}

محمد الماغوط.. شخصيات من القلق والغضب والحريَّة

أنور محمد 11 مارس 2021
مسرح محمد الماغوط.. شخصيات من القلق والغضب والحريَّة
الشاعر محمد الماغوط (1934 ـ 2006)
ما مغزى الحياة الإنسانية؛ هل هو انتصار الضرورة، أم هزيمة الحرية؟ أَمْ أَنْ تنتصرَ إحداهما من دونَ أَنْ تنهزمَ الأخرى؟ هذا ما يُقلق الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط (1934 ـ 2006)، وهو يعرض "تراجيكوميديا" الشقاء الإنساني في مسرحياته: "العصفور الأحدب"، و"المهرِّج"، و"خارج السرب"، و"المارسيليز العربي"، و"ضيعة تشرين"، و"غربة"، و"كاسك يا وطن"، و"شقائق النعمان"، إِذْ كتبَ فيها انفجارات روحه، وليس انفجارات روح دريد لحام، الذي نَسَبَ إليه مؤخَّرًا كتابة بعض هذه المسرحيات التي اشتهر فيها ممثلًا: "ضيعة تشرين"، و"غربة"، و"كاسك يا وطن"، و"شقائق النعمان". وهي مسرحيات كتبها باللهجة العامية السورية لم تُطبع، وكتبها لتُمثَّل على المسرح، كتبها لنرى ثورات عقله؛ نَزقه، تبرمه، مُستفزًا إلَهَ العدالة والقَصَاص كي يثأرَ لمواطنه العربي المحروم والمُذَّل والمُهان، بجملةٍ شعريةٍ ساخرة، موجزة، نارية حارقة، وعفوية، من دون أن يستعمل الأقنعة. رأينا معه الوجوه الماكرة، كما هي، وقد حوَّلها إلى دريئة يرميها الفقراءُ بحجارتهم، محاولًا ما أمكن التَمسُّك بالعقل، فلا يصوِّب حجارته إلاَّ إلى الهدف.

لذا جاءت كتاباته المسرحية كأنَّها أساطير، ولكنَّها أساطير واقعية يومية عن الجوع والقهر والاستبداد، وَإِنْ كانت من (أفكار) إلاَّ أنَّها من أحجارٍ كونية، فلا وقت للتأمُّل. ماذا يفعل بالإنسان الجامح في أعماقه، كيف يروِّض العنف ليزيحَ؛ يُذيب تلك الكتلة الجليدية المتصلِّبة، كتلة، وللأسف، مقدَّسة من الزيف والنفاق، التي تواجه مشروع الحريَّة.
في مسرحية "كاسك يا وطن"، الوطن عند محمد الماغوط ليس بناءً هندسيًا، وليس الأماكن المقفرة، ولا الأرض اليباب، ولا الصحارى والجبال والوديان والأنهار والبحار، ولا الغابات والحدائق والحقول، ولا المعامل والمزارع، الوطن عنده هو المكان الآمن الذي ترتاح النفسُ فيه، وقد طَرَدَ منه كلَّ رجال الأمن، ورجال المال الذين يعبثون بحريَّته. الماغوط الذي شَغَلَنَا وانْشغَلْنَا به لم يكن يبحث أو يُمجِّد البطولة إذا لم تَكُنْ دفاعًا عن الوطن، وعن كرامة إنسان الوطن. كان ضدَّ العَظَمَة والغرور والاغتصاب، كان مسرحيًا وشاعرًا، صدر له في الشعر: "حزن في ضوء القمر"، و"غرفة بملايين الجدران"، و"الفرح ليس مهنتي". وله أيضًا: رواية "الأرجوحة"، ومقالات "سأخون وطني"، و"سياف الزهور"، و"شرق عدن غرب الله"، و"البدوي الأحمر". كانَ لا يُخفي أحزانه، ويُقرُّ من دون تعذيب وضربٍ وسحلٍ بخياناته لوطنه إذا خان، وذلك حين يدفع شخصيات مسرحياته في "غربة"، و"كاسك يا وطن" لكي تخمر، تشرب الخمر ليرينا الشرَّ والأذى الذي لحقَ بها من رجال الأمن والمال، وقد أخرجَ الخمرُ ما كان خفيًا ومخفيًا ومكبوتًا من ألم الفقر والجوع إلى الكرامة؛ كان يرينا إحساس الناس بالفزع والقلق من العنف والقسوة، ويرينا كيف تحوَّلت البقرة المُقدَّسة إلى بقرة متوحِّشة وهي تشيل ما يأتي في طريقها، كيف تحوَّلت البقرة إلى حيوان جُهنَّمي، وهي الحيوانة الآهلة.


