}

في الإغفال المُلتبس لتراث التصوير

أسعد عرابي 9 مايو 2021
تشكيل في الإغفال المُلتبس لتراث التصوير
أبو صبحي التيناوي: الرسم على الزجاج من الخلف
ربما يعدُّ العرب من أشد الشعوب تباكيًا على أطلال التراث، ومن أشدهم في المقابل تفريطًا بكنوزه. لا يقيمون وزنًا للموروث البصري المتمثل في صناعة (فن) تصاوير المخطوطات المعروفة باسم المنمنمات، كما ذكرها الشاعر عمر الخيام، مستقاة من رحم الحليات، أو زخارف نسخ القرآن والعلوم والترجمات والأدب والنصوص والسير والتفسير والتأويل.
تطورت زخارف (الأرابيسك): الرقش والتوريقات والتعريقات المطوقة لهوامش الآيات، لتتحول إلى أشجار فردوسية، تجتاح الهامش إلى المطلق، وتطور استقلال هذه التصاوير، حتى أصبحت تقص وتلصق في موقعها الرحب من النص، وقد تشغل الصفحات بكاملها. كما في الملاحم الصوفية بمثالها "منطق الطير" لفريد الدين العطار.

بهزاد أكمل الدين يصور نفسه وهو يرسم 


يرتبط، إذن، ازدهار التصوير بالورق والنسخ؛ ابتداء من ورق "الكاغد" (أي العملة الورقية)، هو الذي وصل العرب والمسلمين منذ عام 750 م، إثر "معركة تسالي"، التي انتصروا فيها على الصينيين، فافتدى الأسرى منهم حريتهم بكشف أسرار صناعة الورق (إضافة إلى الحرير والبورسلان). انتشرت صناعته في الأمصار الإسلامية، ليحل محل الطرق البالية، مثل الحجر، والعظام، وألواح الكتف الحيواني، والرق، وبعض أنواع البردي، والخشب، بتسارع حضاري مثل سريان النار في الغابات، وتطورت دور النسخ والتوريق والتوضيب والتغليف والتذهيب والأحبار والأقلام (من القصب)، حتى أصبح اسمًا يطلق على أحد أحياء المخطط الحضاري في المدينة التقليدية. ابتداءً من الكوفة والبصرة، مرورًا ببغداد ودمشق، وصولًا حتى الأندلس والقاهرة، وسواهم.



علينا أن ننتظر القرن التاسع الميلادي ليصل تصوير المنمنمات إلى فلسفته التشكيلية الروحية التنزيهية الخاصة، بحيث لا يمكن أن نخلط نماذجه بأصوله في الأيقونات السريانية، ولا بالبيزنطية. فقد عرفنا منذ نهاية القرنين العاشر، والحادي عشر، أسماء عباقرة يناظرون الخطاطين الكبار (مثل ابن مقلة، والمستعصمي، وابن البواب)، من أمثال المختص بمقامات الحريري (في بداية القرن الثاني عشر الميلادي)، وهو "محمود بن سعيد الواسطي" البغدادي، مختصر الاسم الأصلي، وهو يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن الواسطي، الذي صوّر خصائص مجتمع عاصمة العالم التي وصل عدد سكانها في ذروة العصر العباسي، مع بناء سامراء، إلى ما يقرب من المليون نسمة، تحولت خلالها "المدينة الفاضلة إلى فاسدة"، وفق تعبير ابن خلدون في "المقدمة". تصاوير الواسطي كانت مرآة ساخرة لهذه الفترة، مثله مثل ابن جنيد، ومحمدي (المصور ذو الأصل الصيني).

                                                          مخطوطة "يوسف وزليخة"، رسم بهزاد، في دار الكتب والوثائق القومية المصرية


لا شك أن التصوير تدهور مع سنابك هجمات هولاكو المغولية، وتحويل ديموغرافية بغداد إلى أهرامات جماجم من الرؤوس والحرائق والمذابح، وتدمير المكتبات وكنوز مخطوطاتها، حتى تحول نهر دجلة إلى لون المداد والأحبار عام 1258 م. فقأ هولاكو أعين المصورين الذين رفضوا مرافقته إلى مكتبة سمرقند، التي حفظت مئات من أمهات المخطوطات المصورة. كان هذا أول ضياع للتراث التصويري العربي الإسلامي، الذي نجت منه الأندلس، وبلاد الشام، بمصورها الميكانيكي المهندس الأكبر المدعو بـ الجزري، نسبة إلى منطقة الجزيرة. أما فريسك قاعة السفراء في قصر الحمراء فهو من البقايا القليلة لهذا الازدهار الغارب مع بني الأحمر. (الجزري هو بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز).



