}

في يوم المسرح العالميّ.. هل ما نزالُ محكومين بالأمل؟

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 27 مارس 2021
مسرح في يوم المسرح العالميّ.. هل ما نزالُ محكومين بالأمل؟
المسرح خشبة وجمهور وممثلون

في واحدةٍ من رواياته السّاحرة، يقولُ الروائيّ الكولومبيّ، غابرييل غارسيا ماركيز، (1927 ـ 2014): "لقد انتهى كلُّ شيء.. وبقي ذلك الأسى الغريبُ، الذي لا يعرفُه سوى كنّاسو المسرح بعد خروج آخر المُمثلين".
صورةٌ محمّلة بالدّلالات، من دون أن يغيب عن واحدٍ من تلك الدّلالات الحزنُ الذي يشلعُ الرّوح.

سعدالله ونوس (1941 ـ 1997)


حزنٌ رأى المسرحيّ السوريّ سعد الله ونّوس (1941 ـ 1997)، أن لا يجعلهُ آخر عهده بالحياة، حينما أتاح لهُ العالم الذي قدّر ما قدّمه لهُ من معنى، ومن حياةٍ، ومن أعمالٍ مسرحيةٍ خالدة، أن يكون في عام 1996 (وقد اشتدّ عليه المرضُ العُضال)، صاحب الرّسالة السّنوية في يوم المسرح العالميّ World Theatre Day. يومها، ختم ونّوس رسالته البليغة المؤثّرة، بصرخته الباقية: "إننا محكومون بالأمل. وما يحدثُ اليوم لا يمكنُ أن يكون نهاية التّاريخ".
ونّوس صاحب مسرحية "حفلةُ سمرٍ من أجل 5 حزيران" (1968)، استهلّ رسالته لمسرحيي العالم بالقول: "لو جرت العادةُ على أن يكون للاحتفالُ بيوم المسرح العالميّ، عنوانًا وثيق الصّلة بالحاجات، التي يلبّيها المسرح، ولو على المستوى الرمزيّ، لاخترتُ لاحتفالنا اليوم عُنوان: "الجوعُ إلى الحوار". حوارٌ متعدّدٌ، مركّبٌ وشامل. حوارٌ بين الأفراد، وحوارٌ بين الجماعات. ومن البديهيّ أنّ هذا الحوار يقتضي تعميم الدّيمقراطية، واحترام التعدديّة، وكبح النزعة العُدوانية عند الأفراد والأُمم على السّواء".

حوارٌ بات المسرحيون على وجه الخصوص، والمشتغلون في الفنّ والأدب والإبداع، على وجه العُموم، في أمسّ الحاجة لإقامته وسط تغوّل الجائحة، وتلبّد غيوم غدٍ، فإذا هُم أمام مستقبلٍ مجهولٍ لممكنات الفنّ، ولفرص إسهامٍ فعّال، من لدُنه، في مواجهة تلك الجائحة، والإدلاء بدلوهم، في خضمّ سعي العالم للنجاة والخلاص منه.
فإذا كان الأطباءُ والممرضاتُ والممرضون هم الجيشُ الأبيضُ الذي يقدّم الشهداء للحدّ من شراهة الوباء، فإن الفنانين، يفترضُ أنهم، الجيشُ متعددُ الألوان، المشعُ بالبهاء، المعانقُ قوسّ قزحٍ في طرح الفرح، بوصفه بديلًا عن الأسى، والتمسّك بالأمل بوصفه عنوان بُكرا.



