}

نجوى نجّار في"بين الجنّة والأرض".. فراشة تغيّر أجنحتها

أشرف الحساني 22 يونيو 2021
تبدو المخرجة نجوى نجّار (1973) داخل السينما الفلسطينيّة مثل فراشة تُغيّر أجنحتها، مع كلّ فيلم سينمائيّ تشرع بالخوض فيه، إذ أنّ الصورة السينمائية لديها دائمًا ما تنزع نحو التجديد والصفاء والبحث عن عناصر بصريّة غير مألوفة داخل السينما الفلسطينيّة الجديدة، كمُحاولة اجتراح صورة سينمائية تحنّ إلى تلك البراءة الآسرة، التي تجعل من كل نمط صورة تخلو من شوائب بصريّة، قد تُكسّر من حدّتها وتجعلها غائمة أو بمثابة نشازٍ داخل اللقطات وتدرّج صورها داخل سلم المَشاهد، وهو ما نسميه عادة بـ"هندسة الصورة" حيث تغدو الصورة بمثابة بلورٍ مُتعدّد الأضلع، كل جزء يعكس قضية أو صورة واقعٍ. وهذا أمرٌ نادرٌ داخل السينما العربيّة قديمًا وحديثًا، لأنّ الأمر يتطلّب نوعًا من الكتابة السينمائية، التي تكتب بنفسٍ واحدٍ وعلى إيقاع يتيم لا يتغيّر، أشبه بترنيمة موسيقية أبديّة، كما نعاين ذلك في سينما المخرج الفرنسي جان لوك غودار.

لكنّ نجّار وبمحاولتها النزوع صوب هذه الطريقة في تشكّل صورها السينمائية، أتاحت لها ضمنيًا في أن تغدو من الوجوه السينمائية، التي راكمت متنًا سينمائيًا مغايرًا داخل فلسطين إلى جانب كل من مي المصري وآن ماري جاسر، فهي تحرص في كل عمل سينمائيّ جديد على أنْ تجعل من قضية الحبّ ذريعة للتوغّل في مسام واقع فلسطينيّ مأزوم، لكنّ بتفاوتات فنية كبيرة وبمعالجات بصريّة متباينة، بالمقارنة مع تجارب سينمائية أخرى. إنّ فرادة نجوى نجّار في أفلامها الثلاث تبدو واضحة المعالم والرؤى داخل السينما الفلسطينيّة، أمام التحوّلات الكبيرة، التي عرفتها هذه السينما في الآونة الأخيرة، والتي تجعلها أكثر السينمات داخل المنطقة العربيّة تأثيرًا في الإنتاج العربي، بحكم الجوائز والتتويجات والترشيحات، التي غدت تحظى بها السينما، سيما داخل الجيل الجديد، الذي لا يقف عند حدود التأريخ لفلسطين سينمائيًا، بقدر ما يعمل على تخييل قصص وحكايات وبلورة مفاهيم جمالية مُستلة من الواقع الفلسطيني وما يشهده من أهوالٍ وتصدّعات.

 نجوى نجار 


غير أنّ نجوى نجّار، وهي تعمل على الخوض جغرافيا وتاريخيًّا وفنيًّا وجماليًّا في الطوبوغرافية الفلسطينيّة، تظلّ حريصة على أنْ تمتطي سيرة المُتخيّل السينمائي، لا الوقوف عند سياجات اللّغة السينمائية المباشرة الفجّة، فيما يتّصل بفلسطين، أيْ أنّ عامل الخيال هو ما يُؤسّس شرعية أفلامها ويجعلها تخضع لمفاهيم الخيال والحلم والرؤية، عوض الأرشفة والتأريخ والتوثيق. على هذا الأساس، جاءت فيلموغرافيتها كنوعٍ من تجريبٍ فنيّ يهدف إلى إبراز طبيعة التغيّرات، التي ألمّت بالسينما الجديدة داخل فلسطين؛ بحيث أنّ قوالبها الفنية وطريقتها في تأطير مَشاهدها وتشذير حكاياتها وقصصها، تجعلها مغايرة بالمرّة عن الفيلموغرافيا الموجودة قبل الألفية الجديدة. هذا عاملٌ مهمٌ في نظري، من أجل فهم الأفق الجمالي المُغاير، الذي تشتغل داخله نجّار، والذي يرتكز على وسائط بصريّة مُتنوّعة وعلى فنون أخرى (الموسيقى) تتوسّل بها من أجل توسيع أفق اشتغالها الفني داخل الصورة. من ثمّ، فإنّ مظاهر هذا التجديد تنعكس إيجابًا على مستويين، الأوّل: تقني يبرز مدى تأثير التقنية في الجيل السينمائيّ الجديد داخل فلسطين، سيما لدى التجارب الواعدة، التي درست في الخارج وتأثرت بما تمنحه الجامعات الغربية داخل مقرراتها الدراسية لمثل هذه المسائل التقنية المرتبطة بالموسيقى الإلكترونية وتقنيات المونتاج وغيرها. أما المستوى الثاني، فهو يجد مصادر اشتغالاته الجمالية لدى نجّار في كونه يأخذ بعدًا فكريًا، فمفهوم الوسيط لديها، لا يقف ظاهريًا عند حدود التقنية، وإنّما ينزع صوب التجريب الفكري، تمتزج في خطابه البصريّ جملة فنون من أجل الحصول على صورة فنية مركّبة تتواشج فيها إيقاعات ذاتية مختلفة.

