}

الخصائص المتوسطية في فنون الإسكندرية

أسعد عرابي 15 أبريل 2021
تشكيل الخصائص المتوسطية في فنون الإسكندرية
(محمود سعيد)
أحببت هذه المرة أن يشاركني القارئ بمشروع كتاب منجز منذ سنوات ولم يجد بعد طريقه إلى النشر، لسببين: التقاعس من طرفي (لأسباب صحية) وتواضع حماس دار النشر الوحيدة التي عرضت ملخصه على إدارتها. سأعرض لكم فكرته التي أجدها بالغة الأهمية لمجابهة شتى ضروب العزلوية التعصبية. وذلك لأنها ترتبط بالانتماء الكوكبي ببحاره وغاباته وتقاليد سفنه وإبحاراته الشمولية شأن ابن بطوطة.

  

الشراكة الذوقية المتوسطية

هي الخصائص الفنية الشمولية التي تراكمت عبر آلاف السنين في المحترفات الفنية والتقاليد الصناعية لحواضر ومرافئ المتوسط. وذلك منذ انتشار الكتابة الفينيقية (أبجدية رأس شمرا) كأصول للكتابتين: اليونانية (أصل اللاتينية) والنبطية (واحدة من أصول العربية). ناهيك عن العلاقات العميقة بين مصر الفرعونية والحواضر الفينيقية خاصة الساحلية المتوسطية مثل بيبلوس (جبلة) وصيدون، وصور وعكا. عندما أسّس الإسكندر المقدوني مدينة مرفأ الإسكندرية عام 330 ق م أرادها منارة تبادل متوسطية بين جنوبه وشماله وبالعكس.
هو ما كرّره القائد هنيبعل الفينيقي عندما أسس مرافئ قرطاجة وسبطة وبرشلونة على البحر الأبيض المتوسط من جديد وهو في طريقه إلى روما. هناك حيث بعض من الأباطرة والمهندسين السوريين استقروا فيها، على غرار الإمبراطور فيليب العربي والمهندس أبولودور الدمشقي (تكشف وحدة الأديان التوحيدية الثلاثة جذرها السامي المشترك). وكيف تحولت "الآغورا" اليونانية إلى مخطط "الميدان" في الحواضر العربية الإسلامية قبل تناسخه حول المقاهي المزروعة على أرصفة هذا البحر المتوسط، يرتادها الصيادون وينثرون فيها شباكهم وكل ما يرتبط بحياكتها ثم تجفيفها وغيره.

غالبًا ما كانت تشيع عروض عرائس "خيال الظل" تحت اسمها المتأخر "خيمة كراكوز وعواظ". استمرت في جزيرة أرواد حتى عام 1965م. كذلك الأمر مع هجرة الآلات الوترية الموسيقية. لنتذكر ماذا حمل الصليبيون والإسبان (بعد زوال الأندلس) من مفردات عربية نقلت إلى الشمال مدلولاتها من المآكل والأزياء والصناعة النخبوية للعبة الشطرنج (التي حملها العرب من الهند). ثم انتشار الورق (الذي وصلنا من سمرقند). وانتشار المسقط المعماري لزواج الدائرة والمربع أقصد "المثمن" ضمن سلالة الفن: اليوناني ثم الروماني ثم الهلنستي فالبيزنطي فالإسلامي، واليوم تتجسد هذه الوحدة بتناغم اختيار ألوان المراكب وطرزها والعادات الصناعية والفلكلورية والأنثروبولوجية المشتركة: مثل تقاليد إعادة رتل أقمشة الألبسة وترقيعها بعد تلفها، بل إن رقع "الباليه" تدخل أساسًا في اختيارات تصميم الألبسة، وصلاحيتها للاستخدام المديد وهكذا.

(سيف وانلي)



