}

أعمال نسرين أبو بكر.. الموت النفسيّ للمرأة

مليحة مسلماني 12 مارس 2021
تشكيل أعمال نسرين أبو بكر.. الموت النفسيّ للمرأة
(نسرين أبو بكر)

يختزل الثامن من آذار، أو اليوم العالمي للمرأة، العديد من الدلالات حول الأنوثة والذكورة، والذكورية، والسلطة، والجسد، والحقوق، والمساواة، و"الشرف"، وغيرها من المفاهيم التي تطوف في مدار مركزه المرأة. وإن كان الثامن من آذار مخصّصًا للاحتفاء بالنساء وتكريمهن، إلا أنه يوم يتجدد فيه الجدل كذلك حول المفاهيم السابق ذكرها، وحول العلاقات المتشابكة بين تلك المفاهيم. إنه يومُ مَن بقيتْ في الواقع والوعي على الهامش ـ المرأة، لتصيرَ بالاحتفاء والتكريم مركزًا، وهو يوم مناسب كذلك لطرح المركزية التي تحتلها المرأة في الوعي الجمعي، كموضوع جنسيّ ووظيفيّ في الأساس، ولكنها، في الوقت ذاته، تُركت على هامش التاريخ والواقع و"الحضارة".


المركزيّ ـ المهمّش
الأنثى ـ الجسد المركزيّ المُهمَّش هو موضوع أعمال الفنانة نسرين أبو بكر، ومجال بحثها البصريّ المعرفيّ على مدار حوالي عشرين عامًا من مسيرتها الفنية. فالفنانة التي ولدت ونشأت في قرية زلفة، بالقرب من مدينة أم الفحم في الداخل الفلسطيني المحتل، تفاعلت خلال مسيرتها مع تعقيدات الواقع المعاش في فلسطين، كبلدٍ عربيّ شرقيّ من ناحية، لم يتحرر من الصور النمطية التي أُسِرت داخلها المرأة، وكبلد محتل من ناحية أخرى، لا يزال يرزح تحت وطأة سلطة استعمارية وتمثلاتها في الاغتيال والطمس والنفي للجسد والمكان والهوية.

(نسرين أبو بكر)                                                                                                                                                                                                


تسللت هذه التعقيدات إلى معمل الفنانة، لتكون الأنثى، بالعلاقة مع قوى السيطرة والسلطة، موضوع مساحات القماش التي تعمل عليها، وبؤرة تنطلق منها لطرح رؤيتها حول المرأة بالعلاقة مع معطيات وأسئلة كبرى؛ كالوطن، والهوية، والجمال، والجسد، والموت، والحياة.



قماش وإسمنت: الأنوثة والذكورية
ولدت نسرين أبو بكر لأبٍ يعمل في البناء، ولأمّ تمتهن الخياطة؛ في بداياتها اتخذت الفنانة من فساتين والدتها مساحةً للرسم، "كانت فساتين أمي بالنسبة لي عبارة عن الكانفاس، القماش الذي أعمل عليه"، تقول نسرين. وفي أعمالها اللاحقة، ظل القماش حاضرًا، بالإضافة إلى مواد وأدوات أخرى مستقاة من العالم الداخلي للنساء في بيوتهن، كالخيوط والأواني والصحون المزخرفة وغيرها. في الموازاة، كان الإسمنت، وغيره من مواد البناء، كالأسلاك، والدهان، حاضرًا بثقل، أيضًا، في تلك الأعمال.

الخياطة والبناء مهنتان مترابطان، فكلاهما يصنع عالمًا، أو شكلًا ما، أو يعيد ترتيب وتركيب الأشياء، وهما، أيضًا، متضادّتان من حيث المواد وملمسها وكثافتها؛ وبين خفة ورقّة الخيوط والقماش، وثقل وصلابة الإسمنت والحجر والحديد، تتحرك مواد أعمال أبو بكر، لتطرح العلاقة بين الأنوثة والذكورية ـ السلطة، والصورة المشحونة بالألم والتناقضات حول المرأة.
هذا التناقض بين المواد، النابع من التضاد بين مهنتين (البناء والخياطة) تتبعان بدورهما لذكر وأنثى، وذلك حسب التصنيف الاجتماعي للمهن، يظهر في عمل يصور ستارة من قماش أبيض شفاف مخرّم على خلفية من الإسمنت؛ القماش إحالة إلى المرأة، كموضوع للرقة والشفافية، والنقاء، المرتبط بدوره بالعذرية، والذي يعبر عنه اللون الأبيض هنا، وهو لون فستان الزفاف أيضًا، الذي لا تلبسه عادة في المجتمعات العربية سوى عذراء تستعد لدخول حياة الزوجية.

