}

"سلالم خالد الحمزة".. ما بين فن التجهيز والفن المفهومي

هاني حوراني هاني حوراني 9 فبراير 2021
تشكيل "سلالم خالد الحمزة".. ما بين فن التجهيز والفن المفهومي
الفنان خالد الحمزة و"سلالمه"

لا يكف خالد الحمزة، الفنان التشكيلي الأردني، عن مفاجأتنا بين الحين والآخر بانغماسه في تجربة فنية جديدة. إن التجريب لديه شغف دائم يمارسه لارتياد عوالم غير مكتشفة، أو لمعاينة ما وراء الضفاف التي ارتادها يومًا ما، أو حتى للتمتع باختبار لذة التجريب ذاته. لم يعد يكتفي الحمزة بما ألفته عيناه، إذ يعود مرة تلو الأخرى للبحث وراء الجديد، أو ما هو غير مطروق.
وبسبب هذا السعي الدائم للاختبار والتجريب، خلال مسيرته الفنية الطويلة، فقد كان من الصعب على الناقد أو المراقب أن يضع أعماله في إطار فني محدد، أو أن يخضعها لتصنيف مدرسي معين. ولعل الأدق والأسلم أن يتم توصيف الحمزة بأنه هو ذاته واحدٌ من التشكيليين المعاصرين الذين لا تحدهم ضفاف، أو حدود، عندما يتعلق الأمر بما يقومون به من تجارب واختبارات بصرية.

سلالم خالد الحمزة


وقد تفسر "شهوة" التجريب لدى خالد الحمزة أنها نتيجة، كونه أستاذًا أكاديميًا للفنون وتاريخها في جامعة اليرموك (إربد، الأردن)، وانشغاله أيضًا في الكتابة والبحث والترجمة في مجال الفنون التشكيلية، ما جعل من اختباراته التشكيلية جزءًا من الهاجس المعرفي الذي يؤرقه. لم تمنعه هذه السعة المعرفية بفنون العالم والفكر المتصل بها من النظر في واقعه، بل وظفها في محاولة لتأصيل الفنون التشكيلية في ثقافتنا وحياتنا العربية المعاصرة، آملًا أن تأخذ مجراها

الذي تستحقه، والمعبر عن مساهمتنا وبصمتنا الثقافية في العالم المعاصر.
تمثلت أحدث انشغالات خالد الحمزة، بعد سلسلة من المداخلات الغنية في ميادين الحفر والتصميم والتجهيز، وفي اللوحة المسندية، في تنفيذه سلسلة من "السلالم" المصنوعة من أغصان الشجر. ولقد اتخذت هذه "السلالم" أشكالًا وبناءات متنوعة، تندرج من حيث الشكل تحت مسمى فن التجهيز، أو الفن الإنشائي (Installation Art). إنها، من ناحية، أعمال ثلاثية الأبعاد، وتشغل حيزًا محددًا في الفراغ، كما أنها تنشغل بالفراغات داخلها من ناحية أخرى. ويمكن للمتتبع أن يرى أن "سلالم" خالد الحمزة، التي أنتجت في مناخات انتشار جائحة الكورونا في عام 2020، لم تكن منقطعة الجذور عن أعمال فنية سابقة له، سواء على صعيد أعماله التجهيزية، أو لوحاته المسندية، والتي اتخذت من "السلالم" موضوعًا لها.

موضوع "السلالم" في لوحات سابقة للفنان خالد الحمزة


تتسم "سلالم" خالد الحمزة بالخفة والرشاقة، كما لو أنها تحلق في فضاءاتها، فهي لا تستقر على قواعد ثابتة تأخذ حيزًا محددًا لها، كما هي حال الأعمال النحتية، أو الإنشائية التقليدية. وهو ما يقربها من أعمال النحات الأميركي، ألكسندر كالدر (Alexander Calder)، الذي اشتهر بمنحوتاته المتحركة المعتمدة على الأسلاك والصفائح المعدنية، الخفة والشفافية

وسهولة الحمل والتحريك والعناية بالفراغات داخل وحول العمل. وبهذا المعنى، فإنه يمكن النظر إلى سلالم خالد الحمزة، باعتبارها أعمالًا تجهيزية (Installation Art)، ويمكن النظر إليها، في الوقت نفسه بقوة، باعتبارها أعمالًا نحتية شفافة. وبخلاف أعمال النحات الأميركي كالدر، المنفذة من مجموعة من القطع الصلبة والأسلاك غالبًا، فإن "سلالم" الحمزة تعتمد بالدرجة الأولى على مواد طبيعية، مستمدة من بيئته المحلية، أي من أغصان الشجر، حيث يقوم الفنان بانتقائها، وتشذيبها قبل موضعتها في تكويناته، وكأنه بذلك يشرك الطبيعة في تنفيذ أعماله النحتية باحتكامه إلى حنيات الأغصان وسماكاتها وأطوالها وكذلك ألوانها. ويمكن مقاربة أعمال الحمزة مع ما يسمى بالنحت البيئي (Environmental Sculpture)، طبعًا مع الأخذ بعين الاعتبار أن نحاتي البيئة في الغرب ينتجون أعمالًا، أو آثارًا فنية تحتل أماكنها في الطبيعة الفسيحة، في حين أن أعمال الحمزة النحتية تظل من حيث أحجامها أقرب إلى الحجم البشري. إنها كتلك الأعمال البيئية تقوم على مبدأ إعادة تشكيل عناصر محددة من الطبيعة على صورة أعمال فنية، ما يجعلها محفزًا على الانتباه إلى البيئة المحيطة بنا.