انتقل ازدهار تصاوير المخطوطات بعد أربعة قرون من فترة الواسطي إلى آسيا الوسطى، عن طريق النقابات الروحية للطريقة النقشبندية المتأخرة. الطريقة كانت مسؤولة عن تجديد الحرف، بما فيه صناعة المخطوطات والنسخ والتصوير والابرو وتطور أنواع الورق والإخراج والترقين والأغلفة والتذهيب والتلوين بألوان الغواش. تستخدم البلاطية منها بهرس بعض الأحجار الكريمة، مثل الجاد، والزمرد، والتركواز، وتطور أنواع الفراشي، وأقلام قصب التخطيط،... إلخ. وظهر أعظم مصور في تاريخ الإسلام، وهو بهزاد أكمل الدين، وتلامذته العباقرة، مثل الشيخ زادة، والميرعلي. ويرجع إلى النقشبندية فضل تعيين بهزاد نقيبًا على المصورين، الذي التحق بعد شهرته في هيرات بالبلاط الصفوي، وأشرف على مصنع المكتبة فيها وتصاويرها وأصول زخرفتها (ولم يكن صفويًا كما كان يشاع خلال إقامته في تبريز). تزامنت إضاءات التصوير والعمارة، وخاصة أغطية السيراميك والقيشاني، وفنون النار عامة، من الآجر والفخار، إلى زخارف المحاريب والقباب والمآذن من المواد المزججة ومرايا المصابيح والثريات، حتى بدت المدينة الإسلامية وكأنها دارة نورانية مغلقة. أقول تزامنت مع عصر النهضة الإيطالي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قبل أن تنتقل صناعة التصوير إلى المنمنمات العثمانية، خاصة في قونيا، مع النشاط الذوقي لمولانا جلال الدين الرومي (منمنمات سيرته ومضامين "المثنوية" والرقص والموسيقى المولوية)، وازدهرت في إزنيخ أنواع السيراميك، ثم الكيلم والسجاجيد الأناضولية، واستمرت صناعة المنمنمات في الجزائر حتى عهد "محمد راسم" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل وصول الانطباعية الأوروبية.

مخطوطة مقامات الحريري للمصور الواسطي 


تفرعت عن موروث تقاليد المنمنمات التصاوير الشعبية، خاصة في المغرب العربي وبلاد الشام، مثل أبو صبحي التيناوي، والتصوير على الزجاج من الخلف لسيرة بني هلال وعنتر وعبلة، وسواهم. ثم صناعة عرائس ومسرح خيال الظل، بعد أن وفد إلى الشرق الأوسط بأصوله الصينية مرتين، الأولى في القرن الثاني عشر، ومن أشهر المخايلين ابن دانيال، والثانية مع الفترة العثمانية، بما عرف "بخيمة كراكوز وعواظ" وعروضها التي اجتاحت (مع الطباعات الشعبية الملحمية) المقاهي والمجالس العامة، وتفرع عنها الحكواتي والقوالون الموسيقيون في آسيا الوسطى. استمرت تقاليد خيمة كراكوز حتى عام 1965 في جزيرة أرواد، فقد منعتها السلطة العثمانية (بفرمان الباب العالي) لانتقاد مخايليه النظام والوالي، وسواهم من المتنفذين.



الابتكار في صناعة المنمنمات

                                                               تصاوير مبكرة من المنمنمات الإسلامية في القرن العاشر أو الحادي عشر


إذا راجعنا مذكرة رحلات ابن بطوطة (خلال أربعة عقود)، وبالذات تجواله في ربوع الصين الشاسعة، نعثر على ثوابت إعجاب العرب والمسلمين بهذه الحضارة العريقة، هي التي أعطتهم الورق والأحبار والحرير وتزجيج البورسلان. يذكر ابن بطوطة أنه اكتشف ذات مرة أن صورته الشخصية مطبوعة على صحن طعام خلال دعوة غداء لأحد الأمراء، مما يشير إلى القوة المعلوماتية والفنية تجاه مراقبة الغرباء. ثم قاده إلى حدائقه، فظن رحالتنا المعروف أن أزهارها وفاكهتها ونباتاتها طبيعية، وإذ بها صنعت بكاملها من الأوراق الملونة. هو ما يذكر بعرائس خيال الظل (أو ظل الخيال) المصنوعة من الورق والأخشاب والكرتون، والتي تحولت إلى ملهاة حضرية في الأمصار العربية والإسلامية.
يقال بأن الصين اخترعت الطاوية، والطاوية اخترعت تصوير المناظر الطبيعية. إذن، الصين اخترعت التصوير ضمن مبادئ علاقة أفضلية الفراغ على الامتلاء، وتثبيت المنظور العمودي، حيث تلتقي الخطوط الهندسية في مقدمة الفراغ. وليس في الخلف عند الأفق كما هو في منظور ألبرتي في عصر النهضة الإيطالي.
إذن، كان هنالك منظوران فراغيان متعارضان، أضاف التصوير الإسلامي منظورًا ثالثًا مغايرًا هو منظور التنزيه المعاكس للتشبيه والمدعو بمنظور (السيمورغ)، أو العنقاء، أو الطائر.



