}

أزمة المكان وجماليّاته في أعمال معتز نعيم

مليحة مسلماني 4 أبريل 2021
تشكيل أزمة المكان وجماليّاته في أعمال معتز نعيم
القدس بريشة الفنان معتز نعيم

تستلهم أعمال الفنان الفلسطيني، معتز نعيم، المكانَ على اتساعه وتنوعِ مشاهده، بين الطبيعة والبحر والقرية والمدينة والمخيم. وُلد الفنان ونشأ في مخيم اليرموك في سورية، وهو يقيم في غزة منذ عام 1997. وعلى مدار السنوات الماضية، قدم كثيرًا من الأعمال الفنية التي تُظهر أساليبها تأثّرًا بالمدرستين الانطباعية والتعبيرية، إضافة إلى التعبيرية التجريدية.
تدرّجات اللون، والاشتغال على المساحة بين الضوء والظل، واختزال العناصر البصرية المشكّلة للمكان المصوَّر، والاهتمام بتصوير لحظة الإحساس بالمكان والانطباعات عنه، هي عناصر الأسلوب الذي يميز أعمال معتز نعيم. إذ هو لا يعير للتفاصيل أهمية في المشهد الطبيعي الكليّ، بل يمنحه الجمالية والتكاملية عبر التدرج في اللون، وعبر تصويره بشفافية حسّية تحوّل المكان في أعماله إلى أشبه بقصيدة تشكيلية، كما يصفها الناقد عبدالله أبو راشد، إذ يقول "وكأنه بذلك يجسّ أنفاس القصيدة البصرية التشكيلية المُحببة لنفسه، والتي تقربه من الحداثة التعبيرية والتعبيرية المُلامسة لفضاء التجريد المساحي الممتدة في هيكلة عموم لوحاته وموضوعاته".



الريف الفلسطيني

"بيارات برتقال"(40*40 سم، أكريليك على قماش/ 2018) 


في لوحات تكسوها تدرجات الأخضر والبني، والأزرق السماوي، تبدو الأرض وكأنها في حوار وتناغم مع السماء، تستلهم هذه الأعمال، وتستذكرُ، المكانَ الريفي في فلسطين، بسهولها وغاباتها وجبالها وقراها، وأشجارها التي تميزها، من زيتون ونخيل وسرو، وغيرها.
لا وجود لأزمة تحيط بالمكان في أعمال الفنان التي تصور المشاهد الطبيعية، غير أن تمثيله لها بأسلوب يجعلها تبدو أشبه بذاكرة يهددها النسيان، يحيل إلى محاولات الفنان القبض بصريًا على صورة فلسطين الريفية الأولى، قبل أن يمحوها الاجتياح الاستيطاني، ودمار الحرب من ناحية، والاجتياح العمراني، من ناحية أخرى. كما أن اللجوء إلى مساحات الطبيعة اللونية يجعل من هذه الأعمال عاملًا في إحداث التوازن النفسي والبصري، داخل سجن يحيط به جدار إسمنتي، ووسط ما تخلّفه الحرب من دمار.

لبحر غزة، كذلك، حيّزٌ في أعمال معتز نعيم، فيحضر بشاطئه ومينائه وسفنه في العديد من اللوحات، بأسلوب يقترب من التجريد أحيانًا، ويعتمد التدرج في اللون، ويبتغي تناغم العناصر البصرية في اللوحة، ويُدخل الرائي إلى عالم لوني من الأزرق وتدرّجاته.



المخيّم

"المخيم"(50*60 سم/ زيت على قماش/ 2014) 


تكتمل رؤية الفنان حول المكان بمجموعة أعمال يصور فيها المخيم، بحيث يبدو كحيّز جغرافي يعبّر عن "المؤقت"، و"الطارئ"، و"اللا تجذّر" في الوعي الجمعي الفلسطيني، إذ يبقى ساكنوه في انتظار عودتهم إلى قراهم ومدنهم قبل التهجير. يصور الفنان اكتظاظ البيوت الفقيرة المميزة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، والاكتظاظ سمة غزة المحاصرة أيضًا، والتي تبدو وكأنها تعيش في "المؤقت"، و"الطارئ"، كما هي حال المخيم، إذ تنتظر منذ سنوات الانتقال إلى واقع أكثر أمنًا واستقرارًا.



