ ألا تجُرُّنا مثل هذه الواقعة إلى حربٍ كونية ثالثة وربَّما رابعة، إِنْ بقيَ أحدٌ على وجه هذه الكرة؟ وكَمْ كان هذا المرافقُ المواطنُ الذي من الدولة الأصغر من الصُغرى يعيش إحساسًا بالذل، بل وإنَّه قنٌّ وضيع وقد سَحَبت دولته منه البطولة والخير والفروسية والشجاعة- الشجاعة التي قام بها حارس الحديقة أبو سمعان حين أصرَّ على تسميم كلب السفارة الذي يخالف قوانين دولته التي تمنع دخول الكلاب إلى الحدائق. فتحايلَ هازئًا ساخرًا ناقمًا من هذه الدولة العُظمى وكلبها، والتي تخرق أبسط القوانين الاجتماعية بتدخيلها كلبًا إلى حديقة قسرًا بالترهيب ولا أحد يمنعها، بل إنَّ الحارس الذي في النص، وليس الذي على خشبة مسرح دار الثقافة باللاذقية، وبكل ما يحمل من قوَّة حبٍّ لوطنه، لم يستطع أن يمنعه، إذ انصاع مُكرهًا للأوامر التي جاءته من فوق بالسماح للكلب بأن يسرح ويمرح في الحديقة.

ممدوح عدوان في "كلب السفير" يحاكم الملوك والرؤساء الذين يفرِّطون بكرامة أوطانهم وناسها، ويعتبر أنَّ ما يقومون به هو كفرٌ وتجديفٌ بحق الوطن. إلى أين ذَهَبَ ويذهبُ مُخرجُ العرض فايز صبوح، فالنص، وما يريد قوله ممدوح عدوان، واضحٌ وصريح، ومن خلال الصراع الذي يتنامى في حوارات المسرحية، تراه يقدِّمُ المعرفة الحدسية الناقدة والساخرة على الإدراك العقلاني لفعل الدولة العُظمى، التي تريد قهر واستعباد وتركيع العالم لها، ومن خلال - وهنا سخرية ممدوح- تكليب الأرض ومن عليها. في "كلب السفير" كما كتبها وليس كما شاهدناها على خشبة مسرح دار الثقافة باللاذقية؛ هي بعثٌ للوعي عند الإنسان، فلا يخاف من (الشَرّْ)، مهما كانت اندفاعاته قوية ومُجرمة. ممدوح في هذه المسرحية- وهذه ضيَّعها المُخرج صبوح؛ بل هو ضيَّع المسرحية- يستخفُّ ويسخرُ ويهزأُ من المصاعب ومن القوَّة المتغوِّلة التي تستصغر الناس وتحقِّرهم وتستعديهم وتعاديهم، ليحقِّق للمتفرِّج الوعي بالحريَّة، ومن ثمَّ الغبطة والفرح، من أجل انتصار الآدمية على الحيوانية المتوحشة. فهو في هذه المسرحية، وهي الثانية لنفس المُخرج- سبق أن أخرجَ مسرحية "كلب الآغا" لممدوح، من أساسٍ فكري يحفظ للإنسان كرامته ووطنه، وهي معركةٌ، مسرحية معركة حقوقية وسياسية حتى لا يموت الرائع، لا يموت السامي، لا يموت البطل أبو سمعان الذي كان يتعذَّبُ روحيًا وهو يرفض دخول الكلب إلى الحديقة مراوغًا المُرافق؛ المرافق الثرثار المماحك الأحمق، يراوغه ويسايسه حتى يدَّسَ السُمَّ للكلب ليقتله، فيفتديه المرافقُ ويأكلُ اللحمةَ المسمومةَ وهو يحتضر قائلًا: الحمد لله أنِّي أكلتُها أنا ولم يأكلها الكلب!.

مشهد من مسرحية "كلب السفير" 



