}

فيلم "أميرة".. كرامة الأسير الفلسطيني سُلّمًا للعالمية!

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 9 ديسمبر 2021
سينما فيلم "أميرة".. كرامة الأسير الفلسطيني سُلّمًا للعالمية!
(ملصق الفيلم في مهرجان البندقية)




ليس بدون ثمن صفّق المصّفقون لفيلم "أميرة" (2021) خلال مشاركته بمهرجان البندقية. وليس بدون ثمنٍ يرشّح لجوائز أوسكار 2022، لأفضل فيلم أجنبيّ. أما الثمن فهو كرامة الأسير الفلسطيني التي على ما يبدو مسّها (للأسف الشديد) الفيلم الفلسطيني- المصري- الأردني المشترك عن علمٍ أو عن جَهالة. وأمّا نوافل الأثمان فمنها تشويه صورة الإنسان الفلسطينيّ الصامد في أرضه، المتمسّك بحقوقه تحت الاحتلال، المتشبث بصلابة وجوده، المبتكر في مدن الضفة الغربية وغزة فنونًا غير مسبوقة لإدامة هذا الوجود، وانتزاع الحياة من براثن الموت والعدم. ومن أثمان إعجاب الغرب الامبرياليّ بالفيلم، حرمان شعب يواجه أبشع احتلال، وأكثر حركات التاريخ عنصرية: الحركة الصهيونية، من توفير مساحة بحث وأرشفة دقيقة وعميقة ومهنية وأمينة ولائقة، حول سماته وتاريخه وموروثه وخصوصياته وجغرافية وجوده في الضفة، أو غزة، أو مدن فلسطين التاريخية، كان من شأنها، لو حدثت، وسبقت كتابة نص الفيلم والسيناريو الخاص به وحواراته، أن تسند هشاشة العمل وتمنعه من كل هذا الانزلاق، وكل هذه المتاهة، وكل هذا الضياع المتعلق بهويته، وغاياته، ووجهاته، ومواقع تصويره، ودقة مقارباته، ومصداقية محاكاته.

غياب روح البحث العميق المتأمّل بقضية الشعب الفلسطيني المركزية بالنسبة لكل إنسان عربي وغير عربي، وبتاريخ هذه القضية وتاريخ شعبها في مدنه التاريخية، وفي إضاءة مساعيه منذ أول كينونته، لنشر المحبة وقيم الحق والخير والجمال والانتصار للحياة والدفاع عن قيمتها حتى الاستشهاد في سبيل ذلك، أودى بمشروعية الفيلم من الأساس، ونسف معظم أسباب إنتاجه، إلا إن كان من بين هذه الأسباب، تلك الإساءات المتعمدة، والتغييب المقصود للهوية والسمات والإِرث.


حدّوتة مُلتبسة

كي يفهم القارئ حول ماذا أتحدث، فسوف أمر سريعًا على حدوتة الفيلم. فقد فرضت ظروف الأسر في السردية النضالية الفلسطينية، خصوصًا مع وصول الأحكام التي تصدر بحق المناضلين الفلسطينيين، في حالات بعينها، إلى مئات السنين، أن يبتكر الأسرى في مختلف سجون الاحتلال ما أصبح يطلق عليه "تهريب الحياة"، إذ عبر شبكة معقدة من الإجراءات والمتابعات، يسرّب الأسير قبسًا من (نُطف) وجوده لزوجته خارج السجن، ورغم فشل مئات المحاولات، إلا أن عددًا غير قليل نجح، وحملت الزوجات من أزواجهنّ القابعين في أعتى سجون العالم.

الفيلم يختار هذه الظاهرة موضوعًا له، متبنيًّا سردية لا تشبه روح الموضوع ومعناه في المدى النضاليّ الفلسطينيّ. ومن خلال هذه السرديّة يتبيّن أن "أميرة" التي يحمل الفيلم اسمها ويفترض أنها ابنة أسير هرّب ماء الحياة لزوجته، ليست ابنة الأسير نوار (أدّى دوره الممثل الفلسطيني علي سليمان)، إذ يبدّل جنديُ سجونٍ إسرائيليّ كيس السائل المنويّ الخاص بنوار بآخر له. هي، إذًا، ابنة جنديّ صهيونيّ وليست ابنة نوار الذي يتبيّن أيضًا أنه عقيم!


مشهدان من الفيلم.. 



داخل هذه البؤر الإشكالية تتحرّك أحداث الفيلم.

