هذا التعدد من حيث مقاربة الواقع السوري فنيًّا يُقدّم في طيّاته مفهومًا مغايرًا للفنّ، إذْ أنّ انزلاق الواقع داخل اللوحة يجعل الإبداع الفني يأتي من الداخل، أيْ من الجسد المُحمّل بالألم والهزيمة، فتتبلور هذه الذائقة الفنيّة على شكل غضب، أو انفجار إبداعي. لكن الطريقة التي تُطالعنا فيها أعمال التشكيلي السوري ثائر هلال (1967)، منذ بدايات الألفية الجديدة، تُعطي الاعتبار للتجريد داخل اللوحة، وتجعل منه الفردوس المشتهى لعملية التخييل. ورغم أنّ فكرة الحرب لم تُؤثّر كثيرًا في أعماله الفنيّة الأولى الأكثر اشتغالًا على الطبيعة وعنفها، إلاّ أنّها تحضر بطريقة أو بأخرى على مستوى التركيب، وعنف المادة، وتمزّقات اللون، بحيث أنّ أعماله الأخيرة، التي بزغت بعد الربيع العربي، تبوح بحجم هذا التأثير على عناصر ومكوّنات اللوحة عن طريق تدرّجات المادة وقساوتها على سطوح اللوحة. ويبدو ثائر هلال كأنّه يبني عمارة قديمة بمواد أكثر قدمًا وارتباطًا بالأرض. حيث تأخذ عملية البناء بعدًا عنيفًا من أجل صياغة والتعبير عن كتلة من المشاعر والأحاسيس المُتناقضة والمتناحرة على سطح اللون. فهذا القلق العارم والمُتوّهج، هو ما يطفح على سطح اللوحة، وكلّما ارتفع منسوب الغضب من الواقع تزداد معه اللوحة سمكًا وحجمًا وثقلًا، لذا لا يستغرب المُشاهد لأعمال هلال من كبر حجمها، فحجم الواقع ونتوءاته داخل المادة تجعلها ثقيلة، ويدخل جسد الفنّان في عملية حرث ومقاومة لهذه السطوح البيضاء قبل أنْ يغمرها بإيقاعية متكرّرة وهج الألوان وتناقضها داخل الكتلة الواحدة.
تنتمي أعمال ثائر هلال إلى التجربة التشكيليّة السورية الجديدة، التي بزغ نجمها مع مطالع الألفية الثالثة.
درس هلال في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وتخرج فيها سنة 1991، وانتقل مباشرة إلى العمل والعيش في الشارقة. والمُتابع لمعارضه الفنيّة لا يلبث أنْ يكتشف حجم التجديد الذي فيه تنطبع أعماله التشكيليّة، ومدى قدرتها على التأثير في خصوصية الفنّ العربي المعاصر، بحكم ما تُقدّمه من أسئلة قلقة حول مصير الطبيعة داخل العالم المعاصر. إذْ رغم سفره المُبكّر من سورية، إلاّ أنّها ظلّت تسكن جسده بقصصها وحكاياتها وصورها وذاكرتها، ويعمل دومًا على إقامة نوع من النوسطالجيا الخفيّة والساحر معها. لذلك حين أرخت الحرب بلهيبها على البلد، بقي الفنّان يُتابع، عن كثب، ما يجول في الواقع السوري من أزمات وقلاقل وتصدّعات، ويعمل من بعيد، على أنْ يكون في خضم هذه المأساة المجتمعية، التي اجتاحت العالم العربي من خلال جملة معارض فنية، أقامها داخل عدد من مدن العالم، حصل فيها على عدد من الجوائز مثل: الجائزة الذهبية الكبرى في بينالي الفنّ المعاصر في طهران، وجائزة التصوير في بينالي الشارقة الدولي، الذي صوّر فيه ذلك التعسف السياسي والعسكري على الأفراد، لا سيما في معرضه الفردي "جيش نثق به"، الذي أقامه في السنوات الأولى من الربيع العربي، إذْ تحضر الحرب بشكل مباشر وعلني وصريح، فهو ينقل الألم السوري على سطح اللوحة، لكن من دون أنْ يتخلى عن طريقته الفنيّة في تركيب المادة، وتوليف ألوانها، مع أشكال وأدوات الحرب، التي يغلب عليها اللون الأسود، ليس كخيار فني، أو جمالي، وإنّما كحقيقة وجودية، يُظهر فيها الفنّان عتمة الحرب ومواجعها في ليل الجنون والمأساة.