"بين الجنّة والأرض"

صحيحٌ أنّ فيلمها الأخير "بين الجنّة والأرض" (2019) الفائز بجائزة نجيب محفوظ للسيناريو والمُرشّح ضمن جائزة "غولدن غلوب" في دورة 2021، لم ينجح في اقتناص أيّة جائزة ضمن "غولدن غلوب"، إلاّ أنّ عملية الترشيح ليست سهلة، ولا تكاد تخلو من بعض تساؤلات حول جماليّات السينما الفلسطينيّة وقدرتها على التأثير في وجدان المُشاهد العالمي ونسج علاقة خفيّة معه، إذ رغم عوائق اللّغة المحكية استطاع "بين الجنّة والأرض" أن يضمن له ناصية كبيرة داخل مهرجاناتٍ سينمائية عالمية. ففي الفيلم ثمّة اشتغالات بصريّة مُكثّفة حول عنصر الذاكرة وإن بطريقة فنية يتوارى فيها المفهوم وراء الصورة، بالمقارنة مع فيلميها "المرّ والرمان" (2010) و"عيون الحرامية" (2014) اللذين ينهلان من الذاكرة نفسها، لكنّ بطريقة مباشرة. ومع أنّهما يشتركان في الهمّ الفلسطينيّ، غير أنّ عنصر "المشروع" السينمائي يبدو واضحًا في طريقة الحكي وفنيّة السرد وقدرة نجّار على التقاط تفاصيل صغيرة من حياة الفلسطينيين، خاصّة وأنّها لا تجعل صورها بمثابة شاهدة أو وثيقة تاريخيّة يرنو إليها المرء من أجل قراءة صفحاتٍ من التاريخ الفلسطينيّ المعاصر، بحكم أنّ أساسها ليس تاريخيًّا وإنّما تخييليًا، لأنّ التاريخ لا يحضر بالمفهوم الهيغيلي للكلمة، وإنّما فقط كترسّبات داخل واقع قلق. من ثمّ، فإنّ المُشاهد لـ"بين الجنّة والأرض" لا يلبث في اكتشاف المخرجة، وهي تحاول الحفاظ على نفس النسق البصريّ منذ فيلمها الأوّل، الذي يلحم مَشاهد الفيلم جماليًّا، وأيضًا على هاجس التجريب الفني البارز بقوة في فيلمها الأخير من خلال حكاية زوجين في الـ30 من العمر، إذ رغم زواجهما الذي دام لسنوات، فإن سلمى (منى حوا) تُقرّر طلب الطلاق من زوجها تامر (فراس نصار) على أساس "خلافات غير قابلة للتسوية". وفي سبيل جمع أوراق الطلاق، يصطدم الزوج بجملة صعوبات حالت دون تحقيق رغبة الزوجة في الطلاق وتتمثّل في ضرورة الحصول على وثيقة تتبث هوية والده، حتى يتمّ الطلاق.


في هذا السياق القانوني المُربك، تأخذنا نجّار في "بين الجنّة والأرض" للبحث عن الوثيقة، لكنّ هذه الرحلة المرّة، بدت وكأنّها عودة إلى الذات واكتشاف حجم الحبّ بين تامر وسلمى، أمام ارتباكات مرحلة تهدي سياسيًا ذاكرة تاريخيّة لا يكاد هسيسها يتوقّف وجرحها لم يندمل بعد. لكن مع انصرام الفيلم وتوالي مَشاهده الدرامية، يفطن المُشاهد بأنّ الرحلة ما هي إلاّ مجرّد عنصر تخييلي للحكي، إذ ستفتح الطريق للمُخرجة من أجل بوحٍ وجدانيّ، بعد أن أضحت القصّة تتّخذ مسارات كثيرة أكبر من كونها قصّة حبّ. بهذه الطريقة الذكية تتفتّح شهية الكاميرا وهي تلتهم كل دقيقة من فلسطين وتستعيد عوالمها جغرافيًا وتاريخيًّا وفنيًّا. ففي هذه الاستعادة التخييلية، يلتقي المُشاهد بصور محمومة بتفاصيل دقيقة داخل واقعٍ مرتبك. غير أنّ نجّار وبتوغّلها في تفاصيل هذا الواقع، لا تسقط في فخّ واقعية فجّة على مستوى محاكاة مآزق الراهن وإبدالاته، وإنّما تجعل منه فقط مادة تخييلية لصورة سينمائية موغلة في شعريّة الفضاءات وتجانسها وقدرتها على مقاومةٍ وصمود، لا يُجابههما إلاّ براعة المخرجة في تأطير مَشاهدها بدقّة وعناية وتواضع وبدون تكلّف أو تكرار.