الالتباس يتجلّى واضحًا في مختلف صيرورات هذه الحكاية، وفي طرائق تعامل متواليات الفيلم معها، وفي ردود فعل الشخصيات بعد انكشاف كل هذه الحقائق الصاعقة. طريقة معالجة الفيلم لهذه الظاهرة، يجعلنا نعتقد أنه يدفع باتجاه إيقاف تهريب الحياة من داخل السجون إلى خارجها.

ثم إن ظاهرة "تهريب الحياة" التي تناولها الفيلم، هي مسألة جزئية أمام عمق القضية الفلسطينية وتلاطم أمواجها وخصب المواضيع المتعلقة بها. وثمة قضايا كبرى أخرى كثيرة حارّة وحقيقية ومثيرة وعاجلة ومفصلية وإنسانية واجتماعية واقتصادية ونضالية وبطولية ويومية وجامعة تعجّ بها القضية الفلسطينية.

وهي ابتكار فلسطينيّ جرى تناوله بأفلام وثائقية احتشدت بالقيم الإنسانية والمعنى والجمال، ومعالجة الموضوع من خلال فيلم روائي ستؤدي حتمًا لمطبات لم يتمكّن الفيلم من تجاوز أيٍّ منها، وأوقع نفسه (بتناحة) في قضية شائكة تحمل أنفاس خصوصية فلسطينية لا تشبه غيرها، ولا يجوز معها التعويل على (أكشن الميلودراما).

ضعف المحاكاة

الجدار الذي اختاره فريق إنتاج الفيلم ووافق عليه مخرجه المصري محمد دياب، على اعتبار أنه جدار الفصل العنصري، لا يشبه جدار الفصل ولا بـ(نكلة). والحقيقة أنها طامّة كبرى، فالجدار ببشاعته ورعبه ووحشيته لا تكاد تخلو نشرة أخبار عربية أو أجنبية من صورة له، فهل يعقل أن يكون الجدار الذي قتل قلب فلسطين واغتال هارمونية الانسجام بين شرقها وغربها، قد شغل بال ناشطين أجانب وأقاموا حوله ورسموا فوقه مجسّات حياة تتحدى بِناءه وبُناته، أكثر مما شغل بال مخرج عربي قرر تناول قضية فلسطينية في واحد من أفلامه؟

الحارات الفلسطينية في الفيلم لا تشبه الحارات الفلسطينية الحقيقية. تغيب الحواجز عن مشاهد الفيلم. كما تغيب، على وجه العموم، مختلف مظاهر الاحتلال. لا يرينا الفيلم بشاعة سجون الاحتلال من الخارج، ويقدم محاكاة ساذجة لإجراءات الاحتلال القمعية اللاإنسانية وكيفية تعامله مع زوّار الأسرى من الرجال والنساء.

ثمة غياب أي محاكاة للبيئة الحقيقية لفلسطين والفلسطينيين، فعشق الفلسطيني للأرض يجعله يخضّر أي بُقعة أرض حوله حتى لو كانت المساحة المتاحة له لنشر الخصب والخضرة لا تتعدى متريْن مربعيْن. فإن كان التصوير المفترض داخل مدن فلسطين التاريخية أو في غزة، فكان يجدر بنا أن نرى بحرًا، وإن كان في مناطق الضفة الغربية فكان يجدر بنا أن نرى حواجز ومستعمرات ومستوطنات ومستوطنين ومظاهر احتلال فاقعة البغض، ونرى في المقابل جماليات جنين، أو بيت لحم، أو نابلس، أو الخليل، خصوصًا أن قصة الفيلم لا تكفي وحدها لنستعيض بها عن جماليات المكان الفلسطيني.

محاكاة الإيقاع الفلسطيني فشلت بتفوّق، وجاء الفيلم رتيبًا وبما يتناقض، تمامًا، مع روح الشعب الفلسطيني وطبيعته الحيوية إلى أبعد الحدود. بيوت الفيلم تسكنها الوحشة والعتمة، ما يكشف ضعف محاكاة البيت الفلسطيني المشع، المكتظ، العامر بالإرادة والأحاديث والحياة.

أمّا أسوأ محاكاة في الفيلم، فهي محاكاة حياة الأسير الفلسطينيّ، ومحاكاة الأُسر الفلسطينية التي يتعرض أحد أبنائها للأسر.

المخرج محمد دياب وملصق للفيلم 



إنسانية العدو

على امتداد دقائق الفيلم (98 دقيقة) لم نر حقيقة العدو الصهيوني. بل على العكس مرّر لنا الفيلم (إنسانية) الجندي الإسرائيلي حتى كدنا نعتقد أنه بدّل عينة الحمل لمعرفته أن الأسير نوّار عقيم، من باب جبر خاطره وخاطر زوجته.

