}

توثيق الشقاء في بيروت.. الزمن حيًا في الصورة الفوتوغرافية

دارين حوماني دارين حوماني 29 يونيو 2021
فوتوغراف توثيق الشقاء في بيروت.. الزمن حيًا في الصورة الفوتوغرافية
(أهراءات مرفأ بيروت بعدسة ضيا مراد)

إذا كان آنسل آدامز عرّف التصوير الفوتوغرافي على أنه "شِعر متقشف ومتوهج عن الواقع" فإن ما نراه في معرض ضيا مراد "الطريق لإعادة التأطير The Road to Reframe" في "آرت هاوس" (بيروت) والمستمر حتى نهاية حزيران/ يونيو الحالي، هو سجّل شعري صامت ومتدفّق في آن واحد مع نزوع شديد إلى الحزن في تظهير صور اعترافية عن انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020. يمتلك مراد عدّة كاملة من الشغف ببيروت والخوف عليها، ثمة رغبة موصولة بالحزن لتوثيق الوقت قبل عبوره، فلم يتردّد في الدخول في الأزمنة والأمكنة التي سقطت فيما بعد بفعل حزنها. التقط مراد الزمن بعدسته الفوتوغرافية قبل أن تصبح الأشياء غير مرئية في وطن مسمّر في الهواء بعبثية مستعارة من احتمالات السقوط والخراب في كل لحظة، وملوّث بنزاعات الآخرين وبحصصهم بحيث لا مكان لديهم للشفقة عليه من الاختفاء.

أعمال المهندس المعماري والمصور الفوتوغرافي ضيا مراد لا تلتقط اللحظات وحسب، بل الزمن كله، مرقمة بعدد الطيور التي اتخذت من أهراءات مرفأ بيروت مسكنًا لها دون أن تعلم هذه الطيور ما ينتظرها من موت في هذه الوليمة العظيمة من حبيبات القمح والذرة المسمّمة بفعل الانفجار والتي تم إفراغها من الأهراءات.

جانب من الأهراءات وتظهر الطيور التي جذبها القمح 


في ذلك اليوم كان ضيا مراد في منطقة مار مخايل القريبة من المرفأ، دفعته قوة الانفجار عن الدراجة النارية التي كان يقودها، جُرح في أكثر من مكان، لكنه سريعًا وجد نفسه يلتقط صورًا فوتوغرافية للوجع الذي كان بدأ يراه حوله، كان كل ما حوله أصوات تصرخ وأخرى تنادي "طائرات تقصف". يقول مراد: "بدأتُ أصوّر دون أن أفكر إذا كنت سأعيش ليرى أحدٌ ما هذه الصور". لم يكن هدف مراد إقامة معرض، كان يصوّر في البداية لنفسه، لكن انضمامه إلى فريق المهندس الفرنسي إيمانويل دوران في 28 آذار/ مارس الفائت هو الذي شجعه. جاء دوران إلى لبنان في مهمة لدراسة مبنى الأهراءات باللايزر، وتقدير احتمالات ثباته أو سقوطه، ورافقه مراد في جولاته، لم يكن مسموحًا لأحد الدخول إلى موقع الانفجار أو تصويره. هذه الأهراءات كانت جدارًا عازلًا للألم بالقدر الذي تمكنت منه، يعلّق مراد: "لقد حمت نصف بيروت، كلما اقتربنا منها رأينا ضخامتها وأدركنا قدرتها على فعل ذلك، فهي مبنية من الباطون المسلّح. عندما دخلتُ المكان أحسستُ بأشياء لم تكن في وعيي سابقًا، وشعرتُ بالمسؤولية بأن عليّ أن أنقل ما أرى إلى العالم". عَمِل المصور الشاب القادم من منطقة بعلبك في توثيق تراث بيروت سابقًا، وكان شغفه عميقًا بمباني هذه المدينة المحمّلة بالنسيج التاريخي منذ القرن الثامن عشر فأخذ يصوّر ما تبقى منها بعد الحرب الأهلية وبعد أن امتدت قوة رأس المال المتوحش حين تم تغييب معالم بيروت بوحشية مفزعة أفقدتها هويتها.

أعمال مراد كانت بمثابة أرشفة لما تبقى من بيروت التراثية، في الأمكنة حيث لا يزال الزمن جالسًا على كرسي خشبي على الطريق ويحييك رافعًا يده لك كلما مررت، هناك يظهر لك وجه بيروت الحقيقي الذي كان مختبئًا من الحرب ومن أصابع سوليدير المسننة، لكن انفجار الرابع من آب هزّه حتى الصراخ. ضيا مراد هنا يقدّم لنا مفكرة أخرى عن بيروت يجمع فيها ندوبها بصريًا؛ ثمة رصد لألوان الصباح التالي ما بعد الانفجار، تبدو الأهراءات باللون البرتقالي، تبدو كأنها في مكانين وزمانين، في العالم الأرضي وفي العالم السفلي، كأن المياه في الصورة تتواصل مع الزيت ومع غبار التلوث بفعل الانفجار لتقدّم نسخة مصوّرة أخرى لنا عن الوجع.