ديمومةُ المسرح
في ظلّ ما تقدّم، وفي ظلّ القلق المشاع الذي ينتابُ الكوكب، هل ما يزالُ (أبو الفنون) قادرًا على التجدُّد، وفرض فُرص وجوده، وحفره العميق في أسئلة الحياة والكون والخير والشّر؟ وهل يحتاجُ، من أجل مزيدٍ من ضخّ دماء البقاء في عروقه، إلى إدخال فنونٍ أُخرى فوق المنصّة، مثل شاشة العرض، والرقص الأدائيّ، والرسم، وما إلى ذلك؟
المخرجُ الأردنيُّ باسم عوض يرى أنّه قادرٌ وبامتياز، قائلًا "إن المسرح رسالةُ حياةٍ، كائنٌ حيٌّ ومتطوٌّر من بدء البشرية، وحتّى يومنا هذا. وهو لم يكُن يومًا قالبًا جامدًا، بل حيًّا مُتفاعلًا مع محيطه، متطورًا ومستوعبًا لأدوات التطوّر المحيطة به".
عوض يرى أن المسرح، ولكونه (أبو الفنون)، يحتوي على الفنون جميعها البصرية منها والأدائيّة، ما يمنحه "ميزة أن يكون متغيّرًا بحسب ما يطرأُ من تغيراتٍ على هذه الفنون، وعلى ثقافة المجتمعات التي ينشأُ فيها".
يقول عوض: "في كلّ مرحلةٍ من مراحل تطوره وتطور الحياة حوله، كان يظهرُ من يراهنُ على موت المسرح. أحيانًا، كانت المُراهنة على موت واحدٍ من عناصره، كأن يُقال مات المؤلفُ، أو مات المُخرج. وأحيانًا أُخرى، كان يتمّ مقارنةُ المسرح بغيره من الفنون الجماهيرية التي تستخدمُ التكنولوجيا الحديثة، مثل السّينما والتلفزيون، فيجري القولُ إنّ المسرح لن يكون لهُ مكانٌ في ظلّ طُغيان السّينما والدّراما التلفزيونية التي غزت كلّ بيت. ورغم أنّ لهذه المقولات ما يبرّرها في ظلّ انتشار هذه الفُنون واكتساحها العالم، حيث عشرات آلاف دور السّينما ومليارات أجهزة التّلفاز، إلّا أنّ الزّمن أثبت أنّ المسرح باقٍ بقاء الحياة".
في سياق توضيحه رأيه هذا، يقول عوض إن المسرح "وُجد لينتصر للحياة وإرادتها، ولذلك لم يُطلق عليه (أبو الفنون) عبثًا، بل هُو انتزع هذه المكانة عن جدارةٍ واستحقاقٍ، كونه أساس كلّ فنٍّ وجامع كلّ الفُنون".

عوض الذي أخرج العديد من الأعمال المسرحيّة، وعمل في حقل المسرح المدرسيّ، ويعملُ حاليًّا في إدارة الفعل المسرحيّ في وزارة التربيّة والتعليم، يختمُ مداخلته بالقول: "والآن، ورُغم ما نُعانيه من الجائحة، ورُغم ثقلها على المسرح والمسرحيين في كلّ العالم، إلّا أنّ المسرحيين لا يزالون يبعثون برسائل الفرح، ويمُدّون العالم بالأمل، معلنين أنّنا سننتصر على هذه الجائحة، بمحبّتنا لبعضنا. كما أودُّ أن أقول إننا مهما ابتعدنا فلا بدّ أن نتقارب، وإنّ خشبات المسرح ستبقى مُلتقى كلّ الباحثين عن السّعادة، وسيبقى الجمهورُ مُلتصقًا بهذه الخشبات، ومُقدّرًا لهؤلاء المبدعين الذين لن يتوقّفوا يومًا عن مدّ جسور التّواصل بين شعوب العالم، لتحيا الثقافةُ والإنسانيةُ والمحبةُ، ويحيا المسرح".



أبويةٌ مُلتبسةٌ..

جورج أبيض (1880 ـ 1959)


مقابل وضوح أبويّة المسرح لباقي الفنون عند عوض، فإنها في رأي الموسيقيّ والأكاديميّ الأردنيّ، د. محمد واصف، "أبويةٌ مُلتبسةٌ".
"أبٌ يعني أسرةٌ/ عائلة، فهل بهذا المعنى، تكونُ الموسيقى، على سبيل المثال، أمّ الفُنون، ويكونُ الرقصُ والرسمُ والنحتُ والغناءُ أولادهما وبناتهما؟".
واصف يرى أنّ المسرح عند الإغريق ارتبط بالموسيقى، وهم، بحسبه، أوّل من انتبه إلى عدم إمكانية فصل المسرح، "وبالتالي الدّراما على وجه العُموم"، عن الموسيقى. وهو يذكّرُ هًنا بمقولة لأفلاطون مفادُها أنّ الموسيقى أهمّ من النحو ومن الحساب.
ويقول إن "العلاقة بين المسرح والموسيقى ظلّت، على مدى القرون، ومتوالية الحضارات، وطيدةً". حتى عند العرب، فإنّ أُولى إرهاصات المسرح انبثقت، كما يرى واصف، من سوق عُكاظ، حيث "ساحاتٌ لإنشاد الشّعر، وحيثُ درج القول: أنشد شعرًا، وليس نظم شعرًا".
سوق عكاظ كان، بحسب واصف، مهرجانًا من المشاهد المسرحية المتسابقة على نيل رضى جمهور هذا المهرجان. "هُناك، وعندما يعتلي الشاعرُ منصّة الإلقاء، فإنّ المسرح يسري مباشرةً في عروق المكان. وبالتالي، فإن الشاعر الذي لا يُجيدُ الإلقاء، أو لا يملكُ صوتًا جميلًا، أو عميقًا، أو مؤثّرًا، كان يستأجرُ من يُلقي له شعره. فها هو الأعشى يصطحبُ معهُ إلى سوق عُكاظ غلامًا يُلقي شعره، ويجنّبه الإحراج المتعلّق بقبح صوته، وركاكة أدائه. أليست كلُّ هذه التفاصيل، تفاصيل مسرحيةٍ بامتياز؟"، يسألُ واصف.