بمعنى أن مصدر الرؤيا يقع في بؤرة القمة السماوية من الأعلى، لذلك هنالك تعددية في زوايا النظر (ترى الأشياء في المنمنمة من شتى الجهات، ومن دون تباين بين الظل والنور، لوجود تعددية في مصادر الإضاءة)، وهذا يعني أن طوبوغرافية التكوين تعتمد على بعدين فقط، وليست ثلاثية الحجوم، بعكس التصوير في "الفترة الغزنوية"، الذي يراجع المنظور الصيني الثلاثي الأبعاد. استقل التصوير العربي الإسلامي عن هذين المنظورين في عهد بهزاد، يقال بأن طاو (الاسم الأصلي للفيلسوف لاو تسو الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد) يصرح بأن "بداية الخلق كان الخط"، ويعارضه بهزاد في القرن السادس عشر ليؤكد بأن "بداية الخلق كان اللون".

منمنمة عثمانية متأخرة 


التأكيد على التدرج اللوني أكد على التنزيه، وعلى الارتباط بالموسيقى أكثر من الشعر. وإذا راجعنا كتاب أبي حامد الغزالي "البصر والبصيرة" وجدناه يتقمص دور القطب المصور ناصحًا أحد المريدين بأن يعتمد في تصويره على البصيرة، لأن البصر يخطئ سبع مرات في أوهامه، فيرى البعيد صغيرًا، والقريب كبيرًا، في حين تجدهما البصيرة متساويين وفق منظور "عين الطائر".

منمنمة تمثل غالبًا الإمبراطور المغولي في الهند 


تأثر العديد من الفنانين المعاصرين في أوروبا بقيم الفن الإسلامي الفراغية، وبما يتفوق على تأثير الاستامب الياباني على الانطباعيين. من أبلغ الأمثلة على ذلك هم معلمو هنري ماتيس، وبول كلي، خلال رحلاتهما إلى قرطاجة والمغرب والأندلس. ابتدأ التأثير من دفاتر أوجين دولاكروا الأندلسية، بل وأبعد من ذلك حين كان رامبرانت يستعيد تكوينات المنمنمات المغولية. إن أكبر معلمي الفن المعاصر خضعوا للتأثير "الأوبتيك سينيتيك" في شطرنج الألوان في تصاوير المخطوطات، من أمثال بيير بونار، وكوبكا.


* * *

راغب عياد - جواد سليم
لا يسترعي انتباه وحساسية الفنانين العرب الموروث الأصيل للمنمنمات، مع الأسف، ما خلا القليل منهم، ابتداء من راغب عياد منذ عام 1920 م في العهد النهضوي التنويري في مصر. يدمج عياد لأول مرة التصوير المختزل ببعدين ببعض رواسب التصوير الفرعوني، ليصل إلى لوحة تأسيسية بالغة الأصالة (تتفوق على زميله النحات مختار). وعلينا أن ننتظر تجارب الرائد العراقي جواد سليم في الستينيات، ليعيد استثمار الموروث الخصب لقيم التصوير العربي الإسلامي. ثم صعود أصولية وهم تحريم التصوير المفتعل، ودحضه من قبل مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده، بقوله الذي نقله الدكتور محمد عمارة: "لا يمكن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية معادية للفنون الجميلة"، ذاكرًا الالتباس أحيانًا في تحول المصطلحات. فكلمة "تصوير" تعني في عهد الرسول: الوثن مما استلزم التفريق بين الصنم والتمثال، لذلك حللت التصوير المذاهب الأربعة لدى السنة، وكذلك لدى الشيعة، بما فيها الاثنا عشرية، وسواها، ما عدا الشيخ النواوي في القرن الرابع عشر، الذي عاد وصحح خطأه اللغوي، خاصة أنه اعتمد على أحاديث ضعيفة. مع ذلك، لا توجد أية منمنمة في أي متحف عربي، في حين تتنافس المتاحف الأوروبية والأميركية على اقتنائها. فرسوم مخطوطة مقامات الحريري للواسطي (محفوظة بكامل صفحاتها في المكتبة الوطنية في باريس). تُستثنى في مصر مجموعة عمر خليل غير الرسمية التي تعانق مجموعة مشهورة منها "يوسف وزليخة" (وتكوين الأدراج المتاهي)، في دار الكتاب(*).



لا شك في أننا نحتاج إلى إعادة النظر في أعماق هذا الموروث المفقود (ما بين الأصولية والاستشراق). ومراجعة الخلط بين خطاب التحريم اللاهوتي والاجتماعي، بما يستجيب مع آخر مؤلفات أبي حامد الغزالي: "إلجام العوام عن علم الكلام" تجنبًا من الأحكام الفقهية المتعسفة تجاه الموسيقى والرسم. يؤكد جلال الدين الرومي: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص".


***


(*) إذا راجعنا القائمة المعلوماتية في دار الكتب والوثائق المصرية عثرنا على جزء من ضالتنا بخصوص رسوم المخطوطات منها: مخطوطة "يوسف وزليخة" للجامعي عبدالرحمن بن أحمد بن محمد الجامعي نورالدين؛ يرجع إلى مدرسة هيرات وتبريز في القرنين الخامس والسادس عشر للميلاد. ثم مخطوطة "بستان سعدي"، وتعود إلى تاريخ قريب من الأولى، موروثة من مجموعة أحد الأثرياء في عصر الخديوي إسماعيل، وألحقت بالدار لأهميتها وندرتها القومية العامة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.