قصر سرسق في اليوم التالي للانفجار


تُدخلنا الصور بين أعمدة الأهراءات التي تشبه أسطوانات عارية إلا من الوحشة في العملين "تسرّب الضوء" و"الفجوة السوداء". يتسرّب الضوء مكسورًا بالقدر الذي نبدأ فيه بالدوران حول فكرة الوجود وعدمه، والحياة والخراب، والشيء وضده. اختار مراد تركيب اللوحة داخل المعرض في غرفة ضيقة جدًا وعالية تمامًا كأحد أعمدة الأهراءات، وضع اللوحة في سقف الغرفة فدخلنا ننظر إلى السقف لنرى السماء من داخل أحد أعمدة الأهراءات كما رآها هو في الواقع: "أردتُ أن أنقل شعوري الذي أحسسته عندما دخلت الأهراءات". ثمة تواصل حسي يتدرّج من الألم الأول للحظة الانفجار حتى اللحظة التي انكشفت السماء لنا فيها من داخل الأسطوانة، كأننا إزاء منطقة عبور من الإنكسارات والخسارات مع مزيج رؤيوي من اعتراض على الموت وأمل ينبت هنا في الفراغ أعلى السقف، وكأن كل هذا الفراغ يقول "أنا لستُ فارغًا أنا مفتوح". 

رحلة الأهراءات لم تنتهِ بعد، ثمة صور ستأخذنا إلى صحراء ناميب في ناميبيا وستذكّر مراد بالهبوط الأول على سطح المريخ. ليست الرمال سوى حبيبات القمح والذرة التي جذبت الطيور المختلفة، وأنشأت أعشاشها في الداخل، وهي تموت تدريجيًا في اكتمال خادع للمأساة. مراد الذي بدأ يصوّر دون أي عدّة ذهنية لتمرير الصور إلى العالم، وجد نفسه وجهًا لوجه أمام قراءة تسجيلية ليس على غرار مصوري الحروب بل لظلال الحروب، كأننا أمام عناية صامتة بما تبقى من الأرض بعد القيامة. شيء ما يذكرنا بالنهايات التي تستحضرها الكتب المقدسة؛ يبدو مراد كأنه يضع نصًا كونيًا إلى أصدقاء خارج هذا العالم. "الشجرة الميتة" هي واحدة من مجموعة أشجار كانت مرصوفة داخل العنبر المتفجر، على بُعد مسافة قصيرة من الوجع، احترقت بالكامل لكنها لا تزال مكانها، "استخدم دوران هذه الشجرة كشيء ثابت في دراسته، فقد كان يكرّر زيارته للمكان ويعمل على دراسة الفروقات، وتبيّن له أن هذه الشجرة هي الشيء الوحيد الثابت في هذا المكان". وقريبًا من الشجرة نشاهد تجمّعًا للأحجار في صخرة واحدة كبيرة يعنونها مراد "أزهار الصحراء"، تشبه الهزيمة نفسها وقد تكتّلت كعلامة نافرة أمام الوجود، كأحد منجزات السلطة السياسية في لبنان.

 وضع مراد  اللوحة في سقف الغرفة فدخلنا ننظر إلى السقف لنرى السماء من داخل أحد أعمدة الأهراءات كما رآها هو في الواقع 


في صورة "دائمًا أبدًا" من الصباح التالي بعد الانفجار سنكون داخل "قصر سرسق" المطلّ على مرفأ بيروت والذي صمد منذ عام 1860 أمام كل الحروب التي مرّت على لبنان وأحدثت فيه أضرارًا بالغة فاحتاج ترميمه إلى أكثر من عشر سنوات، وهو الذي ودّع صاحبته الليدي إيفون كوكران (98 عامًا) إثر إصابتها بالانفجار حيث كانت داخل القصر. تختزل صور قصر سرسق حكايا أكثر من 600 مبنى ومنزل تراثي تضرّروا في الانفجار في هذا المربع الأثري: الجميزة- مار مخايل- الجعيتاوي- الأشرفية. داخل القصر هو داخلنا المثبّت بالحطام في بلد مفتوح على كل أشكال الأسى وكل شروط الحياة القاسية. سنكون أمام مكان لم يعد يغريه الكون، تم تحطيمه في جزء من الثانية تعادل خمسة عشر عامًا من حرب أهلية مدمرة أمنعت في تعذيبنا بالتدريج.

"غزة في بيروت"

"ما حدث لنا يعادل يومًا واحدًا في حياة الفلسطينيين"- يعلّق مراد على صورة "غزة في بيروت"، وهي تصوير مراد لصورة معلقة على حائط في منزل المراسل الصحافي في "وول ستريت" ديون نيسينبوم في بيروت، وكان صديق له قد قدّمها له، وهو مراسل صحافي في غزة. أُصيبت ابنة ديون نيسنبوم بالانفجار وتضرّر منزله بالكامل. هذه الصورة هي لفتاة تقف فوق حطام منزلها في غزة بعد القصف الإسرائيلي، لم يكن هذا المراسل الصحافي يعلم أن ابنته ستقف فوق حطام منزلهم في بيروت تمامًا كما تقف هذه الفتاة في غزة. لحظة تداخل بين غزة وبيروت في تظهير لنفس النيغاتيف من مكان آخر، بيروت بدلًا من غزة. هو عمل تأسيسي لوجهي المدينتين دون إضافات على غرار الفرنسي إرنست ميسونييه في توصيف مآسي الحروب تشكيليًا، عمل ينتمي إلى الوجود الفيزيائي للأسى العميق والرغبة في تخطي الحقيقة المشوّهة.