أبويّةُ المسرح تعرّضت في العصور الوسطى، بحسب واصف، إلى مدٍّ وجزر. وبعد تحرّر الفنون من سُلطة الكاتدرائيات "صرنا نقول نحن الآن في عصر النّهضة. إنّه العصرُ الذي تفجّرت فيه الفُنون ينابيع من المعنى والجمال. فانطلق عصرُ الأوبرا، حيث المشاهدُ المسرحيةُ فعلًا مرافقًا للموسيقى، وهُو ما ظلّ عليه الأمرُ حتى القرن التاسع عشر، عندما أصبحت الموسيقى هي الثانويّة والخادمة للمشاهد، المُفسّرة لها، والمسرحُ ببعده الدّراميّ هو الأساس".
واصف يرى أنّ سطوع عصر الرّومانسية، أسهم بشكلٍ كبيرٍ بأن يحتلّ الكلامُ (النصّ المنطوق) واجهة المشهد، وتتراجعُ الجُملةُ اللحنيةُ الموسيقيةُ فـ"العاطفةُ تتأجّجُ في الكلمات لا في السُلّم الموسيقيّ".



مسرحُ الخشبة..

مارون نقاش (1817 ـ 1855)


على وقع دقّاتٍ ثلاث، ظلّ (أبو الفنون) يعاينُ وقع طروحات الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس ‏(384 ق.م ـ 322 ق.م) حول الوحدات الثّلاث التي‮ ‬حدّدها في‮ ‬كتابه "فنُّ الشعر"،‮ وهذه الوحدات هي: وحدةُ الموضوع، ووحدةُ الزّمان، ووحدة المّكان.
المكانُ ظلّ على مرّ الأزمان هو الخشبةُ/ المنصّةُ/ العُلبةُ الإيطاليةُ التي يقفُ الممثلون فوقها. صحيحٌ أن كثيرًا من المخرجين تمرّدوا على هذه الخشبة/ العُلبة (أو الرُّكحة/ الرُّكح بحسب المصطلح المغاربيّ)، فذهب بعضُهم نحو خيار مسرح الشارع، وآخرون أطلقوا على تجاربهم وفرقهم عنوان "مسرحُ الستين كرسي"، وهناك المسرحُ الشعبيّ (المخرجُ الفلسطينيُّ فتحي عبدالرحمن نموذجًا)، وهُو في دوره نوعٌ مسرحيٌّ سعى للانعتاق من قيود العلبة، ومن قانون أرسطو، وهناك المسرحُ التفاعليّ الممكنُ إقامته في أيّ مدرسةٍ، أو قريةٍ، أو زاويةٍ من زوايا الطّريق، وعلى شاكلة كلّ ما تقدّم "مسرحُ المضطهدين"، الذي وضع أدبيّاته، ذات تمرّدٍ، المسرحيُّ البرازيليّ أوغستو بوال (1931 ـ 2009)، إلا أنّ الخشبة ظلّت، رغم كلّ هذا وذاك، هي الأساسُ، حيثُ عناصرٌ ثلاثةٌ تتجلّى هناك: نصٌّ وممثلٌ وجُمهور.
فإن فرضت علينا الجائحةُ تقديم عروضٍ مسرحيةٍ افتراضيةٍ، هل يبقى من المسرح، عندها، شيءٌ؟
إجابةُ المخرج الأردنيّ، محمد الضمور، تقولُ إنّه لا يبقى، عندها، من المسرح شيءٌ. أو، بأقلّه "يفقدُ المسرحُ روحه من دون أن يفقد هوّيته، فهو يظلُّ، في نهاية المطاف، عرضًا مسرحيًّا، ولكنّه، عرضٌ بلا روحٍ، لأننا تعلّمنا أن المسرح من عناصرٍ ثلاثة: نصٌّ، وممثلٌ، وجمهور. وبغياب العنصر الثالث، بغياب تفاعل الجُمهور، وبغياب إحساس الممثل بوجود هذا العنصر، وشعوره أنّه يمثّل للكاميرا، وليس لأناسٍ من لحمٍ ودم، تبهتُ شعلةُ المسرح، وتصبحُ الخشبةُ يتيمةً تبكي غيّابها".