(نسرين أبو بكر)                                                                                                                                                                                               

أما الإسمنت، بقسوته وخشونته ورماديته، فهو إشارة إلى صلابة وقسوة التصورات والممارسات التي حُبِست المرأة داخلها، وهو يحيل إلى السلطة والقوة والاستعمار كذلك؛ ففي فلسطين، كل ما يتركه الاحتلال من مظاهر استعمارية على الأرض رماديّ اللون، كمكعبات الإسمنت على الحواجز العسكرية، والجدار الإسمنتي الذي طغى برماديتّه على المشهد البصري للمكان الفلسطيني. يدعو هذا العمل إلى رؤيةٍ من نافذة مختلفة، تنظر عبر ومن شفافية المرأة الظاهرة إلى عالم من القسوة والقوة التي احتلت الكيان الأنثوي، ومارست بحقه التشويه والاغتيال، تمامًا كما يمارس المستعمِر سياساته القمعية ضد المستعمَر.



الجسدُ المَسْخٌ ـ المُشظّى
أنجزت الفنانة خلال السنوات الأخيرة مجموعة من الأعمال موضوعها الجسد الأنثوى، الذي يبدو غالبًا عاريًا، ولكنه يفتقر إلى معايير الجمال المتعارف عليها؛ جسد مشوّه، فلا وجود لأي تناسق بين أعضائه، أو فيها، إنه يبدو كمسخٍ، بقدمٍ أو يدٍ واحدة أحيانًا، الوجه في أغلب الأعمال دائرة فارغة ممسوحة لا ملامح فيها، وقد يظهر بعين واحدة فقط. حتى وإن كان الوجه مكتملًا، كما في بعض الأعمال، بعينين وأنف وفم، إلا أن التعابير تبدو محايدة، لا تعبر عن أي مشاعر، لا فرح ولا حزن ولا غضب ولا خوف تخبر عنه الشخصية موضوع الرسم. وما يلفت النظر بشكل كبير في هذه الأعمال الثديان اللذان يفقدان شكلهما الدائري، ويأخذان شكلًا أقرب إلى طوليّ، ليصبحا أشبه بزجاجتي رضاعة.

في أحد تلك الأعمال تظهر بقايا جسد، ساقان وثديان، ترافقها حمامتان، وقطعة من الكوفية الفلسطينية، وكمّاشات يتكرر رسمها في الخلفية. في حين يحضر الأحمر في الجزء السفلي من اللوحة تعبيرًا عن عنف ودم محيط بالمشهد. تصور أبو بكر في هذه الأعمال الواقع الحقيقي والموت النفسي للمرأة العربية، فالجسد الأنثوي رغم مركزيته في الوعي الجمعي، كما هو بؤرة أعمال الفنانة، إلا إنه تعرض للتشويه بالأفكار والتصورات حوله، ولممارسات الاغتيال الجسدي، عبر العنف و"جرائم الشرف"، أو للقتل النفسي بطمس وجود المرأة ونفي إرادتها وحقها في تقرير مصيرها.

(نسرين أبو بكر)                                                                                                                                                                                               


يظهر في بعض هذه الأعمال حيوان أسود لا هوية له، ليس كلبًا تمامًا، وليس ذئبًا، ولا غيره، صُوِّر بوضعية جنسية مع الجسد الأنثوي. الحيوان الأسود، والشريط الأحمر حول عنقه، هو رمز للسلطة وتمثلاتها ـ الذكورية، والاحتلال، والمجتمع، والتي تمارس العنف والسيطرة ضد المرأة.



الشخصية الفلسطينية
لم تأسر نسرين أبو بكر ذاتها كفنانة في موضوع المرأة فقط، أو بالأحرى إن كان هذا الموضوع هو الرئيس في أعمالها، إلا أنها تنجح في تصويره ربطًا بمختلف تعقيدات الواقع وأسئلته. في مجموعة من الأعمال عملت الفنانة على رسم صور شخصية لفلسطينيين من أم الفحم والبلدات المحيطة بها، تبدو الشخصية الفلسطينية بلا تعابير واضحة تخبر عن مشاعر حزن أو فرح، بل تعابير محايدة صامتة محدقة في الفراغ، رُسِم في الخلفية نقشُ الكوفية الفلسطينية، بينما يظهر ختم الأونروا الأبيض على خلفية زرقاء كعنصر مضاف إلى اللوحة، أو مفروض عليها.
هذه المجموعة هي المعادل البصري للهوية الفلسطينية المعبّر عنها بالشخوص والكوفية، في مقابل قوى السيطرة والصراع التي فرُضت على هذه الشخصية؛ فالأونروا توجد حيث توجد الحروب والصراعات، ووجودها إشارة إلى المكان الخاضع للسيطرة والمفتقر بالتالي إلى الإغاثة والمساعدات.