محمد الماغوط من أكثر المسرحيين السوريين والعرب الذين صاغوا شخصياتهم من القلق والغضب والحرية، التي مهما تطلَّعت إليها لن تبلغها، فهي تكافح بـ(الحكي) المقرون بالفعل؛ الخائف، وليسَ الجبان. وهذا عالمنا في ظلِّ النُظم السياسية التي ترفع شعارات الحريِّة/ علمانية مدنية، فيما تحكُمُنا بالسيف الثيوقراطي، لأنَّ الممنوعات الأخلاقية عند هذه النظم كثيرة، لا عدَّ لها ولا حصر. ومن ثمَّ فالأفكار هي مولِّد الصراع، وهي من بنات الفكر الإنساني، والماغوط، وإِنْ لَمْ ينضبط كثيرًا بقواعد الكتابة المسرحية الأرسطالية، أو البريختية، أو ما بينهما من نظريات وتجارب، واكتفى بسرد الفكرة والمثال، فهو يفعل ذلك لأنَّه مشغولٌ بمرافعته عن مواطنيه أمامَ "العادل" فيقتصَّ له؛ مع إنَّه، ولو هربَ من أسر النظريات، إلاَّ أنَّه اشتغلَ مسرحه على مبدأ "المحاكاة" الأرسطية، ولكن محاكاة الواقع، وليس الأساطير، التي تقوم بدور معرفي، وهذا ما يشدُّ الجمهور في المسرح، لأنَّها معرفة صادقة نزلت للتوِّ من عرش الحقيقة، آخذًا في عين الاعتبار قانون الاحتمال والضرورة، أي أنَّ شخصياته تفعلُ ما تفعلُه مُضطرةً من دون الوقوع في التكرار، أو الكذب. والماغوط لا يكذب، وأحداثه إنَّما تمرُّ أمامنا خاصةً في مسرحياته التي اشتغلها مع الفنان دريد لحام، وادَّعى الأخير ملكيتها بعد رحيل الماغوط.
شخصيات الماغوط قويَّة، وإنْ كانت لا تملكُ إلاَّ الصراخ. فهي الحياة في "ضيعة تشرين"، كما في "غربة"، و"كاسك يا وطن"، و"شقائق النعمان"، تلعبُ أدوارها بيقظةٍ وحذر. هنالك كسرٌ للإيهام، في شيء من بريختية، وهنالك دائمًا حزنٌ وقهرٌ مستتر؛ أبٌ يبيع أولاده في "كاسك يا وطن"، ومواطنٌ في "ضيعة تشرين" عنده قصائد وأشعار يمكنه أن يستعيد بها الأندلس، فكيف، وَكَمْ عددُ القصائد التي تلزم لاستعادة فلسطين!
وفي مسرحية "شقائق النعمان"، يعود الشهيد لينصرعَ ممَّا فعله أخوه، حيث استولى على إرثه، فيضطَّر للسكن في المقبرة. الماغوط يسحق، يدمج التراجيديا بالكوميديا، ذلك لنتألَّم من شدَّة ما يتألَّم هوَ مِمَّن يسخرُ منَّا ويشغِّلنا عبيدًا عنده. إنَّها المهزلة؛ بل الملهاةُ المُفجعة لِمَا صارت إليه مصائرنا. فحياة الناس الذين يمثِّلون قاع المجتمع والذين يملأون مسرحياته هم في مأساة مستمرَّة، وقد دخلوا الجحيم العربي من دون حصان طروادة، وهو جحيمٌ غير جحيم المعري، أو جحيم دانتي، وها هو يقوم بجولاتٍ وجولات لإخراجهم، من دون التوسط لهم، فلا يعيشون في جهنَّم الأنظمة الشمولية. ولذا فهو يُسَيِّفُنا، يمزِّق البدلات الذهبية التي يرتديها مسؤولو هذه الأنظمة، وبضربةٍ واحدة، وبيدِ كل شخصيات مسرحياته، وبنارٍ بركانيةٍ، ليبلغوا الذروةَ البطولية.

*ناقد مسرحي سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.