لوحة "غزة في بيروت"


في سيره على الطريق داخل الدمار، سيرى ضيا مراد وجهًا كبيرًا معلّقًا داخل فوهة في حائط في الطابق الثاني من أحد المباني، لم يُسمح له بالدخول ذلك اليوم، فصعد إلى المبنى المواجه وتمكن من التقاط الصورة ليظهر له أن هذا الوجه الذي يحتفظ بكلماته وصوته هو وجه جبران خليل جبران؛ "هذه الشقة كانت مكانًا لاجتماعات إحدى المؤسسات، وقد تم رسم وجه جبران بكلمات من قصائده، باعتقادهم أن وجه وكلمات جبران تمنح المجتمعين القدرة على التعبير". سقطت اللوحة فيما بعد، لكن مراد تمكّن من الدخول إلى الشقة بعد شهر والتقاط صور مقرّبة للوجه والكلمات عنونها "الأبدية" و"طريقة في الحياة". يضيف مراد: "هذه الكلمات على وجه جبران، برأيي، هي جزء صغير من الكثير الذي نحتاج أن نقوله ونُخرجه من داخلنا". صورة جبران خليل جبران من داخل فتحة الجدار لها صوت، مثل صوت محارة تُشعرنا بشجن البقاء في هذا المكان، وتُدخلنا في الأغوار غير المحسوسة فينا، تنبش تلك الأحاسيس الهشة التي نتجنب قلقها فإذا بها تستثنينا من الأمان لنكون في عالم متشظٍ يحتاج إلى إعادة التكوين.

"شبح العريس" هي أيضًا إحدى الصور التي تنقلنا إلى فضاء يتسع للموتى الذين منحتهم الحياة ما يكفي لتخليصهم من عتمتها. هي تصوير لأحد المباني المتضررة من الانفجار، ويعود بناؤه إلى سبعينيات القرن الماضي، تتدلى من إحدى شرفاته يافطة مكتوب عليها "عريس السما"، وهو أحد ضحايا الانفجار، يقول مراد: "كنت في المبنى المواجه لهذا البناء، أنظر إلى المرفأ، فإذ بي أرى شخصًا يمرّ من داخل إحدى الشقق، شعرتُ أن روح "عريس السما" لا تزال حاضرة ولا تريد أن تترك المكان، وكأنها عادت مثلنا لتتفقد الأشياء، وأن كل واحد منا كان من الممكن أن يكون هو عريس السما. كأننا كلنا أشباح نمرّ في هذا العالم دون أن نعلم إلى أين نمضي، وكأننا كلنا شخص واحد، هو هذا الشبح". تمنحنا هذه الصورة براءة اختراع الحزن على الضحايا دون أن نرى الجثث بأعيننا؛ إنه ذلك الحيّز من الشعور بالهاوية دون أن نكون بأجسادنا فيها، وخلفها يبدأ ضجيج صراخ الأمهات أمام رسول الموت وخطوات الإنقاذ المتأخرة عن تلك الثانية من الانفجار التي سيسمح لها التاريخ أن تصير حية وأبدية.

صورة جبران خليل جبران من داخل فتحة الجدار لها صوت، مثل صوت محارة تُشعرنا بشجن البقاء في هذا المكان، وتُدخلنا في الأغوار غير المحسوسة فينا



"يتحدثون أن اللبناني هو طائر الفينيق الذي يبقى صامدًا ولا يقع، هذا ليس شيئًا يمكن الاعتداد به، تُرمى عليه المصائب فيكمل المسير. منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بدأت الثورة، ولم يتغير شيء، بالعكس، كان الوضع أفضل بكثير، ونتمنى أن نعود كما كنا. ماذا يمكن أن نقول للمجتمع الدولي عن مسؤولينا، وعن موتنا التدريجي.."- ينتهي ضيا مراد بهذه الكلمات في جولتنا معه داخل المعرض. قد يصح أن نقول عن هذا المصوّر إنه مصوّر ما بعد الحروب، معه ثمة توريط شديد بالبكاء على الوطن في أقل قدر من الهتاف على الموتى، نشعر بهم دون أن نراهم في هذا المعرض الذي هو الأول لمراد ولن يكون الأخير في طريقه لتوثيق الزمن، الحجر، الهواء، الشارع، الشقاء، البكاء الداخلي، وأصوات الموتى الحاضرين الذين لا يزالون يمرون في هذا المربع التراثي يلقون التحية علينا، يقولون كلماتهم ثم يمضون كالمطر.

ضيا مراد في المعرض


لوحة "شبح العريس"


لوحة "أزهار الصحراء"

جانب من الأهراءات و"الشجرة الميتة"





الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.