وهُو ما يوافقُه فيه محمد واصف، الذي يقول "إذا تحوّل المسرحُ إلى الشاشات، فقد روحه. روحُ المسرح التواصلُ Communication، وليس الاتّصال Connection".
وفي حسٍّ شاعريٍّ، يقول واصف: "إن الجمهور يكادُ يشعرُ بحرارة بُقعة الإضاءة فوق الممثل، يسمعُ نبض قلبه، ويستشعرُ أنّات السينوغرافيا"، ثم يختمُ بالقول إن "المسرح باقٍ في كلّ الألفيات والأزمان، هُناك حيثُ صدقُ الخشبة، ودفءُ الصالات، بعيدًا عن صخب (الميديا)، وإيقاعها الخالي من الرُّوح".



ريادةٌ ورفادةٌ..
انطلاقًا من اللبنانيّ/ الشآميّ مارون النقّاش (1817 ـ 1855)، الذي رُغم سنيّ عمره القليلة (رحل في عمر الثامنة والثلاثين)، إلا أنّه حاول واجتهد، وقدّم أعمالًا مترجمةً (مسرحةُ رواية "البخيل" للفرنسي موليير (1622 ـ 1673))، وأخرى أصيلةً (رواية "هارون الرشيد" المعروفة باسم "أبي الحسن المغفّل"). مرورًا بالسوريّ، أبو خليل القبّاني (1833 ـ 1903)، الذي جال لعيون المسرح وصال، وحطّت آمالُه في مصر زمنًا، وفي بلده أزمانًا، ولم ينس العلاقة السرمديّة بين المسرح والموسيقى والغناء، فوشّح أعماله بالمقامات، ووزن أحلامه بميزان الذهب، ورفادة المسرّات، فإن قضيّة ريادة المسرح العربيّ، تظلُّ من القضايا التي تدخلُ فيها الغايات، من دون أن ننسى إسهامات اللبنانيّ جورج أبيض (1880 ـ 1959)، والمصريين: توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، ويوسف وهبي (1898 ـ 1982)، وألفريد فرج (1929 ـ 2005)، وكذا إسهاماتُ الشاعر أحمد شوقي (1870 ـ 1932) في مدّ المسرح العربيّ بنصوصٍ مسرحيةٍ شعرية. والعراقيين حقّي الشبلي (1913 ـ 1985)، وسامي عبد الحميد (1928 ـ 2019)، وبدري حسون فريد (1927 ـ 2017)، وصولًا إلى الإسهام التونسيّ المجيد الذي جعل المسرح العربيّ حقيقةً تدوّي فوق المنصّات. وفيه (أي المسرح التونسيّ)، قاماتٌ كثيرة: المنصف السويسي (1944 ـ 2016)، وتوفيق الجبالي (1944)، والفاضل الجزيري (1948)، وعز الدين مدني (1938)، وعز الدين قنّون (1955 ـ 2015)، ورجاء بن عمّار (..... ـ 2017)، وقبلهم جميعهم، الشيخ إبراهيم الأكودي (1890 ـ 1942) أحدُ روّاد المسرح التونسيّ في إرهاصاته الخجولة الأُولى. وأردنيًّا، فإنّ بعض أعمال روكس بن زائد العزيزي (1903 ـ 2004) تعدُّ تباشير أُولى لولادة مسرحٍ أردنيّ، إلى أن كرّس هاني صنوبر (1934 ـ 2000) هذا المسرح بوصفه مدماكًا عربيًّا مهمًّا. فلسطينيًّا، يطلعُ اسمُ فرانسوا أبو سالم (1951 ـ 2011). قطريًّا، يتجلّى حمد الرميحي (1953)، بوصفه اسمًا مسرحيًّا عربيًّا ناضجًا، وفي القائمة القطرية غانم السليطي، ومن المؤسسين: سيار الكواري، وحسن إبراهيم، وصلاح درويش، وغيرهم، علمًا أنّ مفردة (غيرهم) ينبغي وضعها بعد كلّ قائمة، فهناك مصريون غيرُ الذين ذكرناهُم، وكذلك عراقيون، وسوريون، وتونسيون، وهكذا دواليك، من دون أن ننسى، على الصعيد اللبنانيّ، دور الرحابنة في التأسيس لمسرحٍ ذي نكهةٍ خاصّة، بدءًا بعاصي، وليس انتهاءً بزياد. كما أنّ المسرح الذي أشعل الشاعرُ السوريُّ، محمد الماغوط (1934 ـ 2006) شعلته في دمشق، وصولًا إلى مختلف العواصم العربيّة، شكّل منعطفًا في المسرح السياسيّ (أو ما أطلق عليه بعضُ النّقاد مصطلح الكباريه السياسيّ)، علمًا أنّ الفنان السوريّ دريد لحّام غطّى، بطريقة تقديمه لنفسه، وحرصه على شهرته الشخصيّة، على دور الماغوط في الأعمال التي اشتهرت وانتشرت عربيًّا مثل: "ضيعة تشرين"، و"غربة"، و"كاسك يا وطن"، وغيرها. وهُو ما فعلهُ، كذلك، مع رفيق دربه الفنّان نهاد قلعي (1938 ـ 1993).
هذا غيضٌ من فيض الريادة المسرحيّة العربيّة، وما ارتوت خلاله مسارحُ عواصمنا من رفادةٍ وسقايةٍ، ومساعٍ حثيثةٍ دؤوبةٍ لكي يحتلّ المسرحُ العربيُّ مكانةً لائقةً في قائمة المسرح العالميّ الذي ينيرُ شعلةً كان أوقدها، قبل زُهاء 2500 عامٍ، بتراجيدياته وصرخاته الخالدة، المسرحيّ اليونانيّ إسخيلوس (525 ق.م ـ 456 ق.م.).
فإذا كان الرسمُ تجسيدًا للجمال، فإن المسرح هُو، كما يرى الكاتبُ السعوديُّ، إبراهيم البليهي، تجسيدٌ للأفكار، وهما معًا (المسرحُ والرّسم) من "أعمق الوسائل فاعليةً في التثقيف والتنوير".



