}

العالم السريالي لسلفادور دالي.. لغة رمزية للعقل الباطن والأحلام

سارة عابدين 11 مايو 2021
تشكيل العالم السريالي لسلفادور دالي.. لغة رمزية للعقل الباطن والأحلام
(سلفادور دالي)



"السريالية هي اللغة الرمزية للعقل الباطن، مع الأحلام والهلوسة والغيبوبة. هي حقا لغة عالمية لا تعتمد على التعليم أو الثقافة أو الذكاء"
(سلفادور دالي)

نشأت السريالية في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، كحركة أدبية جرّبت طريقة جديدة للتعبير تسمى الكتابة التلقائية، والتي سعت إلى إطلاق الخيال الجامح للعقل الباطن. بعد إطلاق بيان السريالية للناقد والشاعر أندريه بريتون، أصبحت السريالية حركة فكرية وسياسية دولية. تأثر السرياليون بالنظريات النفسية ودراسات الأحلام لسيغموند فرويد، والأفكار السياسية لكارل ماركس. اعتمد شعرهم ونثرهم على العالم العقلي لإنتاج صور مدهشة وغير متوقعة. تردّد الشعراء السرياليون في بداية الأمر في صف أنفسهم مع الفنانين التشكيليين لأنهم اعتقدوا أن العمليات العقلية الشاقة للرسم والنحت تتعارض مع عفوية التعبير غير المقيد، ومع ذلك لم يتجاهل بريتون وأتباعه الفنون البصرية تمامًا.


سلفادور دالي

في 11 مايو/ أيار تحلّ ذكرى ميلاد سلفادور دالي (1904- 1989) أيقونة السريالية الأشهر، وأحد أشهر شخصيات تاريخ الفن بشخصيته المثيرة للجدل وشاربه الأيقوني، وإبداعه المتفرد الذي امتد من الرسم إلى النحت وتصميم المنتجات، حتى أصبح علامة فنية مميزة جمعت بين الأسلوب الأكاديمي والموضوع الطليعي وأرست الأساس لأجيال من الفنانين في المستقبل.

أحب دالي خلق ضجة كبيرة حوله، واختار أن يكون فنانًا مثيرًا للجدل. وكانت للمال والدعاية الجماهيرية أهمية كبيرة بالنسبة له، حتى أنه ربما يكون الفنان الوحيد الذي قام بالدعاية التلفزيونية لعدد من المنتجات الأميركية والفرنسية وهو يهزّ شاربه المقلوب. ويعتقد النقاد أن دالي بلغ ذروته الفنية في العشرينيات والثلاثينيات من عمره، ثم أسلم نفسه بعد ذلك للاستعراض والجشع.

بذل دالي مجهودًا كبيرًا ليبعد نفسه عن جماعة السرياليين الآخرين في عصره. أدّى هذا في النهاية إلى استبعاده من المجموعة تمامًا. مع ذلك لم يكن دالي خائفًا من النبذ، ولم يمنعه من أن يصبح الأيقونة التي نعرفها اليوم، ولا أن يستفيد الفنانون منه في البحث عن الإلهام الحقيقي في الأجزاء المخفية من عقولهم.

دعمت نظرية فرويد محاولات دالي لخلق لغة بصرية قادرة على توصيف أحلامه وهلاوسه. حقّق دالي شهرة هائلة من خلال لوحاته التي تخلّلتها موضوعات مثل الإثارة الجنسية والموت، ما عكس إلمامه الكبير بنظرية التحليل النفسي. كانت نظرية فرويد مهمّة بشكل خاص بالنسبة لدالي الذي لم تكن حياته الخاصة بحاجة إلى أريكة المحلّل النفسي. سمّي دالي على اسم شقيقه الأكبر سلفادور الذي توفي قبل تسعة أشهر من ولادته. أعتقد والداه أن دالي كان تناسخًا لأخيه، ما جعله يشعر دائمًا بأنه ليس هو، بل ذكرى أخيه الأكبر المحبوب من الوالدين. توفيت والدة دالي عندما كان مراهقًا بسبب السرطان، وبعد أربع سنوات تزوج والده من أخت والدته.