إنّ أوّل استنتاج يخرج به المرء لحظة انتهاء الفيلم، هو أنّه يستحيل مقاربة المتن السينمائي لنجّار بمنأى عن مفهوم "التجريب"، فهذا المفهوم ذو النزعة التجديدية في حياة السينما في مختلف دول العالم لم يعُد هامشيًا، بل أضحى بمثابة مفهومٍ مركزي في حياة الصورة المُتحركة ومُؤسّسًا لمسار وتطوّر هذه السينما، لكونه واحدًا من أهم خصائصها الفنية، التي بها انطبعت وبمقتضاه أسست شرعيتها البصرية داخل مهرجانات عالمية إلى جانب أفلام غربية لها أهميتها من حيث ابدالاتها المفاهيمية وعناصرها الجمالية. لكن ما يجدر الانتباه إليه هو أنه في الوقت الذي ظلّ "التجريب" داخل السينما العربيّة يشتغل كمحرك أساسي من أجل بلورة الأفكار واجتراح مشروع سينمائي يتنصل من الرومانسيات والبكائيات، التي طبعت مسار السينما العربية منذ الخمسينيات إلى حدود الثمانينيات، نجد أن المفهوم لدى المخرجة، قد أصبح مجرد مفهومٍ إجرائي يدفع بالصورة السينمائية، حتى تُوسّع أفق دلالاتها من حيث الإبداع والتخييل بوصفه يخلق متعة بصريّة، لا تستكين إليها المخرجة كأساس يصنع قالب الفيلم جماليًا، بل فقط كعملية منهجية تجبر الصورة ضمنيا على الإقامة في تخوم اللامفكر فيه.

لقطة من فيلم "بين الجنة والأرض"


وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن ثمة خلطًا كبيرًا بين ما يسمى بـ"التجريب" الذي يأخذ ميسمًا فكريًا وبين ما اصطلح عليه داخل الأدبيات النقدية بـ"السينما التجريبية"، فالتجريب كما تتبناه نجوى نجار في فيلموغرافيتها، هو تعبير داخلي عن شعور ينتاب الجسد في لحظة الإبداع والخيال، والذي يقترن في ممارسته بمفاهيم الخلق والابتكار، أيْ أنّه نابعٌ بالأساس من ميثولوجيات ذاتية ورغبة آسرة تتنطّع صوب عملية ابتكار أشكال وصياغة أنساقٍ بصريّة وقوالب فنية، انطلاقًا من فنون أخرى، بحيث أنّ التجريب في هذه الحالة، يستند على قناعة ذاتية تروم إلى عملية تفجير مكنونات الصورة المتخيّلة باللجوء إلى هذا العنصر الجمالي المتمثّل في التجريب.

أما بخصوص الحالة الثانية (السينما التجريبية) فإنها تنبع من رغبة في اقتراح أساليب جديدة وأغلبها داخل العالم العربي، جاءت تفتقر إلى موهبة، لما يشوبها من غموض على مستوى اجتراح صورة سينمائية قادرة على التعبير عن هموم الإنسان داخل مجتمعه والقبض على فسحة وجوده داخل صورة متخيّلة، ما أفرز أعمالًا سينمائية مرتبكة البنيان والمعالم ولا تمت بصلة إلى مفهوم التجريب فلسفيًا، كما تبلورت أشكاله ونماذجه داخل أفلام غربية، استطاعت أن تنزاح قليلًا عن السياق العام، الذي تأسست فيه السينما ودحض كل التصوّرات والأفكار والدلالات والرموز، التي قامت بموجبها الصناعة السينمائية داخل المجتمع المغربي، وهو ما قدّم لنا تلك الأعمال الخالدة المنفلتة من قبضة التدوير السينمائي. لكن المُلاحظ، هو أنّ تجريب نجوى نجّار أخذ بعدًا فكريًا، بحيث أنّه يستند على أرضية صلبة واضحة المعالم والرؤى، فهو من جهة يُعمّق الشعور لدى المُشاهد بأهميّة التقنية ووسائطها البصريّة في صناعة مُتخيّل الفيلم سينمائيًا، ومن جهة أخرى سرعان ما تُبدّد جماليّات الحكاية والترقّب هذه الوسائط، صوب صور تغوص في ذاكرة فلسطين وتستعيد بعضًا من عوالمها وأناسها واجتماعها.

*ناقد مغربي

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.