وفي حين أظهر الفيلم الإنسان الفلسطيني متخلّفًا مضطربًا مهزوزًا، فإنه أوحى أن الإسرائيلي يتميّز بالرقيّ والإنسانية اللافتة، ولديه قدرات منتبهة على حماية نفسه بالطرق المشروعة دوليًّا.

جنديّ الاحتلال يكاد يقفز الدمع من عينيه، عندما اكتشف أن القتيلة هي ابنته. ويختار المخرج لمشهد الختام (القفلة) هذا الجنديّ واقفًا أمام جثمان أميرة، وقد انحبس لسانه عن إنكار أي صلة بها، رغم أن هذا الإنكار ينقذه من مشاكل كثيرة، ما يومئ لنبله ونخوته ولامتلاكه نزعة إنسانية وارفة! ثم المشهد ما بعد الأخير ليافطة عليها صورة أميرة ومكتوب عليها: الشهيدة. أما شهيدة من، ما هي هوية هذه الشهيدة؟ ما هو اسمها؟ من يحمل يافطتها ويتبنى سرديتها ويراها شهيدة؟ فتمتنع تلك اليافطة عن إيضاح كل هذه الالتباسات.

غياب الهوية

الفيلم برأيي هو بمثابة خنجر في معنى الهوية الفلسطينية الجامعة. وللإنصاف، لا أدري، حقيقة، هل جرى ذلك عن وعي، أو بدون قصد؟

ولأن هوية الفيلم ملتبسة، فإن هوية الفلسطيني تصبح أول ضحاياه، وتصير هي أيضًا، بدورها، ملتبسة، وتغيب، بالتالي، الحوارات الناضجة العميقة حول أبعاد القضية الفلسطينية وأوجاعها وتفاصيلها الإنسانية اليومية. كما تغيب القدس وحاراتها وصراعها المستحيل لتثبيت هوية أحياء فيها مثل حيّ الشيخ جراح وحيّ سلوان، رغم أن عمليات إنتاج الفيلم تمّت في قلب عاصفة الأحداث حول القدس. غياب الهوية أدى إلى غياب ملامح خاصة بالنضال الفلسطيني داخل مختلف أحداث الفيلم وحواراته وصراعاته، ولو جرى استبدال جغرافيا أحداث الفيلم وساحة صراعه بأي بلد آخر لما شعر المشاهد بأي فرق، أي بمعنى أن الأسير قد يكون هنديًّا أو مكسيكيًّا أو تنزانيًّا، معتقلًا في بلده لأسباب غير أسباب اعتقال الفلسطينيين وإصدار أحكام بحقّهم تصل أحيانًا إلى مئات السنين.

من باب تحصيل حاصل حول غياب الهوية الفلسطينية، غابت خصوصية اللهجات الفلسطينية من منطقة إلى أخرى. وغاب عن انتباه القائمين على الفيلم أن لهجة الفلسطيني داخل فلسطين تختلف عن لهجة فلسطينيي الشتات. وأن لهجة الفلسطيني القريب من البحر تختلف عن لهجة الفلسطيني في سلفيت على سبيل المثال. وأن لهجة الفلسطيني ابن القرية تختلف عن لهجة الفلسطيني ابن المدينة. وأن لهجة ابن نابلس تختلف عن لهجة ابن جنين، وهذا تختلف لهجته عن ابن الخليل، وابن الخليل عن ابن بيت لحم، وابن الناصرة تختلف لهجته عن ابن غزة، وهكذا دواليك.

الفيلم لا يحتوي على أي ملمح فلسطينيّ، ولولا قصة "تهريب الحياة" الخاصة بنضال الأسرى الفلسطينيين تمسكًا بامتداد معناهم بعد رحيلهم، لبات الفيلم معوّمًا تمامًا ويخلو من أي خصوصية فلسطينية، رغم مشاركة فلسطينيين من الداخل والشتات فيه!  

صورة من تكريم الفيلم في مهرجان البندقية



معالجة مسيئة

تحتل قضية الأسرى مكانة مقدسة في الأدبيات الفلسطينية، فهم أسرى حرب ممتدة لن تنتهي إلا بانتهاء اغتصاب فلسطين، ويعي كل فلسطيني أن هؤلاء ضحوا بحريتهم كي تحرر بلادهم وينعم أهلهم خارج السجون بما يليق بالشعوب من كرامة ومعنى وحياة. ولأن صنّاع الفيلم لم يدركوا، على الأرجح، هذه القدسية التي تحيط بهذه القضية، فقد جاءت معالجة قضية محورية من قضايا النضال الفلسطيني مسيئة.