نموذج مدرسة الإسكندرية: برزخ المتوسط

ترتبط شخصية المدينة كما أراده لها مؤسّسها: برزخًا من التمازج والمبادلات الذوقية. وبالتالي فهي النموذج المتوسطي النهضوي-التنويري في مصر. رمزها تاريخ مدرسة الإسكندرية في الفلسفة. هي التي أغلقها الامبراطور الروماني بعد إعلان المسيحية (في بداية القرن الثالث)، ثم استمر تأثير أتباعها على اللاهوت المسيحي السوري، وفي اجتهادات التأويل الإسلامي مثل الأفلاطونية المحدثة في القرن التاسع للميلاد.
ثم أصبحت الإسكندرية منذ نهاية القرن التاسع عشر "كوزموبوليتية"، تجذب الوافدين من يونان وأرمن، شوام ولبنانيين، فرنسيين وإنكليز وغيرهم، عامرة بالدور الثقافية المنعشة لهذه اللغات، وحاشدة بالمراسم الحرة. هي التي درس فيها أغلب أعضاء الكوكبة الفنية قبل أن يتابعوا تحصيلهم الفني في روما أو باريس أو مدريد وغيرها. تأسست فيها "جمعية هواة الفنون" عام 1929م ثم "الأتولييه" عام 1934م قبل إنشاء المتحف عام 1954م وكلية الفنون عام 1957م وبينالي الإسكندرية عام 1955م الخاص بفنائي حوض المتوسط.
تبدو حالة الفنانة مرجريت نخلة (الإسكندرانية من أصل فرنسي) مثالًا نموذجيًا حيًا على هذا التراوح المتوازن بين فنون الجنوب والشمال المتوسطية ما بين باريس والإسكندرية، ابتداءً من الموضوعات وانتهاءً بالخصائص التشكيلية.



رواد الجالية الفنية في مدرسة الإسكندرية

يبتدئ تطبيق منهج علم الجمال المقارن لإثبات وحدة التنوع في المختبرات التشكيلية في كوكبة المدينة من دراسة لوحة محمد ناجي "مدرسة الإسكندرية" (نظيرة لوحة رافائيل مدرسة أثينا)، جمع فيها رموزًا إسكندرانية، مؤسسًا لروح أدائية جديدة تتمثل في الحفاظ على طزاجة الرسم السريع ثم اعتماد المنظور العمودي. أما الأخوان سيف وأدهم وانلي فقد ارتشفا في خصوبة مقاماتهما اللونية الخصائص الضوئية الجغرافية المتوسطية (في ذاكرة السيراميك والزجاج المعشق) ناهيك عن موضوعاتهما اللصيقة بصخب المسافرين والنازحين والعابرين والمرتحلين، من راقصي السيرك إلى الموسيقيين والفرق الجوالة والتروبادور (العزف على قارعة الطريق) وغيرها. ناهيك عن بيئة الشطآن والصيادين ومراكبهم والسابحات الملفحات بسمرة الشمس والبرونز. يحضر هنا التأثير العميق للمعلم حامد ندا الوافد من القاهرة للتدريس في كلية الفنون منذ تأسيسها. ينخرط في عوالم المدينة فيستعيد لهيب نفس موضوعاتها الميثولوجية ويترك بصماته على أساليب أبرز أسماء الجيل التالي مثل سعيد العدوي ورباب النمر. تتحالف عفت ناجي مع إشاراته المنتزعة من المخيلة الشعبية فتعطي ملصقاتها الشجاعة صفة التجريب، خاصة لمن اتبع مطبخها ما بعد الحداثي من أمثال الداوستاشي وسيكون لهذه القرابة لون إنشائي مع فاروق وهبي النحات البارز وهندسيًا مع التجريدي الرهيف مصطفى عبد المعطي.



(سعيد العدوي)


أما العملاق محمود سعيد فيحتاج إلى دراسة مستقلة حتى نعطيه حقه من التأثير والأصالة، يمثل القلب المشع لعائلة هذه الكوكبة. تتطابق تجربته بصورة أمينة مع خصائص محترف المدينة لدرجة لا يمكننا أن نفرق في لوحاته بين عرائسه السمراء ذات العينين الزرقاوين وترميز بنات ساحلها عن فتنة الإسكندرية وشهرة حسناواتها، بحسيتها وشمسها الحارقة وليلها السري الملغز المزروع بلآلئ القبة السماوية وصخب أمواجها المتعالية، حولها معلمنا إلى جزيرة سعيدة طوباوية مستثمرًا تراث تصاوير التقاليد الفرعونية، بصياغة تكعيبية وبناء معماري ورثه من جديد سعيد العدوي وبعض النحاتين.
اختص محمود سعيد إذًا بالعالم المائي لشواطئ الإسكندرية وما يحاك حولها من أوشحة تخيلية ميثولوجية، ما بين حكايا الصيادين وأقاصيص الملايا اللف والخمار المشبك، وخشخشات بائع العرقسوس وأجراس الدواب والحمير وأحصنة عربات السياحة (الحنطور)، تكاد خصائص المدينة وحساسية فنانيها تدور في فلكه التشكيلي وقوة شخصيته الأسلوبية.

(حامد عويس)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.