}

يوسف العاني: على المسرح أن يؤدِّي وظيفته التنويرية والنهضوية

أنور محمد 23 فبراير 2021
مسرح يوسف العاني: على المسرح أن يؤدِّي وظيفته التنويرية والنهضوية
المسرحي العراقي يوسف العاني (1927 ـ 2016)

منذ مسرحياته الأولى: "القمرجية"، و"طبيب يداوي الناس"، و"مع الحشاشة"، ولاحقًا: "راس الشليلة"، و"لَوْ بسراجين لَوْ بظلمة"، و"ستَّة دراهم"، و"آني أُمَّك ياشاكر"، و"المفتاح"، و"الخرابة"، و"الخان"، يضع الكاتب والناقد والممثِّل والمخرج المسرحي يوسف العاني (1927 ـ 2016)، إِنْ قارئه، أو متفرِّجه، في مواجهة مع الأحداث التي يذوِّبُ فيها الألم بالضحك؛ فساد سياسي واجتماعي واقتصادي، تحرسه ميثيولوجيا مُقيمة في النفس، فيكشف العاني عيوبها واستغباءها للناس، ومن ثمَّ تغوُّلها وهي تفترس قيم الجمال الأخلاقية، فتراه يصدم الشر بالخير، يصدم الخيانة بالبطولة؛ كونهما المعتديين، الشرُّ والخيانة، فنرى احتدام الشهوات، والتنافر الروحي ما بين هاتين القوتين، الشرِّ والخير.

من مسرحية المفتاح (1968). من اليسار: آزادوهي، يوسف العاني، ناهدة الرماح، روميو يوسف، على المسرح القومي في الصالحية (المدى)         


آلم يوسف العاني، في مسرحياته، بل حزَّ قلبه، أن يكون الإنسان ضحيةً للإنسان: أين العقل؟ أليس وجود العقل أن يرى الأشياء من روح وحقيقة ومعنى؟ لقد عمل على ذلك مؤلِّفًا وممثِّلًا ومُخرجًا، ومن منطلق فكري "بريختي" يعتمد على التحليل المادي الجدلي. فهو يريد من المسرح كـ(فن) أن يرى السلاطين ما يفعلونه بالضحايا الذين هُمُ الناس. العاني في مسرحه يتهكَّم، يسخر. هو مسرحيٌ ساخر يريد من المسرح أن يؤدِّي وظيفته التنويرية والنهضوية، لأنَّه يُدرك مدى علاقته وتأثيره بالوجدان والحسِّ الوطني والتاريخي في تعميق الوعي الاجتماعي للإنسان، فهو يرينا، خاصَّة على الخشبة، المعاناةَ الانفعالية والعاطفية لأفكار شخصياته، وضرورة تمثلها روحيًا.

المسرح، حسب يوسف العاني، من خلال نصوصه، يجب أن يقف ضدَّ تدمير الضمير الوطني والقومي للإنسان، وإيقاظ حسِّه المدني. ففي مسرحية "آني أُمُّك يا شاكر"، وهي مسرحية أفكار، كتبها متأثِّرًا بـ(أُمْ) مكسيم غوركي، يُقتل ابنها شاكر على يد المحتلين الإنكليز، فيما يُقتل ولدُها الثاني في السجن تحت التعذيب. فيرينا العاني قوَّة الحسِّ الوطني عند أُم شاكر، وابنتها، وجارتها، في عملية تحدٍّ للنظام الذي يحتل بلدها مع أعوانه من خونة الوطن، وكأنَّه يريد أن يصنع من بطولتهن معجزة أسطورية. العاني تشغله فكرة الحريَّة، لكنَّه في هذه المسرحية يعرض لنا حياة ثوَّارٍ وَعْيُهمُ الإنساني يذهبُ بهم إلى المثالية. هنالك واقع، وهنالك وقائع. والعمل المسرحي، وعند عرضه، يُفترض أن يأخذ شكلًا محسوسًا. مع ذلك، فإنَّ يوسف في هذه المسرحية منحَ أُمَّ شاكر هيبةً مأساوية. فمقتلُ، أَوْ قتلُ ولديْها، على يد المُحتل، هو لحظة ولادة لحياة جديدة؛ ثورة؛ حريَّة. كما هو (جريمة) مباحة للمحتل، وهذا ما (صرعَ) يوسف، ولمسناه في شخص أُم شاكر، وابنتها، وجارتها، أن نشعر بأنَّ القتل في هذه الحالة هو إبادة للحياة. وها هي أُمُّ شاكر تقوم بتحدي الموت بدافعٍ غريزي (ثأري): أنا (الأُم) التي ما بعدها أُم؛ أنا الحياة. وهذه ليست دعوة، أو تكريسًا، للمجتمع الأمومي. طبعًا، نلاحظ في المسرحية انطفاء، أو لا صورةَ للأب. ولكنَّها الأم، الرحم، الوطن، الثورة، الضحية/ الضحايا التي تنتفض ضدَّ الجلاَّد/ الجلادين، وأنَّ المسرحية، كما ذكرت، مسرحيةُ أفكار، وصراع قضايا سياسية. مَنْ يعيد لأم شاكر ولديْها، مَنْ يُعيد كليب حيًّا؟ مَنْ المسؤول عن آلامها، وعن الشرِّ الذي يُولِّده المُحتلُّ في العراق؛ أو في فلسطين، ليضمن بقاءه، وذلك في قتل أبنائه؟ أُمُّ شاكر، عند يوسف العاني، هي أُمُّ العراقيين الذين قضوا اغتيالًا تحت التعذيب في سجون الجلادين، كانوا مستعمرين، أَوْ وطنيين. وهو في ذلك، وإنْ مارس القسوة،، فلكي يرينا قسوة وعنف الجلاد على الضحايا/ الناس، وبروح تهكمية. هو يسخر من الجلاد، ينقلب عليه، يقاومه، يُكثر من مقاومته، ولا يتركه من دون عقاب.