قفلةٌ من وحي المسرح..
شهورٌ طويلةٌ متواليةٌ مضت، ولم يزر عمّالُ المسرح مسرحهم، الشوقُ أضناهم، حتى تلك الأعمال التي كانوا يمقتونها، كأن ينظّفوا ما تركه الجمهورُ وراءهم، باتت مقبولةً من طرفهم، وسيقومون بها بكلّ حُبٍّ، فقط، لو يحنُّ المسرحُ عليهم، ويفتحُ أبوابه لهُم، ويُناديهم. ليس هُو الذي يُناديهم، بل دقّاته الثلاث، لتُفتح السّتارةُ، وإذا بالفرنسيّ الوجوديّ المشاكس، جان بول سارتر (1905 ـ 1980) يبوحُ بمونولوجه الطويل الأليم: "نحنُ أولئك الممثلونُ الذين دُفع بنا إلى المسرح من دون إعطائنا دورًا محددًا، ومن دون مخطوطةٍ في اليد، ولا ملقّنٍ لنا بما علينا أن نفعل. ‏إنّ علينا وحدنا، بالتّالي، أن نختار كيف نعيشُ حياتنا".
فإذا بسعد الله ونّوس يردُّ عليه بالصّفاء الذي ودّع العالم وهو يحضنُ ضفافه: "إنّ المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنّه ظاهرةٌ حضاريةٌ مركّبةٌ، سيزدادُ العالمُ وحشةً وقبحًا وفقرًا، لو أضاعها وافتقر إليها. ومهما بدا الحصارُ شديدًا، والواقع مُحبطًا، فإنّي متيقّنٌ أنّ تضافر الإرادات الطيّبة، على مستوى العالم، سيحمي الثّقافة، ويعيدُ للمسرح ألقهُ ومكانته".
هي عودةٌ قدريّة، إذًا، للأمل، وللتمسّك النهائيّ به. ولعلّ أول إشارات تحقّقه، أن ونّوس رحل في 15 أيّار/ مايو، كما لو أنّه يتنبّأُ أنّ ما يرتبطُ بهذا التاريخ من أسى ونكبةٍ وضياع أرضٍ وحقوقٍ وذاكرات، لا بدّ أن يمضي، ذات أملٍ، بلا عودةٍ، ويعودُ أصحابُ الحقّ إلى حقوقهم، وبرتقال حقلهم، وشوادر شاطئهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.