}

الانعتاقُ مِن الجَسَد.. فيلمُ "ألوانُ السّما السبعة" نموذجًا

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 3 أبريل 2021
سينما الانعتاقُ مِن الجَسَد.. فيلمُ "ألوانُ السّما السبعة" نموذجًا
ملصق فيلم "ألوان السما السبعة"

ببساطةٍ أخّاذة، يطرحُ الفيلمُ المصريُّ "ألوان السّما السبعة" (2007)، لمخرِجِهِ سعد هنداوي، عن قصةٍ وسيناريو وحوارٍ، زينب عزيز، قضيةً جديدةً على السّينما العربيةِ.
فالفيلمُ الذي لم ينلْ، رُغمَ حصوله على بعضِ الجوائزِ، حقّه من الإنْصاف، ولا أزالُ رغم مرورِ 14 عامَا على إنتاجِه، أستمتعُ كلّما عدتُ إلى مشاهدتهِ. يعرضُ الفيلم عبرَ صورةٍ مريحةٍ في معظمِ مشاهدِه، ومُبْهرةٍ في بعضِها، سرديةً مفادَها أنّ انتهاكَ الجسدِ، وعرضَه للمقايضةِ (هاتِ مالًا وخذْ استباحةً) ليس حِكْرًا على النّساءِ، مِن بائعاتِ الهَوى، فقَط، فقد يقبَلُ رجلٌ، وفقَ مواضعاتٍ بعينِها، أن يقومَ بالأمرِ نفسِه.
راقص التنّورة بكر، فاروق الفيشاوي (1952ـ 2019)، وفي لحظةٍ فارقةٍ من حياتِه الشخصيةِ المُتعثّرة، وفي مسيرتِه المهنيةِ العامرةِ بالنجاحات والإنجازات والسفرِ مع فرقِته، يقدّمون عروضَ التنّورة في مختلفِ جهاتِ الأرْض، يكتشف أنّه يبيعُ جسدَه، ويتواطأُ مع نزعاتِه، ويغضُّ النّظرَ، مدفوعًا بأحلامِ الشُّهرةِ، عن نظراتِ الرّغبة والاشتهاء التي تمطرُه بِها بعضُ حضورِ عروضِه من النّساء، خصوصًا الكبيراتُ نسبيًّا في العُمرِ منهنّ. حيث لا يتوقّف الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل يصلُ، وهُو ما يحدثُ كثيرًا، إلى دعوتهنّ له للفِراش مقابلَ هدايا (ذهبٌ وساعاتُ يدٍ وعطورٌ، وما إلى ذلك). متغاضيًا عن الوصفِ الحقيقيّ لهذا النّوعِ مِن الممارساتِ، ينجرفُ بكرُ، حتى وصولِه إلى تلكَ اللحظةِ الفارِقة، نحو أقاصي الأمرِ، منتشيًا بِما حقّقه من مجدٍ بسببِ إتقانِه رقصَ التنّورة، وبسببِ ما حقّقته فرقتُه من شهرةٍ، وجنتْه من مالٍ.
لمْ تكُن اللحظةُ الفارِقة عندَه فقط، بل كانت تلك اللحظةُ هي ذروةَ أحداثِ الفيلمِ، ومنعطَفه الفاصلِ. إنها لحظةُ الحقيقةِ التي واجهتْ بِها صباح (ليلى علوي) حقيقَتها هي الأُخرى، وسَرَت في أعماقِها قشعريرةُ اشمئزازٍ جارفٍ نحوَ جسدِها، ومجملِ ما كانَ من الحياةِ مَعها، وما كان مِنها مع الحياة.