وإلا فما معنى أن يجري امتهان كرامة الأسير الفلسطيني وتشويه معناه لدى الناس كل الناس في كل العالم من خلال المشهد المخجل الذي أظهره فيه وهو يستدعي بلوغ النشوة الجنسية عن طريق محادثة هاتفية مع زوجته، واضعًا يده داخل بنطاله؟ من أين أتى كتّاب نص الفيلم وهم ثلاثة أشقاء مصريين: محمد دياب مخرج الفيلم وشقيقه خالد وشقيقتهما شيرين، من أين أتوا بهذه التفصيلة؟ ومن قال لهم إن تهريب الحياة من سجون الاحتلال يجري على هذا النسق؟ هذه إهانة ما بعدها إهانة. وهذا انحدار ما بعده انحدار، وأستغرب كيف قبل جميع من عمل في الفيلم ولم ينتبه أحد منهم أن هذه إساءة لا تغتفر.
وهل يعقل أن مغافلة الاحتلال وإدارة سجونه بمكالمة هاتفية عابرة، تحتمل كل هذه المكالمات الطويلة الممتدة التي أجراها نوار إما مع زوجته وردة (أدت دورها الممثلة صبا مبارك)، أو مع ابنته المفترضة أميرة (أدت دورها تارا عبود)، أو مع واحد من أشقائه؟

لم نعرف لماذا اعتقل نوار وما طبيعة العملية النضالية التي أدت إلى أسره ونيله حكمًا طويلًا ممتدًّا. وهل هو "إرهابي" كما وصفه الجندي الإسرائيلي، أم فدائي مناضل كما هو واقع الحال عندما يكون الصراع مع أبشع احتلال وأسوأ عدو وأكثر كيان جرمي.

وإمعانًا في الالتباس وضياع الهوية والإساءة، نسي الفيلم، أو تناسى، بطولة أسرى الملاعق رغم أنه أُنْجِز بعد عملية الهروب الكبير، أو استكملت مراحل تصويره بعدها، أو لم يكن قد عُرِض بعد.

ما هكذا..

خلا التمثيل من أي إقناع، تمامًا كما خلت حدوتة الفيلم وسرديته. وتضمّن مبالغات سطحية، ومعالجات أكثر سطحية. كما أنه أظهر الفلسطيني سلبيًّا إلى درجة الموت المجانيّ بدون أي معنى أو مقابل أو بطولة. المبالغة الفاقعة تمثيلًا وإخراجًا، والحياد الأعمى الذي تبنّته الرؤية الإخراجية والنصيّة، كل ذلك أدّى إلى تناقضات وإلى تشتّتٍ أزهق روح الفيلم.

ما هكذا يا محمد دياب. وما كان ينبغي أن تقع بالتباس منهجيٍّ جوهريٍّ بين فيلمك ومعك أشقّاؤك "اشتباك" (2016)، وبين طبيعة الصراع في حالة الشعب الفلسطيني. في "اشتباك" كان يجوز لك ممارسة الحياد السلبيّ أو الإيجابيّ، سمّه ما شئت، وأن تقف وَمعك فريق الكتابة والإعداد، في منطقة وسْطى بين جماعة (الإخوان المسلمين) وجماعة السيسي؛ وأن لا نعرف هل أنت مع هؤلاء أم أولئك، ولكنه ما لا يجوز في حالة فلسطين ومأساتها الممتدة.

والحق يقال إنك عالجت في "اشتباك" بذكاء عناوين الائتلاف والاختلاف بين مكوّنات شعب واحد هو الشعب المصري، وبين جهتين سياسيتين تنتميان، في نهاية المطاف، لهذا الشعب؛ فالإخوان مصريون والسيسي مصري، والخلاف في أسّه ومختلف أبعاده سياسي. وهو ما لا ينطبق ولا بأي شكل من الأشكال على الصراع الوجوديّ بين الفلسطينيين والعرب أجمعين من جهة، والصهاينة من جهة أخرى. الصراع الوجوديّ لا يشبه بأي شكل أو معنى الصراع السياسي أو الحدوديّ.

حب فلسطين إرثٌ يتناقله الناس كل الناس في كل بلاد الناس، ويحيطونه بالحدب العظيم، و(يقرقطون) به كأنه الحرز المقيم. و"أميرة" يطعن هذا الحب في مقتل، فاحمل يا محمد دياب نُطفتك المهرّبة الزائفة التي تبيّن أنها لصهيونيّ منهم، واذهب بعيدًا عن دمنا، وعن أسرانا، وعن خصوصياتنا التي نتوارثها كابرًا عن كابر.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.