إنّ الصورة الفنيّة في ذلك المعرض تبوح ولا تُضمر، تكشف وتنتقد ولا تُماري، إنّها لا تتستّر على الجرم المرتكب من لدن السلطة السياسية وتنانينها، لكنّ دون الوقوع في أيّ واقعية فجّة، بل يبقى حريصًا على موضوعه وعلى نسقه البصري التجريدي القائم على القبض على كل ما هو مرئي من حياة الناس وعيشهم داخل الاجتماع السوري. وبقدر ما حرص ثائر هلال على الوفاء للتراجيديا السورية ومُتخيّلها، فإنّ المُشاهد لأعمال معرضه الجديد المقام حاليًا في غاليري "أيام" يقف عند تحوّلات أنطولوجية بدأت تكتسح أعماله التشكيليّة، وتجعلها تتوغّل أكثر في مسارب اللوحة ومساراتها العصية على القبض، ومنها ذلك الارتباط القويّ الموسوم بأثر الانتقال الضمني من المرئي المُتمثّل في الحرب، بكل شفافيتها وعنفها، صوب القبض على اللامرئي، حيث غدت اللوحة تتّسم بالإيقاع، وأكثر تجريدية من ذي قبل.
لجوء ثائر هلال إلى تجديد هذا المنزع الجمالي التجريدي لا تُحرّكه باطنيًا الرغبة في اجتراح أفق جديد، مهما ادعى أيّ فنّان ذلك، لأنّ العوامل البرانيّة ومُؤثّراتها وسياقاتها التاريخيّة والسياسية والاجتماعية هي ما يصوغ مفهوم "الفعل" التشكيلي، ويُغذي معه داخليًا في جسد الفنّان رغبة الانتقال صوب معالم جماليّة أخرى. من المرئي بطابع رمزيّ عنيف يرصد فيزيونوميّة الحرب في سورية إلى سيرة اللامرئي الموغل في التجريد والأكثر وعيًا بتحوّلات الواقع داخل المادة، جعل الفنّان ثائر هلال يحوز لنفسه مكانة رائقة داخل الفنّ العربي المعاصر، إذْ نادرًا ما يعثر المرء على تجربة فنيّة أكثر غورًا وتمنّعًا بالنسبة للناقد، بحيث لا تُسعفه أدواته المنهجية وتاريخه الفنيّ ومفاهيمه الجماليّة من أجل تفكيك ما تحبل به لوحاته من مسرّات فنيّة على مستوى تخييل الواقع، بكل ما يختزنه من مواجع ونتوءات.
إنّ قراءة أعمال ثائر هلال هي من تفرض على الناقد طريقة المقاربة الجماليّة والزاوية الفنيّة، التي بها ومنها يبدأ. كل شيء في لوحات هلال يبدأ من الداخل، وفيه ينتهي، وما الواقع الخارجي إلاّ محرّك فلسفي يقود جسد الفنّان صوب منطقة اللاوعي والتخييل، إذْ في كل كتلة من اللون ثمّة واقع جديد يعبر عن الذي قبله، ويشتغل داخل سلسلة من الوقائع، وفي دوامة لامتناهية، فالشكل الظاهري ليس سوى المضمون وقد طفا إلى السطح، كما يقول فيكتور هوغو، لذلك يصطدم الزائر لمعرضه الجديد بركام هائل من الكتل الحجرية المتراصّة تارة، والمُتشظيّة تارة أخرى، على سطح اللوحة. إنّها لا تُؤكّد سوى حيرة الفنّان ورغبته في التلاشي والتماهي داخل مواده وألوانه، وكأنّ هلال ينزاح قليلًا عن جماليّات الطبيعة ليُرتّق هذه المرّة أوجاع الجسد وتاريخه الشخصي، عاملًا على استنفار الحواس، واستلاب العين، واستفزاز الحواس، عن طريقة تمزّقات اللون وما يقترحه من مفاهيم جماليّة لا شك أنّها لا تخرج عن موضع الذاكرة وترسّباتها، بحكم ما تلعبه من دور في عملية الخلق الفني لدى الفنّان، باعتبارها مرتع الأنفاس والصور والمشاعر والأحلام المُجهضة على سطح اللوحة ومكوّناتها الفنيّة.
*ناقد مغربي.