(خالد الحمزة )

(خالد الحمزة)

"سلالم" خالد الحمزة.... هل خلفها رسالة سياسية؟!


بدأت "سلالم" الحمزة تظهر تباعًا على وسائط الاتصال الاجتماعي خلال العام الماضي (2020)، وقد تدرجت من تكوينات بسيطة تقترب من أشكال السلالم الخشبية بدائية الصنع، ثم أخذت تصعد نحو أشكال أكثر تعقيدًا وتركيبًا. انتهت النماذج المتقدمة منها لتكون بمثابة كتلة من السلالم المتداخلة والمتراكبة، والتي تتجه صعودًا تارة، أو تتمدد أفقيًا تارة أخرى، غير أنها في مختلف الحالات تستمد جمالياتها من قوتها التصميمية. ورغم بساطة مادة العمل الفني، أي كونها تعتمد على أغصان شجر طبيعة متقشفة الأشكال والألوان، إلا أنها تحولت على يد الحمزة إلى تشكيلات بصرية تضعها في عداد "الفن المفهومي" (Conceptual Art).
إن علاقة خالد الحمزة بمنطلقات الفن المفهومي، فكريًا وعمليًا، ظهرت في أعمال سابقة له،

مثل "الكرسي والتوقيع"، الذي يعود إلى عام 2003، الذي يستوحي فيه من تجربة الفنان الفرنسي دوشامب، حيث كان الأخير يستعين بمنتجات "مسبقة الصنع"، مخرجًا المنتج، أو العمل، من سياقه ووظيفته السابقة، ليمنحه إمكانية قراءته بصورة تخرج عن السياق الذي أوجد المنتج من أجله. ولقد كتب الناقد المصري، ياسر جاد، تحت عنوان "مفاهيمية العمل التشكيلي في تجربة الفنان خالد الحمزة" (انظر مجلة "فنون" الأردنية، العدد 46، شتاء 2020): إن الحمزة قد "جعل من الكرسي هو الفاعل في العمل، وليس المفعول به، أو المستخدم، فأنطق الكرسي بما يوازي جملة الصدق التي يتحرج الجميع من النطق بها. لقد أنطقه كذلك بتلك الأكاذيب التي يمارسها الجالس عليه في كل موقع ومسؤولية". وبالعودة إلى "سلالم" خالد الحمزة، فإن المنسوب "المفهومي" في تلك الأعمال يمكن استقراؤه على أوجه عدة، أهمها تقشف تلك الأعمال من الناحية الشكلية، بخلاف الأعمال التشكيلية التقليدية التي تعنى بالزخرفة اللونية والمعايير الجمالية المستقرة، إذ تبدو جافة و"غير ملونة". وهي بذلك تقتفي، أو تترجم، أبرز سمات الفن المفهومي، أي ازدراء مفهوم الجمال بمعناه الكلاسيكي، أو التقليدي، حيث المفهوم الكامن وراء العمل أهم من العمل المنجز نفسه.

كرسي وقلم وكتاب أو "الكرسي والتوقيع"، من اعمال خالد الحمزة (2003)


تكاد سلالم خالد الحمزة أن تكون في واقع الأمر أكثر أعماله تعبيرًا عن نزعاته المفهومية في الفن، وهي تنطوي على فكرة سياسية، أو على مفهوم ذي مضمون سياسي، ونقصد به البيئة، وتحديدًا البيئة والطبيعة الأردنية. فمن المعروف أن الجزء الأعظم من مساحة الأردن عبارة عن أراض صحراوية، وشبه صحراوية، وبذا فإن المساحة الخضراء من إجمالي مساحة

الأردن قليلة، ومستغلة لغايات الزراعة. أما الغابات، فهي على ضآلة مساحتها، تزداد تقلصًا وانحسارًا، بفعل الإهمال والقطع الجائر للأشجار على يد بعض تجار أخشاب التدفئة، فضلًا عن الحرائق الدورية التي تتعرض لها تلك الغابات والأراضي الحرجية. أَمَا والحال هكذا، فهل لسلالم خالد الحمزة، المصنوعة من الأغصان الجافة، الناجمة عن أعمال التقليم الدورية للأشجار في الحدائق المنزلية، التي أعيد تدويرها على صورة أعمال فنية، هل لها صلة ما بهشاشة الواقع البيئي في الأردن، وضعف نظم صيانة الموارد البيئية، ولا سيما الغابات؟! هل يُحمّل سلالمه الخشبية المتقشفة رسالة، أو معاني محددة، تشير إلى ما تتعرض له البيئة الطبيعية في الأردن من تحديات، وهل ثمة "مفهوم" قادر على تحميل تلك الأعمال، وعلى تأويلها، أكثر أهمية وإلحاحًا من هذه الرسالة؟!
مهما يكن من أمر تصنيف أعمال خالد الحمزة بين اتجاهات فنون ما بعد الحداثة، فإن أعماله الأخيرة، ولا سيما مجموعة "السلالم" بتخليها عن أدوات الرسم والنحت والحفر التقليدية، واستبدالها بمواد الطبيعة، تدفع المشاهد إلى اتخاذ وضعية المشارك أكثر من وضعية المشاهد العابر، إنها تدفعه إلى التفكير والتخمين والاشتباك مع العمل نفسه: لماذا صنع منها الفنان سلالم، ولم يتناول موضوعًا آخر لتشكيلاته. والواقع أن هذه الأعمال تثير في ذهن المشاهد من الأسئلة أكثر مما تمنحه من أجوبة.


*رسام وباحث في الفنون البصرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.