في مسرحيته "الخان"، نرى العراق في الخان بكل شرائحه الاجتماعية، بعد أن قمعت بريطانيا انتفاضة (رشيد عالي الكيلاني) عام 1945، فيثور العراقيون على النظام الملكي؛ ثمَّة حيَّة/ أفعى دخلت الخان واختفت، وكل سكَّان الخان صاروا يتوجَّسُون منها خشية أن تلدغهم، بعد أن فشل جاسم، وهو "أبو الحيايا"، في قتلها، وقطع ذيلها، فيهرب الوصي. وهذا الكل هو ما يشكِّل أطياف المجتمع العراقي الرافض والمقاوم للملَكِية التي يدعمها الإنكليز لتنكِّل بالشعب، فنرى المناضلين الذين يرمز إليهم الأستاذ منير، طالب الحقوق، كما نرى المرأة نجمة، بائعة البقول التي تمثِّل الشريحة الدنيا في المجتمع، وعباوي الذي يقف إلى جانبها في صراعها مع قوى الشر بعد وفاة زوجها. ولا شكَّ، أيضًا، هنالك جاسم الذي يشتغل حمالًا، وهو الرجل البسيط الطيِّب. يقابلهم في الصراع والمكائد: حميد، الجابي مُدلِّس الحسابات، الشاعر والكاتب الانتهازي ملا سلمان، صاحب الخان، صلاح الذي يلعب دورًا خسيسًا في التآمر على سكَّان الخان، بعد أن كان تاجرًا وطنيًا، مأمور الاستهلاك؛ إلى أن تلدغ الأفعى العاملُ عبَّاس، ويظهر من جديد الوصي، بعد أن كان قد اختفى وهرب ليلة دخلت الأفعى الخان ولم يستطع جاسم أن يقتلها.
يوسف العاني في مسرحية " الخان وأحوال ذلك الزمان" يكشف عن الدور الخسيس للمحتل الإنكليزي في قمع وإخماد انتفاضة الكيلاني، حتى لا يطالب الشعب بالاستقلال، فيرينا الروح الثورية للشعب، الذي يريد أن يصنع زمنًا بطوليًا. فالنظام الملكي الذي يشكِّل ذيل الأفعى للاستعمار الإنكليزي، الذي هو الأفعى، أصبح باليًا- لا بدَّ من الاستقلال، وإذا لم تكن نهايته مأساةً فلتكن ملهاة. ملهاةً يسخر فيها العاني من البطانة السياسية التي تدَّعي الوطنية وتحكم باسم الملكية الشعب العراقي الذي عنده وفرة كبيرة من المآسي المُعاشة والمآسي التاريخية، بل مُراكمات وتراكمات، منذ حَكَمَها ابن الثقفي، وإلى الآن. العاني في مسرحية الخان يقوم بتوليد وتغذية وجدان المتفرِّج، كما القارئ؛ بالحريَّة، والسعي إليها. وهو في هذه المسرحية، كما في سائر نصوصه التي جاوزت خمسين مسرحية، يعمل على تقوية وعي الإنسان بتاريخيته، فلا يتحوَّل إلى ألعوبة بيد الفاسدين مهما كانت مراتبهم وينتزع منهم حريته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.