"أدراج جسم الإنسان"/ سلفادور دالي 


تصاعدت الحياة الأسرية المضطربة لدالي مرة أخرى في عام 1929، عندما أطلق على إحدى لوحاته عنوان "أحيانًا أبصق بسرور على صورة أمي"، الأمر الذي أغضب والد دالي لدرجة أنه طرده من العائلة. تكمن هذه الأحداث في أساس لوحاته الأكثر ظلمة وإزعاجًا، ويظهر تاريخه الشخصي باستمرار في أيقوناته، حيث أعاد تصوّر أشياء من ماضيه لاحقًا على أنها أدراج مفتوحة وأطعمة متحلّلة وساعات ذائبة. قال دالي دائمًا "الاختلاف الوحيد بين اليونان الخالدة والوقت الحاضر هو سيغموند فرويد الذي اكتشف أن الإنسان مليء بأدراج سرية لا يستطيع فتحها سوى التحليل النفسي".

طوّر دالي في الثلاثينيات من القرن الماضي، طريقة جديدة لصنع اللوحات تتميّز بأوهام بصرية وصور مزدوجة يمكن تفسيرها بعدة طرق. يعد أشهر مثال على هذه التقنية لوحة "طبق فاكهة على الشاطئ"، وهي تمثّل وعاء كمثرى يظهر كجبهة امرأة، بينما المناظر الجبلية في الخلفية تشبه كلابًا بيضاء وبنية. تتحدى هذه اللوحة ومثيلاتها الجماهير في رؤيتهم الشخصية، وتجبرهم على فهم تلك التناقضات غير المنطقية.

بعد عقود من وفاته لم تتلاشَ شهرته، وأصبح شاربه المنحني أشهر مثال لشعر الوجه على الإطلاق، واستمرّت لوحاته في صدمة الجماهير بعد نصف قرن من إنشائها، في حين فقدت لوحات العديد من معاصريه قدرتها على الإدهاش.


بيان السريالية الأول

على الرغم من أهمية دالي في الحركة السريالية لكن الاكتفاء بذكر دالي يعني نسيان معاصريه، من فنانين وكتاب مثل أندريه ماسون، ولويس أراغون، وماكس إرنست، وأندريه بريتون، الذي نشر بيان السريالية الأول عام 1924.
عرّف بريتون الحركة السريالية بأنها "التعبير النفسي في حالته النقية، والتي يقترح المرء من خلالها التعبير عن الأداء الفعلي للفكر في غياب أي سيطرة عقلية دون اهتمام بالجمال أو الأخلاق بشكلهما الاجتماعي المعتاد". بتفصيل أكبر يرى بريتون أن الفنان يجب أن يكون منتبها للصور التي تظهر في ذهنه، بحيث يعيد تقييم الأشياء وفقًا لما هي عليه حقًا، وليس وفق سياقها المادي السابق. تتطلّب هذه الطريقة تحكّمًا في رؤى الفنان وأوهامه، بحيث يتمكّن الفنان من تحويل الهواجس والمخاوف والتخيلات اليومية الخاصة به إلى مفهومة للمشاهدين عند رسمها على اللوحة. هكذا صوّرت لوحات دالي الأفكار التي سبق تحليلها وانتقادها وأعاد صياغتها بشكل فردي، إذ يعدّ التحوّل المستمر للأشكال وتشويه الكائنات والجمع بين كيانين منفصلين في كيان واحد من سمات أسلوب دالي الفني. كانت هذه الصور المرئية المقلقة والغرائبية حاضرة في أعماله منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، والتي غالبًا ما تكشف معاني غير متوقعة.

أعضاء من الحركة السريالية: سلفادور دالي في الوسط (من الأمام) وأندريه بريتون إلى يمينه/ 1933/ باريس 


رأي السرياليون أن الأحلام بصورتها الواضحة، أو الأحلام تحت تأثير التنويم المغناطيسي، أو ذكريات الأحلام، كمستودعات إلهام لا تنضب للإلهام الفني. هنا لا يمكن أن تسود أفكار العقل والتفسير، ولا يزال الجدل دائرًا حول صعوبة نسخ الحلم على القماش من دون التفسير البشري له سواء من الفنان أو الجمهور.