لنْ أخوضَ، هُنا، في تفاصيلِ الشريط الذي منحَ الفنان حسن مصطفى (1933 ـ 2015) في دورِ امبابي، ظهورًا مفعمًا بالشّجن، لائقًا بمكانتِه ومسيرتِه، تارِكًا تلك التفاصيل لِمن يرغب بمشاهدَتَه، منتقلًا نحو عمقِ الدّلالة المتواريةِ خلفَ تلكَ الفكرةِ العميقةِ التي تناولَها نصُّ الفيلم، طارِقًا أبوابَ جوهرِ الوجودِ، وعالَجها مخرجُه بذكاءٍ لمّاحٍ، وعمقٍ فلسفيٍّ ناضِج.
جدليةُ الجسدِ/ الرّوح تحتلّ مساحةً وارِفةَ الظّلال داخل أحداثِ الفيلم ومشهدياتِه، فمنذُ مشهدِه الأول في شارةِ البِدايةِ، وقبلَ، حتّى، عرضِ أسماءِ ممثليهِ وطاقِمه، تظهرُ على الشاشةِ عِبارةٌ تقول: "لقد سَما الجسدُ الترابيُّ من العِشقِ حتى الأفْلاك، وحتّى الجبلُ بَدَأَ في الرّقصِ وخَفَّ"، وإلى جِوارِ تلكَ العِبارةِ الصّوفية المفعمةِ بالمعْنى، صورةٌ ثابتةٌ لِراقصِ تنّورةٍ بزيّه الأبيضِ، وامتدادِ يديهِ، وميلانِ رأسِه، وخفّة جسدِه.
تبدأ الصورةُ الثابتةُ للراقصِ بالتحرّك/ التقدّم أقربَ نحوَ مقدّمة الشاشة/ المشهد، حركةٌ مونتاجيةٌ مترافقةٌ مع موسيقى تامر كروان. حركةٌ مع دورانٍ متقنِ الإخْراج، يُشعِر المتلقّي أن هذه الرقصةَ تجْري في السّماء وليسَ على الأرضِ، تعانقَ سبحَ الغيومِ في مرافئِ السّديم، تتوشّح بألوانِ قوسِ قُزح، تحليقٌ يسلّم المشهدَ لِصباح (اسمها الحقيقيّ، وحنان اسمُها الذي اختارتْه، بعدما سلّمت أمرها لامرأةٍ قادتها نحوَ دروبِ بيعِ الجسَد). تسليمٌ لا يخْلو من المعنى، فهيَ وصلتْ لحظةَ إنكارِ هذا الجسدِ، الذي، وإنْ كانَ منحَها بعضَ المالِ، وصولًا لإمكانيةِ استقلالِها ببيتٍ لها وحدَها بعيدًا عن أمّها (عواطف حلمي)، وشقيقها عماد (عمرو ممدوح)، وشراءِ سيّارة، والإنفاقِ على أسرتِها بعيدًا عن ضغطِ الإقامةِ معهم، إلا أنّه، هذا الجسدُ، حرمَها من احترامِ نفسِها، ومِن النظرِ بعينِ الرّضى نحوَه ونحوَ تفاصيلِه. ربّما هذا ما دفعها إلى حضورِ عرضِ التنّورة الرمضانيّ بشكلٍ يوميّ. هناك في أحياءِ القاهرةِ الشعبيّة، حيثُ يُقيمُ بكر وفرقته عروضَهم، وحيثُ أجواءُ رمضانِ حارّةٌ وصاخبةٌ، التقطتْ صباح/ حنان لحظةً تلتقطُ فيها أنفاسَها، تنسى قليلًا من تكون. لحظةٌ تحلّق فيها حتى أَعالي سماءِ الانعتاقِ من الجسدِ وآثامِه، والتصاقِ حضورِه بشهوانيةٍ خاليةٍ من الرّوح والمعْنى.

موسيقى الكمنجاتِ الصادِحاتِ، مع تدخلاتٍ عميقةٍ من آلات النفخِ النحاسيةِ والشرقيّة، ثمّ توشّح كلّ هذا بصوتٍ آتٍ من بعيدٍ: "تجلّيتَ في الأشْياء.. تجلّيتَ يا الله.. يااااااا الله".
على وقعِ هذا النّداء السرمديّ، تنتهي الشّارةُ، وتبدأُ أحداثُ الفيلم، فهل أوضحُ من هكذا رِسالةً لِيقولَ سعد هنداوي لَنا، أنّنا أمام وجبةٍ دسمةٍ من شعاعِ الرّوح، ومن توقّع حدوتةٍ مختلفةٍ عن السياقِ العام للدّراما المصريةِ في الفتْرةِ التي أُنتجَ فيها "ألوانُ السّما السّبعة"؟
تحتلّ رقصاتُ التنّورة مساحةً مهمّة داخلَ مشهدياتِ الفيلم، وهي مساحةٌ منطقيةٌ قياسًا مع رسائِله، ونظرًا للسرديّة التي يودّ بلوغَها وإبلاغَنا بِها. وهي مساحةٌ فاضَ عليها المخرجُ بالإتقانِ والتزيينِ، وتركَها تختالُ بحيويّةٍ فذّةٍ مترافقةٍ مع ابتهالاتٍ وذكرٍ وترَاتيل: "على عيني على عيني.. غيابَك على عيني.. على عيني على عيني.. قطعني يا نور عيني". بعد هذا المدخَل، يدخُل بكر الراقص الرئيسيُّ في الفرقة، وفي يدِهِ الدفوف، وحولَه الراقصونَ والعازِفون، ومع دخولِه يهدرُ الغِناءُ مرّة أخرى: "الله.. الله.. يا رسول الله.. نظرة لله"، و"شيخ العرب يابا يا بدوي.. باب النبي علّي يا سيّد.. ثباتي يا الله.. يا رسول الله.. مدد مدد يابا يا بدوي"، ومع "باب النّبي علّي يا سيّد"، يطيّر الراقصُ المحلّق تنورَته عاليًا مغطيةً وجهَه، تغيبُ تفاصيلُه داخلَ دائرةِ التنّورة، تكتملُ الدائرةُ ويصبحُ المطلقُ أقربُ إليهِ من حبلِ الوَريد. عندَ مقطعِ: "طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع، وَجَبَ الشكرُ علينا ما دعا لله داع"، يصلُ التبتلُّ أوجَه، يبدأ المؤدّي الدروشةَ مع مقاطعِ الغِناء، يتسارعُ إيقاعُ الرّقص: "سلامي على سيدنا النّبي.. حبيبي.. مولاي.. سيدنا الحسين.. فاطمة يا نبوية.. يا فاطمة يا فاطمة.. فين النظر ليّا.. ماما يا أم كلثوم.. سيدة عيشة.. سيدة عيشة.. عيشة يا تونسية.. فين النظرة ليّا".