(نسرين أبو بكر)                                                                                                                                                                                                

تسخر نسرين أبو بكر في أعمالها هذه، من التناقضات التي يفرزها الواقع في فلسطين، حيث تصبح القوة التي يستمدها السكان الأصليون من تجذّرهم في المكان ـ والتي لا تزال حاضرة في الأعمال بقوة حضور الشخصيات وبقوة الألوان، موضوعَ ضعفٍ وخضوعٍ للمنظومة الغربية، منظومة "الرجل الأبيض"، ومؤسساتها، والتي تقدم نفسها كجهة مساعدة في سياق خريطةٍ غربيةٍ من توزيع القوى هي ذاتها التي أفرزت الاستعمار الإحلالي في فلسطين.



الدائرة ـ الجدار ـ السلطة
في عمل تركيبي، وعلى تكوين إسمنتي يصور جدار الفصل العنصري، صففّت الفنانة مجموعة من الأطباق المألوفة، والتي تُرى عادة في كل مطبخ فلسطيني، وهي تلك الملونة برسوم الزهور والطيور داخلها، كانت الفنانة قد جمعتها من نساء من أم الفحم والبلدات المحيطة بها. الأطباق دائرية، أنثوية، وهي مألوفة ومحفورة بألوانها في الوعي، إذ رافقت طفولتنا في بيوتنا، تذكّرنا بأمهاتنا وجداتنا، في حين أن الجدار، الأحادي اللون، وذا الزوايا الحادة، على العكس من الدائرة، مفروضٌ وقسريّ، ولا يمكن تقبّله والتآلف معه. يطرح العمل مرة أخرى، وباختزال، وتضادٍّ بصري، العلاقات الشائكة بين مفاهيم الأنوثة والذكورية والاستعمار والسلطة.

الأطباق دائرية، أنثوية، في حين أن الجدار، الأحادي اللون، وذا الزوايا الحادة، على العكس من الدائرة، مفروضٌ وقسريّ

يحضر الجدار مرة، ولكن هو ذاته، أي الموجود على الأرض، كخلفية لعمل يصور الصحافية هناء محاميد بعد أن أصيبت بقنبلة صوتية في وجهها خلال تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال لبلدة العيسوية في القدس. الوجه مغطى بشاش طبي، وفي الخلفية بقايا زخرفة، في حين تظهر سمكة رسمت مقلوبة في أعلى اللوحة، في وسط من اللون الأحمر. العمل هو بورتريه للمرأة الفلسطينية، المُهشّمة بين كمّاشتيّ سلطتين، الاحتلال والذكورية، إنها كسمكة قلبت على ظهرها فلم تعد تستطع السباحة، أي لم تعد تستطع الحياة والسير فيها، تعيشُ موتَها حيّة، وسط ممارسات العنف النفسي والجسدي اليومية.

عمل يصور الصحافية هناء محاميد بعد أن أصيبت بقنبلة صوتية في وجهها خلال تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال لبلدة العيسوية في القدس

إن العلاقة التي تحكم الفلسطيني بالاحتلال، هي ذاتها العلاقة التي تحكم المرأة بالصور النمطية والذكورية، كلاهما يعانيان محاولات التهميش والنفي والقتل الجسدي والمعنوي من قبل من يمتلكون السيطرة. هنا تطرح الفنانة الذكورية بمختلف تمثلاتها كسلطة تمارس العنف والسيطرة تجاه آخر مختلف؛ ففي الحالة الفلسطينية الآخر المختلف بالنسبة للاستعمار هو الفلسطيني غير المرغوب فيها، المراد نفي وجوده الجسدي والهوياتي، وفي الحالة النسوية، الآخر هو المرأة، الجسد المختلف، والضعيف نسبة الى جسد الرجل، والمحاط بالأسئلة حوله، والمخاوف من مفاتنه وعلى "شرفه"، والرغبة في السيطرة عليه وامتلاكه.

(نسرين أبو بكر)                                                                                                                                                                                                

أخيرًا، عالم نسرين أبو بكر الفني هو المعادل البصري لعالم المرأة الظاهري والداخلي، فالقماش والخيوط، والأدوات المنزلية والصحون الملونة، والزخارف، والجسد الأنثوى المصور، كلها عناصر تحيل إلى عالم نسوي، غير أن الطبقات الداخلية لهذا العالم تنفتح على ألمٍ وصلت حدته إلى مرحلة الموت العميق، هذا الموت هو نتاج التشوه المحيط بالصورة حول المرأة، ونتاج محاولات الاغتيال الجسدي والنفسي. وفي حين كانت بعض النساء ضحايا لجرائم العنف بدواعي "الشرف"، أو غيره، فإن الغالبية العظمى منهن يعانين من اغتيال نفسي يوميّ، عبر السيطرة والنفي المستمر لوجودهن، ما تركهنّ ميتاتٍ على هامش الحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.