فضّل بريتون الرسم تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وترك المنتج النهائي للصدفة، بينما رأى دالي الحلم كوسيلة لسبر العقل وبالتالي تحليله، لتصبح لوحاته رحلات داخلية وطرقًا تؤدي إلى عالم أعمق من الأفكار، عن طريق الاستكشاف كعملية فيزيائية.

تطور السريالية

أكثر ما يمكن أن يصدم المشاهد في الفن السريالي روح الدعابة، لكن تبقى السريالية حركة ولدت من رحم الدادائية، وهي حركة ترتكز على هجمات ثقافية متمرّدة بشكل فكاهي. في عشرينيات القرن الماضي كان يمكن للمرء أن يرى فنانين مثل ماكس إرنست وجوان ميرو وهم يستخدمون الألوان بجرأة وبهجة، مع التركيز على فصل عملهم عن أي معايير جمالية تقليدية واقعية.

أعطت اضطرابات الحرب العالمية الثانية السرياليين درسًا مهمًا عن تأثيرات الفوضى والخطر على العالم. بسبب الصراع الدولي انشقّت المجموعة الأصلية ما تسبّب في صراعات جديدة بين المجموعة. على الرغم من أن عودة أندريه بريتون إلى باريس بعد الحرب أدّت إلى مرحلة جديدة من النشاط السريالي، إلا أن الحالة المزاجية المحبطة بشكل استثنائي لفرنسا ما بعد الحرب، لم تكن متقبّلة للأهواء الشخصية أو السخرية، وبدلًا من ذلك تعرّضت الحركة لهجوم من أعضاء سابقين مثل تريستان تزارا والفيلسوف جان بول سارتر الذي دان تفاؤلها غير المبرر. مع ذلك استمرّت السريالية لتظهر مرونة حقيقية وانفتاحًا على المواقف والأفكار وحتى الأزياء السائدة.

"إصرار الذاكرة"/ سلفادور دالي 


جذبت السريالية الكتّاب والفنانين والمصوّرين وصانعي الأفلام من جميع أنحاء العالم، الذين شاركوا هذا الرفض العدواني للقيم الفنية والأخلاقية التقليدية، وسرعان ما تحوّلت إلى حركة دولية لها تأثير هائل على الحياة الثقافية للعديد من البلاد في سنوات ما بين الحربين وما بعدها.

يجادل الكثيرون بأن السريالية كحركة ثقافية محدّدة انتهت بوفاة أندريه بريتون عام 1966، بينما يعتقد البعض أنها لا تزال قوية وحيوية حتى اليوم. يجب هنا أن نفرّق بين كلمة سريالية التي تستخدم بشكل فضفاض لتعبّر عن الأحلام والغرابة وبين السريالية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفلسفة ومظاهر وجوهر الحركة السريالية.

بالرغم من أن السريالية نشأت في فرنسا، إلا أنه يمكن التعرّف عليها في فنون العالم، حيث انجرف العديد إليها، خاصة مع تزايد الاضطرابات السياسية والمخاوف من انهيار الحضارة الإنسانية. وأدّت هجرة العديد من السرياليين إلى الأميركتين خلال الحرب العالمية الثانية إلى نشر أفكارهم بشكل أكبر.

بعد الحرب العالمية الثانية تمّ تحدي أفكار مجموعة السرياليين، من خلال صعود الوجودية التي احتفت بالفردية أيضًا، لكنها كانت قائمة على أساس عقلاني أكثر من السريالية، وظهرت التعبيرية التجريدية ودمجت أفكار السريالية لكن مع تقنيات جديدة لتمثيل اللاوعي. أصبح بريتون مهتمًا بشكل متزايد بالنشاط السياسي الثوري باعتباره الهدف الأساسي للحركة، وكانت النتيجة تشتت الحركة الأصلية إلى فصائل أصغر من الفنانين. وعلى الرغم من أن السريالية بدأت رسميًا عام 1924 إلا أنها لا تزال حاضرة بقوة في الفن المعاصر، ويعتبرها بعض الفنانين ملجأً من التوتر والصراعات وطريقة لتجاوز سيطرة الوعي وإطلاق الحدس الداخلي كما كانت دائمًا، حتى مع تغيّر التقنيات الفنية المستخدمة.

 


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.