القدس

"القدس" (120*110 سم/ زيت على قماش/ 2016) 


تحضر القدس في أعمال الفنان بقبّتها الذهبية التي تطلّ من خلف السور القديم، يصورها كمدينة راسخة في القِدَم والأصالة، لا تلقي لتعاقب عقود الزمن والاستعمار بالًا، وهكذا تبقى صورتها في المخيّلة الفلسطينية. في أحد الأعمال، تتجه الجماهير نحو القدس رافعة الأعلام الفلسطينية، وبذلك يعلن المكان هويته الفلسطينية، كما يعلن أزمته المتمثلة في محاولات سلب هويته، وما يقابلها من دفاع مستمر عنها.

في أعمال أخرى، تتوغل أعمال نعيم بشكل أكبر في الأزمة المحيطة بالمكان الفلسطيني، كما في عمل يستلهم أجواء الحصار والمواجهات شبه اليومية بين الشبان الفلسطينيين وجيش الاحتلال، يصور العمل فتى يواجه برجَ مراقبةٍ عسكري قائمًا في جدار الفصل، بينما يحيط الدخان والنار بالمكان.
يبدو المشهد الطبيعي في أعمال الفنان أشبه بذاكرة تحاول الإبقاء على هوية المكان الأولى، هوية ما قبل النكبة، قبل هدم بيوت القرى المنتشرة على سفوح الجبال، لبناء مستوطنات تتلاصق بيوتها وتتمركز على قمم الجبال، لاعتبارات "أمنية عسكرية" شكّلت عقيدة الفكر الصهيوني. تَبِع هذه العقيدة أيضًا بناء الجدار والشوارع الالتفافية وإقامة الحواجز العسكرية، كأدوات استعمارية قسّمت وشوّهت المكان الفلسطيني.
بشكل عام، صور الفنانون الفلسطينيون في الشتات فلسطينَ بأسلوب رومانسي ميّزه الحنين إلى الوطن المفقود، بينما كانت صورة المكان الفلسطيني أكثر واقعية في أعمال الفنانين المقيمين في فلسطين. غير أن الفنان معتز نعيم نشأ في المكانين: في مخيمات الشتات، وفي الوطن ـ غزة المحاصرة، والتي دُمّرت عبر حروب ثلاث، وهو بذلك يحتفظ بصورتين عن الوطن وجدتا تعبيرًا عنهما في أعماله: الصورة الرومانسية الراسخة في مخيّلة فلسطيني الشتات، والصورة الواقعية المحاطة بالأزمة والحصار، والمستمدّة من معايشة الواقع في فلسطين وغزة.



ملامح إنسانية

"الشهيد إياد الحلاق" (80*100 سم/ أكريليك على قماش/ 2020) 


يعمل الفنان مؤخرًا على مجموعة لوحات تحت "عنوان "ملامح إنسانية"، وخلافًا لأعماله السابقة التي كان المكان محورها الرئيس، فإن الإنسان يمثل موضوع ومركز أعمال هذه المجموعة. يتناول الفنان في أعماله هذه الحالات الوجدانية العميقة التي تمر بها الشخصية الفلسطينية، وذلك في سياق الظروف التي تعيشها تحت واقع الاحتلال، وفي ظل تردي الواقع السياسي الفلسطيني والأوضاع الاقتصادية.

الكآبة هي العنوان الأبرز للشخصية الفلسطينية في تلك الأعمال، والتي تعززها الحالةُ العامة للشخوص والألوانُ القاتمة التي تسيطر على كثير من أعمال المجموعة. تبدو الشخوص فتيات وفتية ورجالًا ونساء وشهداء، وكأنها تنتظر المجهول، تحدّق في الفراغ، بملامح غير واضحة، أو شبه ممسوحة أحيانًا، منهكةً بالتعب ومُثقلةً بالهموم. غير أنه، وعلى الرغم من سيطرة الألم والكآبة على المشهد، إلا أن الحضور المركزي للشخصية في تلك الأعمال يُنبئ بقوة خفية ما زالت تتمتع بها الشخصية الفلسطينية. من بين هذه الأعمال واحدة تصور الشهيد إياد الحلاق، من ذوي الاحتياجات الخاصة، من القدس المحتلة، والذي كان قد ارتقى شهيدًا برصاص قوات الاحتلال العام الماضي.
مجموعة "ملامح إنسانية"، إضافة إلى أعمال معتز نعيم السابقة التي تتناول المكان الفلسطيني بمختلف تجلّياته، هي سيرة بصرية للمكان والإنسان الفلسطينييْن، تروي بشفافيةٍ، وبحسّيةٍ لونية وتكوينية ووجدانية عالية حكايةَ الذات، فرديةً وجمعيةً، في فلسطين، وعلاقتها مع المكان المتراوح بين ذاكرة الريف الجميل وواقع الحصار والمخيم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.