ليلى علوي في لقطة من فيلم "ألوان السما السبعة" 


التطهّر الذي نالتهُ الأجسادُ في الفيلم، خصوصًا جسدي صباح (باسمها الحقيقيّ) وبكر، مرّ بعصفِ صيرورةٍ جليلةُ التجلّيات، دخلَ أتونَ التجرُبة، وشكّل البعدُ الصوفيُّ لرقصةِ التنّورة، سبيلًا ساطعًا بالنُّورِ لِهذا التطهّر.
في مشهدٍ جميلٍ من مشاهِد الفيلم، وقبل العِناق الخالي من انتهاكِ حُرمةِ الجَسَد، وعندما قدّم لها حبّة تفاح، تقول صباح لبكر: (آدم وحوّا نزلو الأرض بسبب تفاحة)، فيجيبها بكر: (إحنا بقى رح نطلع السما). ثم تقول له خلال التبتلّ الصوفيّ/ الجسديّ والعناقِ المستحيل: (بتعرف إنه إنت جواك ذهب)، يسألها: (ذهب؟)، تجيبه: (عارف أسطورة قوس قزح.. بتقول الأسطورة إنه في نهاية قوس قزح، في قدرة مليانة ذهب، الناس برّة بعد المطر، بتخرج في الشوارع ويبصّو للسّما ويتمنّوا أمنية). بكر: (يعني أنا دلوقت أقدر أتمنّى). صباح: (ساعات في أمنيات بتحقق حتى لو كانت أسطورة). بكر، بعد ارتواءِ الرّوح عبر قنطرةِ الجسد الخالي من ذاكرةِ الإثم: (تتجوزيني).

من المشاهدِ المؤثّرةِ في الفيلمِ، إلى ذلك، عندما قال بكر لابنه سعد (هاتها)، ففهم الابن مقصدَه من دون أي توضيحٍ آخر، إنها التنّورة، وقد خضعَ الأبُ أخيرًا لِرغباتِ ابنِه، وقرّرَ تعليمَه الرقص والطيرانَ في ملكوتِ الأرضِ وجِنانِ السّماء. لم يكن يريدُ لابنِه أن يتحوّل، هو الآخرُ، إلى جسدٍ مَشاع. كان ذلك قبلَ أن يقعَ في الحُبِّ، وقبلَ أن يأخذَ جسدَه في رحلةِ تطهُّرٍ عَميق.
المشهديةُ في الفيلمِ نوّعت في خياراتِها بين الكوادرِ القريبةِ القارِئةِ تعابيرَ الوُجوه وتكدّراتها وأنّاتِ أصحابِها، وبين الكوادرِ الواسعةِ المعانقةِ شغفِ الطبيعةِ بنفسِها واحتفالِها بسمائِها وأفقِها. حنونةٌ كانت كاميرا هنداوي صاحب فيلم "حالة حب" (2004)، حادبةٌ على الأحياءِ الشعبيّة، حيثُ يقطن بكر وامبابي، وباقي أبطالِ الفيلمِ من محيطِه القريب: توحيدة طليقة بكر (سوسن بدر)، سعد ابن بكر (شريف رمزي)، النّجار عناني الذي تزوّج توحيدة (أحمد راتب).
توظيفُ التنّورة ودلالاتِها، وما يرتبطُ بِها من بعدٍ صوفيٍّ، جاءَ موفّقًا في الفيلم الحائزِ في العامِ 2009، على جائزةِ أفضلِ تصويرٍ، وأفضلِ ديكورٍ، وأفضلِ ممثلةٍ في مِهرجان الإسكندريّة السينمائيّ، وعلى جوائز أخرى، اثنتان من هذه الجوائزِ من مِهرجانٍ أفريقيٍّ.
"ألوان السّما السبعة" هو تحفةُ هنداوي الذي كان من أوائلِ الفنانينَ المصريينَ الذين نَزَلوا ميدانَ التّحرير، ففي "السّفاح" (2009)، من بطولة هاني سلامة، غابتْ لمستُه الودودةُ التي مدّها بوجدٍ لِفيلمهِ الذي حلّق بِهِ في سماءِ الشّجنِ الطّالعِ من أنّاتِ الأجسادِ عندما يُساء فَهْمُ حاجاتِها، وتخضعُ لِمنطقِ السّوقِ، وتدخلُ (مولات) الاستهلاكِ، فتَهْلَك وتُهْلِك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.