في عودٍ على بدء؛ العرضُ المسرحي هو بُنية من إشارات، بُنية من عناصر كالرقص والموسيقى والعمارة والشعر والرسم. فما هذه التُحف؛ أشجار ونباتات بلاستيكية وغرفة لحارس الحديقة تتوسط المنصة حجمها يزيد على ثلث المكان الافتراضي. ثمَّ ما ضرورة التمثال الخشبي، وما مدى اندماجه مع قطع الديكور. ديكور لا ضرورة له، ولو إنَّه استعاض عنه بالمؤثرات المسرحية مثل الكنايات المشهدية كما إشارات المرور، أو أن يضعنا كمتفرجين أمام خشبة مسرح بدائي، أو مسرح شارع، أو المسرح الجوال، لكان التأثير البصري أقوى. إنَّ الخشبة مركز الفعل، وكل شكلٍ فوقها، جمادًا كان أم نباتًا أو إنسانًا أو حيوانًا، هُم ممثلون. ممثلون كان بالإمكان الاستغناء عنهم سوى أبو سمعان، حارس الحديقة ومرافق الكلب في هذا العرض تحديدًا، رغم أنَّ أبو سمعان لم يعايش مشاعر الشخصية، فقد تمَّ تبديد طاقاتهم، ولو إنَّه استعاض عنهم المخرج بالدمى الخشبية أو البلاستيكية لكان التأثير أكبر، إذ لم نَرَ اندفاعاتهم الانفعالية، ولا حرفية تمثيلية، ولا تخييلا. من طرف آخر؛ أستغربُ أن يدخل طفلٌ في أوَّل مشهد/ مشاهد المسرحية- حمزة صبوح- يلقي ورقة في سلَّة مهملات الحديقة ويختفي، كذلك البصَّارة فتَّاحة الفال المرأة الغجرية في لباسها- أدَّت دورها ريم نبيعة. حركتان جاءتا حشوًا، شارتان لا ضرورة صراعية/ درامية لهما، لقد كانتا حركتين مفتعلتين، وإن كان لهما من ضرورةٍ فهي لجني أو حصاد الأجر من مديرية المسارح والموسيقى - أي من جناب الدولة، فكلَّما ازداد عدد الممثلين زاد الأجر، وإنَّ الشخصين وليسا الممثلين ريم نبيعة وحمزة صبوح هما من أسرة المُخرج الذي قام بأداء الدور الرئيس أبو سمعان حارس الحديقة إلى جانب دوره كمخرج للعرض، إضافة إلى عضو رابع من الأسرة هو حيدر صبوح بدور فني لوازم وإكسسوار!!.

كيفَ يسمحُ مديرُ المسرح القومي باللاذقية بمرور هذا العرض فيشارك في تنفيذه بالأداء أربعة من أصل ثمانية ممثلين من عائلة واحدة، دون الأخذ والنظر إلى كفاءاتهم وخبراتهم العلمية والفنية في المسرح؟ أهو المسرح الذي صار (عائليًا)، أم إنَّه الفساد، فساد المسرح اللاذقاني على يد مديره الذي أوقف نشاطات المسرح القومي لدورة هذا العام سوى هذا العرض الذي لا نعرف كيف مرَّ من فوق سيفه، وبحجَّة أنَّ المنصَّة/ الخشبة قد تهبَّطت. نعم؛ لقد تهبَّطت منذ سنتين وأكثر ولا تقوم اللجنة الفنية وأختها المالية في وزارة الثقافة بترميم الخشبة، وصارت ذريعة لمدير قومي اللاذقية للاعتذار من المُخرجين المسرحيين هذا العام عن تقديم أيِّ مسرحية، آخرها ما تقدَّم به المخرج ياسر دريباتي للموافقة على إنتاج مسرحية (تفاصيل) لمسرح قومي اللاذقية فرفضَ بحجَّة أنَّ الخشبة مُهبَّطة. إلى متى سيبقى الفساد يقهر الحياة وكأنَّه عصيٌّ على الموت. ما هذا الفسادُ البطلُ الخارق الذي صار وحشًا مقدَّسًا لا يمكن محاسبته، بل صار موضع إعجاب وتفاخر. هل من المعقول أنَّ إصلاح أو ترميم خشبة مسرح - المسرح الذي شكَّل العمق الحضاري، الفلسفي، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لـ(أثينا) ومن ثمَّ لأوروبا، فقامت عليه نهضتها- يحتاج إلى موافقات ومؤتمرات، وكونغرس عالمي لترميمه ومنذ أكثر من سنتين، مع إنَّ فتَّاحة فال - ليس التي أقحمها المخرج بثيابها وحركتها المثيرة للاشمئزاز ولهجتها البدوية المصطنعة- تستطيع كشف المستور وإعطاء الأمر بإصلاحه. العطل فقط في خشبة هابطة والأصحُ مُهبَّطة لأنَّ سوسة الفساد الجهنمية نخرت خشبها وإسمنتها وحديدها.. فإلى متى؟؟.

إن ممدوح عدوان في مسرحه، سواء من خلال "كلب السفير" أو غيرها، عنده سعيٌ لقهر الدولة المُستبدَّة، وإِنْ استطاع فيُشيِّعُها، بل ويشارك في جنازتها، إلى جانب مسرحيين مثل سعد الله ونوس وفرحان بلبل ومصطفى الحلاج من حملة مشاعل التنوير السوري والعربي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.